الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وقائع لقاءات وقصائد مع سميح القاسم

وقائع لقاءات وقصائد مع سميح القاسم
3 سبتمبر 2014 20:15
«أنا لا أحبّك يا موتُ، لكنّني لا أخافُكْ وأدرك أن سريركَ جسمي، ورُوحي لِحافُكْ وأدرك أنّي تضيق عليّ ضفافُكْ». ربّما كانت هذه الكلمات هي آخر ما أنشد شاعرنا الراحل سميح القاسم. العلاقة مع الموت، لا حبّ ولكن لا خوف أيضاً. العلاقة نفسها كان درويش قد رسمها على نحو مشابه منذ «الجداريّة». لم نَكَدْ نُنهي إحياء الذكرى السادسة لرحيل شاعرنا محمود درويش، يوم التاسع من أغسطس الجاري 2008، وبينما نستعد لإحياء الذكرى السابعة والعشرين لرحيل ناجي العلي اغتيالاً في التاسع والعشرين من أغسطس 1987، حتى دهمنا غياب ثالث الأثافيّ في شعر المقاومة، فهو ثالث الثلاثة الذين جرى تصنيفهم ضمن «شعراء المقاومة»، توفيق زيّاد ومحمود درويش وهو (القاسم نفسه). . وكأن شهر أغسطس هذا، صار سجلاً للخسارات وغياب المبدعين من أصحاب القامات العالية، من دون أن يكون الشهر الوحيد، فشهورنا وأيّامنا، وحتّى ساعاتُنا، كلّها خسارات. في الشهر العاشر من عام 2012، وفي معرض رام الله للكتاب، ووسط حضور لشعراء فلسطينيين وعرب، كانت لقاءاتنا مع سميح القاسم لأيام وليالٍ عدة، حيث كان مدعوّاً لتكريمه من قبل معرض الكتاب آنذاك، فحضر بعكّازه، مصطحباً بعض أفراد أسرته، وكانت علامات المرض والتعب لا تخفى على وجهه وجسده، لكنه كان «يكابر» ويسهر وينطلق في مناقشات وحوارات مطوّلة، من دون أن يجعلنا نشعر بما نعرف عن المرض الخطير الذي كان يأكل جسده بالتقسيط، لكن التعب، كما بدا لنا، لم يصل إلى روحه. كانت أحاديث تلك الليالي تنصبّ على الواقع العربي الجديد، ووقائع «ما يسمى الربيع العربي» كما كان يقول، رافضاً هذه التسمية، ومفضلاً حديث الانتفاضات، معلناً تفاؤله بما ستقود إلى من تحولات. فهو عدا عن كونه شاعراً على هذا القدر من الحضور والتأثير، سياسي ومفكر له رؤيته الواضحة والعميقة إلى قضايا الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وهموم الإنسان أيضاً، لذلك فهو جدير بالاهتمام والاستماع إلى «خطابه» المتماسك. متحدّث بلباقة ورشاقة جذابتين. لقاءات ودردشات في لقاءاتي به، منفردين أو مع آخرين، كان يشكو أن أشد ما يسبب له المرارة والألم، هو رفض بعض العرب وفلسطينيّي الشتات لقاءه، بحجة أنه إسرائيلي، ودرزي حيث الدروز يعتبرون «عملاء» للدولة الصهيونية، وأن اللقاء معه هو تطبيع مع العدو. لكنه مع ذلك كان يُستقبل في الكثير من المحافل والمنتديات الثقافية العربية. فقد كان سميح من أوائل الشباب الدرزي الفلسطيني الذين تمرّدوا على قانون التجنيد الإلزامي الإسرائيلي، فأسس حركة «الشبان الأحرار» لمناهضة السياسات الإسرائيلية أواخر الخمسينات، إلى جانب عضويته في لجان «المبادرة الدرزية»، و«حقوق الإنسان»، و«أنصار السجين»، و«اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي العربية». وحين عمل مدرّساً في بعض المدارس الابتدائية العربية، أمر وزيرُ المعارف الإسرائيلي بطرده على خلفية مواقفه المناهضة للاحتلال