الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الذات في فضاء الآخر

الذات في فضاء الآخر
14 أغسطس 2013 19:51
الكتابة باللغة الأجنبية منفى حقيقي للكاتب المنحدر من ثقافة وبيئة مغايرتين، فكيف يكون الحال إذا كان الكتّاب ينحدرون من بيئات ثقافية مختلفة، تختلف اختلافاً كلياً عن الثقافة الإنجليزية التي يكتبون بلغتها، حيث يغدو هذا المنفى مزدوجاً، أولا لكونهم منفيين ثقافياً عن لغتهم الأم وموروثها، وثانياً لأنهم منفيون لغوياً عن العوالم والشعوب التي يكتبون عنها، ما يزيد من شعورهم بغربتهم داخل اللغة وخارجها أيضاً. الأكاديمي والناقد الإيرلندي غاريث غريفش يتناول في كتابه “المنفى المزدوج/ الكتابة في أفريقيا والهند الغربية بين ثقافتين” (منشورات كلمة ـ أبوظبي) تلك الظاهرة في الأدب الذي قدمه مجموعة من كتاب أفريقيا والهند الغربية، كاشفاً عن الدور الذي لعبه هذا الأدب على صعيد تصحيح الصورة المشوهة التي خلفها الاستعمار عن بلادهم سواء لدى العالم أو لدى شعوبهم نفسها، إضافة إلى تحديد موقعهم وتمجيد هذه التجربة التي تقف وراء هذا الموقع الذي احتلوه. أهمية الكتاب تتجلى في اشتراك كثير من الكتاب العرب الذين يعيشون في الغرب وأميركا بالكتابة باللغة الإنجليزية، حيث استطاع بعضهم أن يحتل موقعاً مميزاً في الأدب الغربي، نال عليه العديد من الجوائز المعروفة، لكن ذلك لم يمنعهم من الشعور بتلك الغربة المزوجة التي يعاني منها الكاتب المنحدر من أصول غريبة في تلك البلدان. تعود تجربة الكتابة باللغة الإنجليزية من قبل الكتاب الأفارقة إلى القرن الثامن عشر، وفي القرن التاسع عشر صدرت عدة مؤلفات وفي العقود الأولى من القرن العشرين بدأ ظهور الأعمال الروائية والقصائد والمسرحيات، وإن تميزت بطابعها التجريبي على خلاف الأعمال الكثيرة التي كتبت باللغة الفرنسية. مهمة الكاتب الأفريقي يعتبر غاريت أن عام 1959 قد أرخ لبداية ظهور الأدب الأفريقي الجديد الذي سيكون بمثابة تمثل واع لحضارة عميقة وعريقة طمسها الإسقاط الحضاري الأوروبي أثناء فترة الاستعمار، حيث عمل هذا الأدب على تسجيل حقائق الحياة القبلية التي ضاعت خلف التفاصيل الكثيرة للعادات البدائية الأفريقية. وقد احتلت الرواية في هذا المجال موقع الصدارة ولذلك يقدم عرضاً وافياً لعدد من الأعمال الروائية والعوالم والقضايا التي عالجتها. من جهة ثانية يتخذ من أواسط ستينيات القرن الماضي بداية لظهور الوعي الذاتي بالدور المنوط بالكاتب الأفريقي من خلال النقاش الذي كان يدور في أوساط هؤلاء الكتاب وفي مقدمتهم التأكيد على سمو وجمال الثقافة التي تم تجاهلها أو جرى تشويهها من قبل المؤرخين المستعمرين. الكتابة الأفريقية باللغة الإنجليزية كان عليها منذ البداية أن تستمد موضوعاتها وقيمها من خلال قيم النضال من أجل الاستقلال، ما فرض على وعي الكاتب الأفريقي أن يبتعد عن الغموض في كتابته، وهو ما جعل المفهوم الجمالي لهذا الأدب يلتزم بالدافع الوظيفي للفن الأفريقي الموروث ومعارضته لمفهوم الفن للفن. ويرى غاريث أن الكتابة الأفريقية بالإنجليزية تمثلت في تيارين اثنين يركز التيار الأول منهما على المفاهيم الجمالية الموروثة بينما يستلهم الثاني الثقافة والصور والمفاهيم الموروثة ورغم ذلك يتطلع بنظرة مجردة تحمل مفاهيم ما بعد الحداثة، في محاولة للأخذ بنماذج الكتابة الغربية على صعيد البناء والأدوات في الكتابة. لقد أظهر التيار الثاني اهتمامه الواضح بالعالم المديني على خلاف التيار الأول. بين النظري والتطبيقي أهمية الكتاب تكمن في الانتقال من الجانب النظري إلى الجانب النقدي الاستقرائي لأهم الأعمال الروائية التي تمثل علامات فارقة في تاريخ الكتابة الأفريقية باللغة الإنجليزية ما يجعلنا نتعرف إلى الكثير من الأسماء والأعمال الروائية