الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أكتب لكم من أفران!

أكتب لكم من أفران!
3 سبتمبر 2014 20:15
أكتب لكم من قمم الجبال. تحتي سفوح ووديان. حولي الجواري الحسان. ماذا يريد الشعب؟ القصة وما فيها أني تحولت مؤخرا إلى “كلوشار عالمي”: أي شخص هائم على وجهه في القارات والبلدان، لا قرار ولا استقرار، شخص لا يعرف أين سيكون غدا ولا أي منقلب ينقلبون. والـ”كلوشار” باللغة الباريسية هو ذلك الانسان الهامشي المنبوذ الذي يعيش على حافة المجتمع. لكن ينبغي الاعتراف بأني كلوشار مرفه الى حد ما لأني أطل من الشرفة على المساحات الخضراء. في هذه اللحظة بالذات إحدى “الغزالات” تلوح لي بيدها من جهة المسبح. أرد عليها بحرارة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وإذا حييتم بتحية فردوا التحية بمثلها أو بأحسن منها”. لكن بعد هذه المقبلات والبهارات، بعد هذه التوابل والفلافل، لندخل في صلب الموضوع. صحبة فلسفية كنت قد اصطحبت معي إلى مغرب الخيرات والجمال أعمال المفكر الفرنسي المحترم آلان دو ليبيرا لكي أستأنس بها في هذه العطلة الصيفية الساخنة بكل معاني الكلمة. وهو لمن لا يعرفه أحد كبار المختصين بالفلسفة العربية الاسلامية وفلسفة القرون الوسطى بشكل عام. وكان أستاذا لهذه المادة في كل من جامعتي السوربون وجنيف قبل أن يلتحق أخيرا بنخبة النخب ويصبح أستاذا في الكوليج دو فرانس، التي هي أعلى من السوربون. وهو معروف بحبه للعرب واعترافه لهم بالجميل. وهو شيء نادر في هذا الزمان. إنه يتحدث عنهم بكل مودة دون أن يحابيهم أو يتملقهم كما يفعل بعض الاستشراق. باختصار شديد فإنه يذكر ما لهم وما عليهم. ولا ينبغي أن ننسى أنه أحد الذين يساهمون في “ملتقيات ابن رشد” الدائرة في مرسيليا منذ عام 1994. فهو الذي دشن دورتها العشرين العام الماضي وقال منبها: “الإسلام مكروه الآن في فرنسا. انظروا موجة الإسلاموفوبيا. والفرنسيون ينزعجون عندما نقول لهم بأن العرب والمسلمين هم أصل النهضة الحضارية والنزعة الإنسانية في أوروبا. ولكن هذه هي الحقيقة”. نضيف: من أفضل من ابن رشد لكي يجمع بين كلتا ضفتي البحر الأبيض المتوسط ويدحض نظرية صدام الحضارات والأديان؟ ألم يكن هذا الفيلسوف العربي المسلم أستاذا لأوروبا كلها طيلة أربعة أو خمسة قرون متواصلة؟ ألم تكن مؤلفاته تهيمن على جامعات أوروبا من السوربون الى أكسفورد الى بادوا وبولونيا في ايطاليا؟ الخ. . الخ. . إنه أستاذنا وأستاذهم في آن معا. وبالتالي فحول فكره العقلاني المستنير يمكن أن نلتقي جميعا. إنه صلة الوصل بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط مثلما أن جاك بيرك أو محمد أركون هما صلة الوصل في عصرنا الحاضر. إعادة قراءة على أي حال بما أنني أعيش حاليا في بلاد ابن رشد العميقة فلا بأس من ذكر أبحاثه عن فيلسوف العرب والاسلام. والواقع أنه كتب عنه الكثير. وإذا كان هناك شخص يعرف من هو ابن رشد وما هي مكانته في تاريخ الفكر البشري فانه آلان دوليبيرا. أمامي الآن كتابان عن الموضوع: الأول هو عبارة عن ترجمة “فصل المقال” الى اللغة الفرنسية من قبل الباحث الجاد مارك جوفروا وتقديم مطول لآلان دو