الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

... يحبون الحياة في أبوظبي

... يحبون الحياة في أبوظبي
17 أغسطس 2011 23:04
في رواق طويل ممتد بعيداً، وثمة التفاف في نهايته إلى قلب البناية المرمرية زينت الجدران بأعمال تشكيلية في قواطع نطلق عليها أجنحة، حيث يأخذك الرواق إلى أبعد من حدود الرؤية، يأخذك إلى عالم روحي مليء بالتحولات، وما بين جدارين تسير متلفتاً كي ترى الجمال، بل ترى الأجمل والأكثر جمالاً وربما في داخلك تبحث عن شيئين أولهما الخارق، والمدهش والصادم وثانيهما تبحث عن المغاير والمختلف واللامألوف أو المألوف الغريب من وجهة نظر أو زاوية رؤية الفنان. أعمال متعددة وأفكار أكثر تعدداً ومناهج ومدارس وأساليب، ورواد ومبدعون وشباب لايزالون على الطريق غير أنهم يرددون كلمة الفن الكبرى “إننا نحب الحياة”، مبدعون كبار يجاورون شباباً وكلاسيكيون إلى حد الانضباط يجاورون تجريبيين وحداثيين وواضحون إلى حد الانكشاف يجاورون غامضين إلى حد الإغراق في الغموض، تكعيبيون يواجهون انطباعيين، وتجريديون يواجهون واقعيين إلى حد الالتزام بأنماط لا يحيدون عنها. في الرواق نبصر ألواناً وصناعة، ولحظات فرح الفرشاة وهي تنشئ نصاً لونياً وشكلياً بارعاً، في الرواق نبصر أشكالاً لا تتقاطع، أشكالاً تؤكد أن الحياة فن وأن الفن لا حدود له، في الرواق نبصر البورتريه والطبيعة والعالم المرمز والعالم الواضح والعالم الممزق والعالم المنسجم. كل ذلك نجده في المعرض الوطني للفن التشكيلي لعام 2011 الذي افتتحت دورته الخامسة في أروقة بناية نادي ضباط القوات المسلحة بأبوظبي. تصدرت المعرض لوحة رسمت عليها صورة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله وأخرى تجاورها لصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله ولوحة للفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة ولوحة لسمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير شؤون الرئاسة. وفي جميع هذه اللوحات التي نفذتها محبوبة فرحاني وشرف الدين محمد نرى دقة الملامح وبراعة التنفيذ واستخدام اللون الأمثل بما لا تحيد الرسمة عن الواقع، مما يدلل على مدى الجهد الذي بذل في الاشتغال على هذه الأعمال. المعرض صورة للفنون التشكيلية التي تتجاور مع التصوير الفوتغرافي والخط العربي والنحت. تداخل الفنون توزع المعرض بين أربعة أقسام، ضم القسم الأول الأعمال التشكيلية والفوتغرافية وضم القسم الثاني حروفيات وخطاً عربياً وضم القسم الثالث أعمالاً نحتية وفراغية علق قسم منها على جدران المعرض وبعضها الآخر احتل المساحات الأرضية وأروقة المعرض وضم القسم الرابع معرضاً مصغراً احتوى على 10 لوحات للفنان الإماراتي محمد الأستاد وحمل عنوان “قبور الشواطئ”. قدم كل فنان ثلاث لوحات فقط كحد أعلى للمساهمة بما لديه من أعمال وحاول كل فنان أن يختار الأعمال التي تمثل اتجاهه ورؤيته وأفضل ما لديه. كانت لوحات الشيخة فاطمة القاسمي تمثلاً واضحاً للتراث وكأنها تشير إلى ضرورة قراءة جماليات المكان، المكان وما يحيط به من عوالم، في لوحتها القلعة حافظت على دقة الزوايا وبراعة التفاف البرج والشبابيك والسياج الحجري والظلال تبدو أكثر وضوحاً وليس هناك أكثر من القلعة حيث لا إضافات تخرج النص عن دلالته، إنها لوحة مكرسة لكي تلتقط عالماً يريد أن يحكي حكايته، أما الألوان فهي متقاربة لا نشاز فيها