الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رينان.. المفترى عليه

رينان.. المفترى عليه
4 سبتمبر 2014 01:00
* بعد انتقال رينان من اللاهوت إلى الأدب ظهر لديه ميزان متوازن في تقييم القضايا العربية والإسلامية * اختار ابن رشد ليكون ميزاناً لانقلابه الفكري لأنه وجد عنده التوازن بين الغيب والواقع * أمام الاجتياح التتري والبربري ظهر رد فعل للتمسك بتقاليد الدين ومناهضة أي شيء خارجه * رينان يجعل الجفوة عن العلم في كل الأديان ولكن ذلك لم يشفع له أسيء فهم رينان في بداية النهضة العربية، فبعضهم قرأ عنه أنه من أنصار الفلسفة الوضعية، فصار حذراً منه، وبعضهم اطلع على رأيه بالساميين وتخلف العقل والخيال عندهم، فصار يبتعد عن قراءة رينان، وبعضهم لمس انتقاده المرير للسلطة السياسية في العهود الإسلامية فظن أنه يهاجم الإسلام. . . كل هذا أدى إلى ظلم الرجل في العالم العربي والإسلامي، خاصة بعد ظهور حركات الإسلام السياسي التي استغلت كل النقاط المثيرة لدى المستشرقين، في عملية الدعاية السياسية. ولا تدل آثار رينان أنه كان متطرفاً في أي شيء، وبالأخص بعد الانقلاب الذي حصل معه، وهو انتقاله من اللاهوت إلى الأدب، ظهر لديه ميزان متوازن في تقييم القضايا العربية والإسلامية. ويمكن اختصار هذا الموقف بجملة واحدة «احترام الإسلام واتهام الحكام». ورفعاً للظلم الذي أصاب هذا الرجل نركز على الانقلاب الذي حدث له، فجعله ينظر إلى الأديان نظرة إحلال، مثل أستاذه أوغست كونت، وينظر إلى حكام الإسلام نظرة اتهام. بالطبع من يحمل الحاكم على الدين، سيجعل رينان من المتعصبين، ولكنه في الواقع فصل بين التجربة الدنيوية والتجربة الدينية، وحكم على الأولى بالممارسة وحكم على الثانية بالقيم الروحية، من دون أي إساءة لأي دين. الانقلاب المتوازن قد تحدث انقلابات خطيرة من حادثة صغيرة. ففي العلم مثلاً شكلت صيحة أرخميدس «أوريكا» انقلاباً في فرضياته. ومراقبة الثمرة الساقطة شكلت انقلاباً مماثلاً في فكر العالم نيوتن حول الجاذبية. وملاحظة أنشتاين للقلب وهو ينبض دفعه إلى نظرية النسبية العامة التي تشخص الكون بالقلب البشري، وبأن له دورين: انقباضي وانبساطي. . . حدث مثل هذا الانقلاب في حياة رينان حين انتقل من دراسة اللاهوت ـ كان معداً ليكون كاهناً ـ إلى دراسة الآداب في باريس. ولم يخف رينان هذا الانقلاب، فقد تحدث عنه بلغته الخاصة في كتابه «ذكرى الطفولة والشباب» المعروف بالإنجليزية «ذكريات الصبا». والغريب أن دور أخته هنرييت كان كبيراً في هذا الانقلاب، مع أن النساء أميل إلى التسليم من التشكيك. وهناك خيوط عدة هيّأت لهذا الانقلاب. . . لكن كل هذا لا يثير، بل ما يثير أن انقلاب رينان كان متوازناً جداً، بعيداً عن التطرف أو أي عاطفة معادية لهذا المذهب أو ذاك. إنه لا يشبه بعض الانقلابات النسكية أو التصوّفية كأبي العتاهية أو سواه، بل هو انقلاب متوازن ومنسجم مع الثقافة التي اطلع عليها في تلك الفترة. ميزان الانقلاب يظهر ميزان رينان الفكري في أسلوب الكتابة الذي اتبعه بعد الانقلاب. كان قبل الانقلاب أسلوباً رومانسياً صرفاً، أدهش الشبان وأذهل أوروبا. كانت رومانسية لا تقل عن رومانسية شاتوبريان. وبعد الانقلاب استمر أسلوباً ساطعاً ومشرقاً ولكنه يرتبط بالوصف الواقعي. وبهذا الأسلوب عبّر عن الحقائق من غير جفاف فهو سلس عذب، من دون جفوة بينه والواقع. وحتى حين يطرح أشياء علمية نجد أسلوبه مضمخاً بالكلمات الأرجوانية، حتى تظن أن الرجل يلعب بك، فإذا ناقشت الأطروحة العلمية التي يقدمها وجدتها صلبة لا زيف فيها، ومتماسكة لم تؤثر فيها الكلمات المجنحة. ولكن لندع الأسلوب جانباً لأنه نتيجة وليس سبباً. إن السبب يعود إلى اطلاعه على الفلسفة الإسلامية، خاصة ابن سينا والفارابي وابن رشد. وبالطبع اختار ابن رشد ليكون ميزاناً لانقلابه