وأهم قيمها الجمالية والفكرية التي طرحتها في مسيرة تاريخ هذه الكتابة مثل الشاعر كوفي أورنو، والشاعر أو كيكبو، والروائيين آي كوي أرماه، وشنوا أشيبي، وول سونيكا وغيرهم الكثير. لا يكتفي غاريث بعرض نماذج من تلك التجارب بل يقدم قراءاته فيها كاشفاً عن أهم الملامح التي وسمت تلك التجارب، وفي مقدمتها غربة المبدع الأفريقي التي تجلت بصورة أكبر لدى الشعراء الذين وجدوا أنفسم أمام معضلة تستوجب حلها وتتمثل في الموروثين اللذين يتنازعانه، موروثه الأفريقي وموروث اللغة التي يكتب بها، إذ لهذين الموروثين مشاكلهما التي يتعين عليه حلها بأسلوبه الخاص. الناقد يستعين بقراءته النقدية لإظهار هذه المشاكل في النص الشعري الذي يكتبه هؤلاء الشعراء حيث تفقد الرموز والصور الموروثة جزءاً كبيراً من قوتها الإيحائية ومن العنصر التمثيلي والأدائي للأشكال الأفريقية الموروثة. رغم ذلك يمتدح الناقد العديد من التجارب التي استطاعت أن تقبض على جوهر الأشياء في نصوصها. كاتب الجزر الهندية تتبدى موضوعات الهوية والمكان كأهم شواغل الكاتب الأفريقي في منفاه المزدوج الذي دافع فيه عن تقاليده وهي الشواغل التي هيمنت على وعي الكاتب الهندي الغربي في منفاه المزدوج أيضاً باعتبار تلك القضايا هي التي شغلت هذا الكاتب، ولكن على نحو أعمق، نظراً لما يملكه الكاتب الأفريقي من تراث حي وهوية تاريخية في حين أن كاتب جزر الهند الغربية لا يملك سوى حقيقة وجوده المنفصل ولونه وعاداته لمعارضة قيم الاستعمار التي ورثها. لهذا الواقع أصبحت الكتابة عند كاتب هذه الجزر بمثابة كفاح لتأكيد واقع منفصل وقيم خاصة باعتبارها تتويجاً لخصوصية واقعه، خاصة وأن كاتب هذه الجزر عانى من العبودية التي سلخته عن جذوره وهويته الثقافية، الأمر الذي جعل الرواية عند هؤلاء الكتاب تعنى بالتفاصيل الخاصة بعالم الطفولة والمراهقة وبرحلة الفرد نحو امتلاك وعيه وكفاحه من أجل فهم أكبر للذات والعالم الذي يعيش فيه. إن حالة الاغتراب التي تعيشها شخصيات تلك الرواية هي تعبير عن اغتراب الذات في ظل نظام ثقافي وتعليمي أوجده الاستعمار من أجل الحفاظ على وجوده في تلك الجزر. وهكذا يكشف الناقد عن الخلفيات التي جعلت الكاتب في هذه المناطق يعيش نوعاً من الصراع، وهو يحاول اكتشاف شكل يمكن أن يساعد الناس هناك على معرفة أنفسهم والتعرف إلى بعضهم البعض، الأمر الذي جعل العمل الأدبي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بواقع الصراع السياسي من أجل تحقيق الاستقلال. يلح الناقد في دراسته للرواية بصورة خاصة على استكشاف تجليات هذه القضايا والأفكار والهواجس في الأعمال الروائية التي كتبها أهم كتاب هذه الجزر باعتبارها تعكس الوعي الجمالي والهم السياسي ورؤية الكاتب من أجل الوصول إلى تشكيل وعي ذاتي أكبر وهوية أصيلة تعبر عن واقع تلك الجزر وطموحات شعبها وهو ما يتجلى في التركيز الواضح والواسع على الجانب الاستقرائي في هذه الدراسة كما كانت الحال في دراسة أدب المنفى الأفريقي. البحث والتجريب في بحث الأفريقي والكاريبي عن شكل جديد للكتابة يعكس الاهتمام العام بدت تلك التجارب أكثر تشعباً واختلافاً في أطروحاتها الثقافية مما ساهم في تعزيز توجهاتها نحو تطوير الأشكال التي ورثوها عن أوروبا وأميركا لأن الأشكال الجديدة للأدب الأوروبي والتي هيمنت طوال القرن العشرين وضعتهم أمام وعي جمالي جديد يدفعهم باتجاه الاهتمام بالجماليات الموروثة للقيم الاجتماعية للأفارقة والكاريبيين ما عزز التوجه نحو البحث والتجريب، حيث يركز البحث هنا على الأعمال المسرحية، لاسيما أعمال الكاتب النيجيري وول سونيكا الذي سعى إلى توظيف الأشكال الاحتفالية والطقوس السائدة في المجتمعات الأفريقية في تلك الأعمال.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©