كأنها لون واحد استخدم بكامل تدرجاته. في لوحتها الأخرى الصقر ثمة تناغم بين هدوء وقوة الصقر وصلابة الصخرة التي يقف عليها وما فيها من جزئيات تدلل على مدى التأني الذي استطاعت من خلاله فاطمة القاسمي أن تلقط هذا الترقب الذي استغرق الصقر مع إصرار من خلال مخالبه على اقتناص فريسة متوقعة. وتقترب فاطمة القاسمي في لوحتها الثانية من وجه الصقر لتسجل ما يدور وراء هدوء هذا الوجه، عينان مفتوحتان ومنقار ملموم وشيء ما وراء كل هذا، أما لوحة البرجيل التي نفذت عام 2011 فهي تجسيد حي لهذا البناء الفريد. قدم جناح عبدالرحيم سالم فناً امتاز به، إنه يلعب على الأشكال والألوان ليبدع نصاً قرائياً يمكن أن يدخل فيه التأويل مداخل متعددة، ويجاوره جناح الفنانة الدكتورة نجاة مكي في استخداماتها اللونية والشكلية المبهرة، حيث الاخضرار الفاتح الطاغي على لوحتها يحيل إلى البهجة إلا أن ما تريد اللوحة أن تنقله هو هذه الحركة العنيفة للجسد. الباحثة عن التجريب سبق لنجاة مكي أن قدمت التجريب بكل صوره وهي باحثة دوماً عنه وعن أشكاله التي لا تحد، فمن بين اشتغالاتها المهمة تمثلها للأحجام وتفسيرها الفني للمربع والمثلث ومدى مطابقة قراءتهما للمعنى. ويأتي جناح التشكيلية منى الخاجة ومحاولتها الترميزية واستخدام الأيقونات الموروثية والشعبية والتمائم والأهلة والقباب والمآذن والخزامى لكي تبني عالماً متعدد الطروحات مما يستدعي تعدداً في القراءات، إنه عالم كامل يهاجر في لوحة، عالم كامل يلتم مع بعضه وهو يعيش أجمل تجلياته وألوانه ورؤاه، إنها فنانة بارعة شكلت رؤيتها الخاصة وكأنها المغاير حقاً. ويأتي عبيد سرور ليقدم فنه الجاذب ويعقبه علي العبدان بلوحتين من أغرب لوحات المعرض، حيث وظف فيهما رموز لعبة البوكر “الورق”، أرضية بيضاء وثمة جسد أسود لورقة ثلاثية وأرضية بيضاء وثمة عين تبصر من داخل أيقونة البوكر، يحاول فيهما علي العبدان أن يبني عالماً مغايراً جمالياً في توازن واضح بين البياض والسواد في لوحة ورقة البوكر والبياض والأحمر في اللوحة الثانية. لم يغادر الفنان التشكيلي أحمد الأنصاري شيئين أولهما الواقع وثانيهما الموروث، فاشتغل بشكل حرفي على الواقع حيث صور شاطئ البحر وصياد يسحب شبكته في اخضرار لوني طاغٍ ومعاناة إنسانية خلاقة، والموروث حين صور مسجداً نطل عليه من باب قديم مفتوح وقد سلط ضوء اللوحة على قفل الباب المعلق والترصيعات المنحوتة في الباب الساجي. كانت لوحة الباب المفتوح مغرقة في الدقة اللونية وتوزيع الضوء والظل فيما بين بياض قبة المسجد ومنارته يطالعنا اللون القاتم للباب الساجي واللون الفاتح للقفل والمزلاج “السركي” الذي لم ينس الفنان أنه كان مرتداً إلى الخلف لأن الباب كان مفتوحاً. قدم محمد المزروعي نصاً تأويلياً اشتغل فيه على الماكس ميديا اطلق عليه “كآبة سوداء” وسيارات سوداء وأخرى حمراء ملصقة باللوحة، وحاول محمد المزروعي أن يقدم رؤية خاصة بفكرة لم يعلن عنها انها كآبة اللوحة التي تحس وتشير إلى ذلك من خلال الوجه الذي درج المزروعي على توظيفه في أعماله الفنية والتي يقرأ من خلاله الغرض الجمالي والمعنوي للوحة. حاول علي ماجد المنصوري أن يقدم البحر، بحارة وقوارب بعضها بعيد في العمق وأخرى قريبة إلى الشاطئ، وثمة موجة طويلة آتية إلى الساحل، بحارة آتون بعد رحلة صيد وطيور تحلق هناك مع الغيوم البيضاء، أمواج تجر أمواج وشباك زرقاء تسحب ورجال