ليبيرا. والثاني بعنوان: “الاسلام والعقل. لأجل ابن رشد”. وهو يحتوي على ترجمات متنوعة لمقاطع من كتابي “الكشف عن مناهج الأدلة” و”تهافت التهافت”. وهنا أيضا نجد أن الترجمة مرفقة بمقدمة طويلة جدا لآلان دوليبيرا، مقدمة تبلغ 76 صفحة فقط! هكذا تلاحظون أنها وجبة فكرية دسمة جدا. ولولا أني أعيش في أجواء صيفية مريحة في أعماق المغرب الخالد، وعلى مقربة من مسقط رأس ابن رشد وأماكن استلهامه، لما استطعت هضمها واستيعابها. فيما يخص كتاب “فصل المقال” هذه هي الترجمة الثالثة له الى الفرنسية. قد تقولون: ولماذا كل هذه الترجمات يا أخي؟ ألا تكفي ترجمة واحدة؟ والجواب هو أن النصوص الفلسفية الكبرى كنصوص ابن رشد تحتاج الى العديد من الترجمات المختلفة لكي يستطيع القارئ الفرنسي أن يفهمها على حقيقتها، بكل أبعادها. هل تعلمون كم هو عدد الترجمات الفرنسية لنصوص كانط أو هيجل أو نيتشه أو هيدجر؟ أربع أو خمس ترجمات للكتاب الواحد وربما أكثر. وأحيانا يستشير المثقفون الألمان الترجمات الفرنسية لكي يفهموا النص الألماني! من يصدق ذلك؟ وأنا شخصيا أقرأ هنا الترجمة الفرنسية لكي أفهم نصوص ابن رشد العربية بشكل أفضل. فلغته أصبحت وعرة، قديمة، تفصلنا عنها مدة ثمانية قرون ونيف. وليس من السهل فهمها اللهم الا اذا ترجمناها الى اللغة العربية الحديثة. لا تضحكوا ولا تقهقهوا أرجوكم! لذلك أدعو الى تبسيط النصوص التراثية وتقديمها الى الطلاب العرب بلغة ميسورة على الفهم لكي يعرفوا أبعاد تراثهم الفكري المبدع. أقصد طلاب الثانوي والجامعات. هذا أيضا يدخل في اطار عملية التنوير الكبرى المرتقبة إن شاء الله في السنوات القادمة. الشيء الممتع في كتاب “فصل المقال” هو أنك تجد مقابل كل صفحة عربية ترجمتها الفرنسية. وعندئذ تقارن وتفهم النص بكلتا اللغتين. يضاف الى ذلك أن هذه الترجمة الرائعة مرفقة بعدد كبير من التعليقات والشروحات التي وضعها المترجم الباحث. وهذه أيضا تساعدك على فهم ما استغلق من كتاب ابن رشد الشهير. هكذا يكون البحث العلمي! هكذا تكون الترجمات الجادة أو لا تكون! علاوة على ذلك نلاحظ أن الترجمة مرفقة بملف كبير يستعرض فيه الباحث الفرنسي آراء المثقفين العرب بابن رشد بدءا من فرح أنطون وانتهاء بمحمد عابد الجابري مرورا بمحمود قاسم وزكي نجيب محمود والطيب تيزيني وآخرين. . أحب أن أضيف ملاحظة هامة: وهي أن كتب ابن رشد التي شهدت إقبالا هائلا من قبل مثقفي الغرب طيلة العصور الوسطى وصنعت نهضة أوروبا أهملت في ذات الوقت إهمالا شبه كامل من قبل العالم الاسلامي، الذي شغل بتكفير الفلسفة والفلاسفة. وهذا ما كان محمد أركون قد عبر عنه من خلال صرخته الشهيرة: “لماذا انتعش فكر ابن رشد كل هذا الانتعاش على الضفة الأخرى من المتوسط وبقي ورقة ميتة في أرض الاسلام”؟ الجواب على هذا السؤال يساهم حتما في تشخيص ما يحصل حاليا والدرك الأسفل الذي هبطنا اليه. انظر الخلافة الداعشية وسواها حيث الظلام المطبق ولا بصيص نور! العقلانية الفلسفية يرى آلان دو ليبيرا أن ابن رشد جسد العقلانية الفلسفية وكان منارة للغرب المسيحي من عام 1230 الى عام 1600، أي حتى ظهور ديكارت تقريبا. وكان أرسطوطاليسي النزعة بالكامل: أي واقعيا في الفكر لا مثاليا على الطريقة الأفلاطونية. ولهذا السبب هاجم ابن سينا بقدر ما هاجم الغزالي لأن ابن سينا كان أفلاطوني النزعة. نقول ذلك على الرغم من أن كتابه الشهير “تهافت التهافت” كان ردا مباشرا على كتاب الغزالي: “تهافت الفلاسفة”. وقد سمعت أستاذنا أركون أكثر من مرة يقول ما معناه: لقد جرت في القرون الوسطى مناقشة فلسفية من أعلى طراز بين ابن رشد والغزالي. وهي تستحق أطروحة دكتوراة كاملة لمناقشتها واضاءتها من كل جوانبها. وهذا أكبر دليل على مدى حيوية الفكر العربي في ذلك الزمان. ولكن أركون كان يضيف قائلا: لسوء الحظ فإن الغزالي هو الذي انتصر على ابن رشد لأن المسلمين كانوا قد دخلوا في عصر الانحطاط ولم تعد للفلسفة لديهم أي قيمة. وبالتالي فالغزالي لم ينتصر لأنه كان أقوى من ابن رشد فكريا وانما لأن الظروف كانت تميل لصالحه في وقت راح العالم الاسلامي يغوص تدريجيا في عصور التكرار والاجترار. في تلك اللحظة بالذات تلقفت أوروبا مؤلفات ابن رشد وراحت تترجمها وتدرسها وتستفيد منها لبناء نهضتها المقبلة. ولكن مطران باريس هاجم ابن رشد وفلاسفة العرب هجوما عنيفا في أواخر القرن الثالث عشر بطريقة مشابهة جدا لمهاجمة الغزالي لذات الفلسفة. وهذا يعني أن رجال الدين الأصوليين يعادون الفلسفة على الرغم من اختلاف أديانهم بل وحتى تكفيرهم لبعضهم بعضا. ان الفلسفة بالنسبة لهم تمثل العدو المشترك. ويرى آلان دوليبيرا أيضا أن ابن رشد في كتاب “فصل المقال” تحدث كفقيه أو كقاضي قضاة لا كفيلسوف. وكان هدفه الأساسي خلع المشروعية الدينية الاسلامية على دراسة الفلسفة. ولذلك ابتدأه بالكلام التالي بعد حمد الله والثناء عليه: “فان الغرض من هذا القول أن نفحص على جهة النظر الشرعي هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور أم مأمور به إما على جهة الندب وإما على جهة الوجوب”. وبالطبع انتهى في نهاية المطاف الى اطلاق الفتوى التالية: وهي أن دراسة الفلسفة شرعية بل وواجبة على المسلم القادر على ذلك. أكثر من ذلك فقد خلص الى القول بأن الفلسفة لا تتعارض مع الدين لأن “الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له” بحسب تعبيره الحرفي. هذا هو موقف ابن رشد الفقيه الكبير الذي كان قاضي القضاة في قرطبة مثل جده، ولذلك يقال ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد تمييزا لهما عن بعضهما البعض. ليت أن علماء المسلمين المعاصرين يقلدونه في حب الفلسفة أو “النظر العقلي في الموجودات” كما يقول. فلو أنهم قلدوه في ذلك لما جمد الفكر العربي الاسلامي وتحجر، ولما سبقتنا أوروبا التي كنا نحن أساتذتها يوما ما. ولكننا نعلم أن معظم الفقهاء الكبار الذين تلوا ابن رشد كفروا الفلسفة بل وكفروه هو أيضا وأمروا بحرق كتبه. وعندئذ أطبق الظلام على العالم الاسلامي بمشرقه ومغربه بعد موته عام 1198. وبموته ابتدأ عصر الانحطاط الذي لم نخرج منه حتى اللحظة! أخيرا أكتب لكم من افران وما أدراك ما افران. الطريق اليها ساحر فتان. . ليتك لم تصل في نهاية المطاف. ليتك ضعت في القرى والمزارع والبيوت. ليتك لا تعود!. .
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©