الفكري لأنه وجد عنده التوازن بين الغيب والواقع. والكتاب الذي يظهر فيه هذا الميزان أو التوازن هو أطروحة الدكتوراه «ابن رشد والرشدية». وتكاد فلسفة ابن رشد الأرسطية تتركز في علاقة المادي بالمعنوي والمحسوس بالمجرد والدنيا بالآخرة والعقل بالدين. . . إنها فلسفة مشّائية مثل فلاسفة الإسلام المشائين، سوى أن له رأيه الخاص في علاقة الكون بالخالق، وربما كان كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال» أبرز الكتب التي تحقق فيها الموقف المتوازن، بحيث لا يتنكر للعلم، ولا يرفض الشريعة، بل يرى في الواحد تكملة للآخر. وعندما تقصى رينان تأثير ابن رشد في أوروبا ذهل لأن كل انطلاق الفكر الأوروبي برز من هذا التوازن الذي قام به ابن رشد. وتأكيد ابن رشد أن الخالق يدرَك بالعلم وليس بالشعائر الدينية الخاصة بالنشاط الروحي، أسّس لنهضة أوروبا، فالرجل لم يتنكر لدين، ولكنه احترم الواقع وجعل العلم من صلب التديّن. وحتى تتوافر أرضية للعلم طرح مسألة المادة طرحاً لم يعرفه المفكرون الذين سيقوه أو لم يربطوا بين العلم والدين مثل هذا الربط الذي قدمه ابن رشد. والمادة في عرفه أزلية، ويستدل على ذلك بالآية الكريمة «وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء»، فالخلق حدث من المادة الموجودة منذ الأزل، وما قوله تعالى «ثم استوى إلى السماء وهي دخان» سوى دليل أن الخلق كان من شيء، وليس من لا شيء. ولا نظن أن العلم الحديث جاء بجديد عما ورد في هذه الآية الكريمة، وما النظرية السديمية الشائعة اليوم بأوضح مما شخصته الآية الكريمة. الموقف من الدين بهذه الطريقة جعل رينان لنفسه ميزاناً، فمن جهة هناك نشاط روحي هو الدين الذي له تقاليده وأصوله من صلاة وتأمل ورغبة في الحياة الأبدية، ومن جهة ثانية هناك نشاط عقلي يتركز في المادة التي تحدث عنها ابن رشد، ولها تقاليد خاصة للبحث فيها أو عنها، بمعنى أن أداة البحث هي العلم وليس الطريقة التقليدية لأي دين. ومهما أوغل العلم في بحثه المادي فإنه لن يؤثر في النشاط الروحي للإنسان، ومعظم العلماء الذين كانوا قبل رينان- وبعده- كانوا في معظمهم من المؤمنين، بل نجد أن سعة العلم تؤدي في معظم الأحيان إلى رحابة التجربة الروحية. ولكن في عام 1883 نشر محاضرة في «مجلة المناظرات» Journal des Débates« كان ألقاها في السوربون بعنوان «الإسلام والعلم» وفي ظنه أنه يقدم خدمة لعالم الاستشراق الذي تكرس له. وانبرى له رجال الدين، من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسواهما، ما جعل له سمعة سيئة في العالمين العربي والإسلامي، واتهم بمناهضة الإسلام، حتى صار يضرب به المثل في التعصب المقيت. ولكن ماذا تحتوي هذه المحاضرة؟ إنها تنسجم مع الميزان الذي ارتضاه واعتمده لفكره وأسلوبه معاً، ففكره مؤسِس لما سمي فيما بعد «الوضعية المنطقية» في ألمانيا، خاصة حلقة فرنكفورت، وأسلوبه نموذج يكاد يكون مثالياً لأسلوب «الواقعية الرومانسية» الذي طرحه غوركي بعد الثورة البلشفية شعاراً للأدب الجديد، بغرض التخفيف من حدة التطرف والانجراف مع الواقع على حساب الفن. نظرته إلى الإسلام هي ذاتها نظرته إلى الدين، أي دين. وخلاصة المحاضرة أو المقالة، هي أن الإسلام كدين لا علاقة له بالنشاط الفكري الفلسفي، ولا بالنشاط العلمي، على غرار ما حدث في أوروبا تماماً، فما علاقة الكاثوليكية بغاليلي مثلاً، وما علاقة الإنكليكانية بفرانسيس بيكون، أو نيوتن أو دارون؟ إن الدين لا يتدخل في هذه الأمور، أي دين. وبما أنه مستشرق، فقد توسّع في شرح محنة العلم في الدين، خاصة في الشرق الأوسط. وجعل موقف الإسلام من العلم يمرّ بمرحلتين: الأولى من ظهور الدين وحتى القرن السادس الهجري، والثانية من القرن السابع الهجري وحتى اليوم. المرحلة الأولى تساهل وتسامح، ولكن المرحلة الثانية كانت متعصبة كل التعصب وتقف في وجه أي محاولة مهما كانت ضئيلة والسبب في رأي رينان يعود إلى الاجتياح التتري والبربري «وهي شعوب همجية متوحشة بلا عقل». فأمام هذا الاجتياح، أو هذه الهجمة الهمجية ظهر، كدفاع عن النفس، رد فعل للتمسك بكل تقاليد الدين، ومناهضة أي شيء خارج هذا الدين. ومن الأمثلة الإيجابية التي يقدمها رينان كتاب «مروج الذهب» للمسعودي، ويرى فيه أعظم الكتب التاريخية لأنه نظر إلى الدنيوي كنتيجة للدوافع الإنسانية وليس الدوافع الغيبية. وأما المثال السلبي الذي يقدمه فهو مقامات الحريري، الذي رأى فيها هرباً من السلطة الدينية، لذلك طفق صاحبها يطرح مسائل لغوية ونحوية من دون أن يقدم شيئاً من قضايا البشر. وهذه السطوة جعلت الكتاب يميلون إلى الزخرفة الكلامية والإمعان في التزويق والتفاصيل اللغوية التي ليست أكثر من بهرج لا طائل منه. نبذوا من ميدان السلطة فتسابقوا في ميدان اللغة. ردود عنيفة جاءت الردود عنيفة من أولئك الذين ربطوا بين الحاكم والدين، من دون تمييز بين التجربتين المادية والروحية. وسطوة الحكام ليست خاصة بالمشرق، بل وصف بها الكثير من الحكام الغربيين خلال التاريخ. وبدلاً من أن تقرّ هذه الردود بالسطوة، اعتمدت على المقارنة التي انحصرت تقريباً في الاضطهادين: الإسلامي والمسيحي، كأن الاضطهاد من حوامل الدين لا من عوامل السياسة. وخلاصة المقارنة أن الاضطهاد الإسلامي لا يقاس أمام الاضطهاد المسيحي، خاصة عندما ظهرت محاكم التفتيش بإجراءاتها المذلة للكرامة الإنسانية. فملحد، من أمثال الراوندي، لم يتعرض للموت، وإنما قامت في وجهه الاعتراضات ونوقش بالحجة والبرهان، في حين يكفي أن يشهد اثنان في محكمة التفتيش على أن هذه المرأة ساحرة لأنها لم تتل صلاة الشكر أو النوم حتى تحرق. وقد أشار رينان إلى إسبانيا بشكل خاص، ورأى أن سطوة الكاثوليكية منعت ظهور أي عالِم فيها، وربما حتى هذه الأيام. فرينان يجعل الجفوة عن العلم في كل الأديان، ولكن ذلك لم يشفع له. كل همه إبعاد عوامل التجربة الروحية عن الحدث الدنيوي عند البحث والتحليل، وأي حشر لعناصر التجربة الروحية في دراسة الواقع غير المنحاز يشل قدرة الربط بين عناصر الحدث العيني. إن اعتماد الردود على المقارنة، وهي صحيحة في استنتاجها، أوحى بصورة لا تنطبق على نهج رينان. هناك محاولات في مجال التجربة الروحية لإيجاد حل واقعي. لم يتعرض رينان لهذه المحاولات؛ لأنه لا يملك المقياس الوضعي للوصول إلى النتائج المرضية. وهو يعترف أنه لم - ولن - ينطق بكلمة ضد الرموز الدينية التي تحاول أن تجد حلاً للمشكلات غير القابلة للحل «فللإسلام جوانب جميلة من حيث هو دين، وأنا لم أدخل أبداً مسجداً دون أن تستولي عليّ عاطفة شديدة، هل أعلنها؟ إنها شعور بالأسف لعدم كوني مسلماً». أعطى رينان بتوازنه الدقيق ما لقيصر لقيصر وما لله لله. في كتابه «حياة يسوع» ينزع عن الليجندة كل ما علق بها من العجائب والمعجزات، ويدرس يسوع الأرضي الدنيوي، إلا أنه في إهداء الكتاب يستوحي تجربته الروحية فيكتب: «إلى روح أختي هنرييت النقية، التي توفيت في «جبيل» 24/ أيلول/ 1861». وجاء في هذا الإهداء «هل تذكرين وأنت تستريحين الآن في أحضان الرب، تلك الأيام الطويلة في «غزير» التي كتبت فيها وحيداً معك، هذه الصفحات التي من وحي الأماكن التي زرناها معاً؟». لكن معظم المفكرين الشرقيين أهملوا هذا الجانب الروحي، ولو عاملوه مفكراً حراً لاستفدنا من منهج جديد علينا، فربما تحركت مياهنا الراكدة وتمخضت عن نهضة مبكرة، جاءت بثمار كثمار النهضة الأوروبية التي تحدث عنها رينان. لكن لا بد أن نشير إلى أن فرح أنطون، ومن تلاه من المفكرين المنصفين عرفوا الخدمة التي قدمها رينان وتحدثوا عنها بتفاصيل دقيقة، وهو يحظى اليوم بكل اهتمام من يريد الاسترشاد بفوائد المذهب الوضعي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©