يصارعون شيئاً لا يرى. ويرسم ناصر أبو عفراء التراثيات، فانوس، شباك مغلق، امرأة منقبة في استغراق كامل للموروث الاجتماعي المادي والمعنوي. الواقعية والتجريد ويشتغل ابراهيم العوضي في عملين يمثلان مدرستين بعيدتين عن بعضهما تماماً وهما الواقعية والتجريدية باستخدام دقيق للألوان الزيتية، في لوحته الواقعية ثمة أشجار ثلاث وسط صحراء الإمارات يستظل تحتها مجموعة من الجمال وبدو مرتحلون، ثلاث أشجار خضراء في فضاء صحراوي، حاول العوضي فيها المواءمة بين الأرض والسماء في تمازج لوني تخترقه بقعة من الاخضرار مستخدماً الرمز الثلاثي كأيقونة شعرية وظفها بشكل لافت. أما لوحته الثانية فحاول فيها ابراهيم العوضي أن يجمع رموز حضارة الإمارات ويبني عليها أيقونات جمالية تحتل كل مساحة اللوحة، وتتعدد تلك الأيقونات الرمزية ما بين باب قديم وترصيعات متعددة عليه وشبابيك واخضرار وازرقاق يشيران إلى البحر والخضرة الطاغية، وكل ذلك يجري لدى العوضي بشكل مرمز حيث شراع القارب والنخلة والبرجيل والشبابيك المشبوكة بالحديد المتداخل. ومما يلفت النظر في المعرض أعمال علي حماد لياقت ومحمد النوري وسرمد الموسوي قدم لياقت عملين، أحدهما يمثل أزقة مدينة، حاول فيه أن يحافظ على عبق الماضي وجزئيات الأشياء ودقة اقتناصها وفي لوحته الثانية رجل العمامة الحمراء حيث استنطق بحق الشيء المهمش “العمامة” عبر لونها الأحمر القاني اللافت للنظر. المشابهة والمماثلة أما محمد النوري فقدم لوحة هي تكريس للجمال كله والتوظيف الأمثل للظل ومساقط الضوء، اسم هذه اللوحة “استراحة”، فيها رجل عجوز ماسكاً عصا، يلبس كوفية بلحية بيضاء يتكئ على جذع شجرة ويبرع النوري في خلق تناسق وتماثل موضوعي بين تجعدات وجه الشيخ وجذع الشجرة في مطابقة لونية بارعة، أما روح تأمل الشيخ التي بدت على وجهه وبعينيه تحديداً فإنها لغة بحد ذاتها، لغة تنقلها تلك اللوحة بصمت وكأن الرسام يجرنا إلى التساؤل الغريب “ماذا يتأمل هذا الشيخ؟ بل بماذا يحلم وهو في لحظة استراحته”. سرمد الموسوي هو الآخر يقدم ثلاث لوحات من المكس ميديا حيث التجريد والوجوه والسطوح تنشئ علاقتها بالجدار مع امتزاجها بالحروفيات والفتحات والتعتيق الموجود ببقع لونية في محاولة لتمثل الأسلوب السومري. ضربات فرشاة سرمد الموسوي تتحدث عن الكثير من الرؤى، أيقوناته تشير إلى الكثير من العناصر وحروفياته تحيل إلى الكثير من الأفكار أما مسطحاته المربعة الثلاثة البنية والصفراء والصحراوية فهي أرضية تمنح اللوحة أبعاداً لا حدود لها في التأويل في الوقت الذي بدا الأحمر أرضية حاملة لكل الرموز التي يحاول الفنان توظيفها. حسن أدلبي قدم عملين الأول بثلاثة وجوه والثاني شخوص بوضعيات متعددة ضمن مستويين قراءيين، مازج فيهما فن الكاريكاتير الذي برع فيه والذي يعتمد على التفاصيل الصغيرة والمهارة والخبرة في تحريك الأشياء داخل هذه الملامح التي تتدخل الذاكرة في تشكيل الأشخاص ضمن حالات تعبيرية مختلفة، كان حسن أدلبي عازفاً على وتر خاص به. الأعمال الفراغية في النحت قدمت خلود الجابري عملاً فراغياً وقدم محمد أبولحية عملين نحتيين من الحديد لشخص يقرأ وآخر يعزف وكلاهما جالس على كرسي من الحديد، أما حسن زكريا فقدم عملاً من السيراميك لحصان مطهم وحروفيات وأيقونات إسلامية وقدمت فاطمة محمد الشامسي كرافيك لأنصاف أكواب مقطوعة معلقة على جدار بلونين، الأبيض والمنقط بالسواد في تعاقب مثالي. في العمل الفراغي لخلود الجابري اشتغال على الذاكرة في استيحاء من الخشب المعتق المرمي على شواطئ البحر والذي عاش عشرات السنين حيث استطاعت أن تعمل منه نصاً فنياً مما جعلته يمتلك أهميته وخلقت من خلال استخدام الحديد أيضاً علاقة جمالية بين الحديد والخشب وبين المعدن والخشب حيث يشكلان حياتنا، بيوتنا ما يحيط بنا. نقرأ في العمل الفراغي للجابري روح الأشياء التي تحيط بنا، موتها، وجودها، تاريخها، أما عملا محمد أبو لحية فهما خروج كامل عن المألوف والمتداول حيث استخدم الحديد المجوف الناقل للمياه وصنع منه كرسيين الأول افترض أن قارئاً لكتاب يجلس عليه والثاني افترض عازفاً يعزف وهو جالس عليه، القراءة والعزف، جماليات أيقونية تنفذ من خلال رمزين، تلك هي براعة هذا الفنان حقاً. أما حسن زكريا فقدم نصاً من السيراميك لحصان يدير وجهه فيبدو خطمه بمنخر واحد وعين واحدة وهو مطهم بسرج مذهب، تحيط به حروفيات كأنها حدوات حصان، الباء والتاء والثاء، والعين وكلها حروف تسجل تاريخ وامتداد اللغة وصولات حصان جاهز، هذا التوزيع اللوني بين الأخضر والرصاصي والأصفر وشيء من الأزرق في ثلاثة حروف فقط هو الذي يعطي لوحة السيراميك جمالياتها. في جانب من الرواق الممتد طويلاً تطالعنا أجنحة ستة قدمت الخط العربي والحروفية العربية وهي أجنحة علي ندا وعدنان نور الدين ومحمد فاروق الحداد وحسام عبدالوهاب وإيمان محمد صالح وعدي إبراهيم. التماثل الحروفي تصدر الخط العربي لوحة للخطاط محمد مندي نفذت على أرضية ضمت الصحراء بجمالها المرتحلة والتلال بتموجها مع خط قوله تعالى: “أو لا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت” حيث مدّ محمد مندي الحروف مبتدئاً من أسفل الطرف الأيمن حتى أعلى الطرف الأيسر للوحة في تداخل نسيجي رائع ولعب على النون والألف المقصورة واللام والثاء. كتب علي ندا قول الرسول الكريم “صلى الله عليه وسلم”: “تصدق ولو بشق تمرة” على شكل الكمثرى بلون أحمر على أرضية صحراوية في تداخل جميل يوحي بالبراعة. أما عدنان نور الدين فخط “الرحمن على العرش استوى” بلون أسود على أرضية صفراء مع حلية مربعة مزخرفة بالأزرق المطعم بالأحمر الزهري، وحاول عدنان نور الدين أن يقدم توازياً ومماثلة بين الحاء والعين المكررة والمواءمة بين الشين والسين والرائين في الرحمن والعرش. في القسم الرابع “قبور الشواطئ” قدم التشكيلي محمد الأستاد تجربته في فن قبور الشواطئ في محاولة منه لتعزيز صداقته مع الطبيعة فهي التي تمنح الألوان للأشياء والعفوية في توزيع هذه الألوان، كما أنها تخلق مختلف الأشكال بشكل سريالي تارة وتجريدي تارة أخرى ورمزي أحياناً فتجعل من اللوحة متعة للناظر المتأمل الباحث في الخيال عن جماليات تأتي من عالم قبور الشواطئ وعفويتها. يرسم محمد الأستاد أشكالاً وحروفاً ويطمر اللوحة تحت رمال شاطئ البحر وحين يأتي المد يغطي ماء البحر الرمل وحين ينحسر يجف الرمل فينشأ الصدأ. يتخمر الحديد ويتأكسد فوق خامة الكانفاس المفرودة بالحجم الذي يريده الفنان وفي حفرة أشبه بالقبر وبعمق لا يقل عن نصف متر في الشاطئ بحيث يمكن طمرها بمياه البحر لفترة طويلة وحين تتعرض لحرارة الشمس والرطوبة والضغط والملوحة تتأكسد ويخلق الصدأ الذي تولد منه الألوان، تخلق لوحة فريدة بنسيجها وخيالها ورموزها وحروفها ودلالاتها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©