الإسرائيلي. هذه هي المواقف نفسها التي أدّت إلى سجنه مرّات عدة، ووضعه تحت الإقامة الجبرية. أحد لقاءاتي به، في فندق من فنادق عمّان، حيث كان ينزل هو ودرويش، ذهبتُ إليه هو تحديداً، بوعدٍ لإجراء حوار، لكنّي وجدته قلقاً يتمشى في ممر الفندق، ثم جلسنا، وقال إنه ينتظر صديقه درويش ليلعبا لعبتهما المفضّلة. قال لا أعرف من ألعاب الطاولة إلا لعبة «المحبوسة». أحبّ أن ألعبها مع أصدقاء ومعارف. ألعبها مع محمود ومع أدونيس، ومع صليبا خميس وحنا أبو حنا. . مع الأصدقاء المقرّبين، ألعب «الترنيب» (الوِست) من ألعاب الشدّة. يجتمع الأصدقاء ونلعب ونتسلى. في شبابي كنت أحبّ السّينما كثيراً. كنت أقول لمحمود: يوجد فيلم جديد. يقول لي: أنا أريد الذهاب إلى البحر. هو يذهب للبحر وأنا لمشاهدة الفيلم الجديد. كتبت زاوية في «الاتحاد» وقتها كان اسمها «سينَماذا». . كنت أكتب تعليقات عن آخر الأفلام التي كنت أشاهدها. وجاء درويش متأخراً، فنهضتُ وغادرت بعد أن صافحته. كانت علاقتهما قد بدأت تعود وتتجدد، مع الرسائل التي راح يتبادلانها بحب وعتاب وصراحة لا مثيل لها. . أطلق عليها البعض «رسائل شطري البرتقالة»، لما للعلاقة بينهما من وشائج متينة، فيما يصرّ البعض على أن العلاقة صبغتها روح المنافسة، ورفض درويش هذه التسمية. يبدأ درويش رسائله «عزيزي سميح. . وما قيمة أن يتبادل شاعران الرسائل؟ لقد اتفقنا على هذه الفكرة المغرية منذ عامين في مدينة استوكهولم الباردة. وها أنذا أعترف بتقصيري لأنني محروم من متعة التخطيط لسبعة أيام قادمة، فأنا مخطوف دائماً إلى لا مكان آخر. ولكن تسلل الفكرة المشتركة إلى الكثيرين من الأصدقاء تحول إلى إلحاح لا يقاوم» (باريس 19/5/1986). ويرد سميح: «أخي محمود، إذن، هكذا نكف قليلاً عن عبث الغربة، ونخترع لأنفسنا لقاء ما. وها أنت منذ رسالتك الجديدة (لماذا تسميها رسالة أولى؟) تقترح بذكائك الذي أعرفه، قاعدة للعبة، وكأنّك لا تعرف أخاك في عناده (برج الثور) وشهوته الفادحة للعب بالقواعد، نحن مطالبان بألا نشوه صورة نمطية أعدتها لنا المخيلة العامة». (حيفا 22/61986). كانا يريدان القول إن ما جمعهما ويجمعهما، البيت ومقر الحزب وجريدة «الاتحاد» والسجن والشعر ووو، أكثر بكثير مما يفرق بينهما، فقد مضى زمن طويل منذ خروج درويش وقصيدة سميح الشهيرة له «إليك هناك في بيروت/ إليكَ إليك حيث تموت». وكانت المحطة الأخيرة في هذه العلاقة، القصيدة الرثائية من سميح لدرويش: تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني ووزرِ حياتي وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ، أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً. . لماذا؟ وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً، وآثَرتَ حُزني مَلاذاً أجبني. أجبني. . لماذا؟بدايات ونهاية سبعون كتاباً هي حصاد هذه الرحلة، أولها ديوان «مواكب الشمس» (الناصرة، 1958)، وآخرها «هواجس لطقوس الأحفاد»، و«كولاج 3» ـ شعر (2012)، وما بينها الكثير من «السربيّات» والنثر والروايات. أما آخر ما أهداني فكان كتابه «هيرمافروديتوس وقصائد أخرى» (وزارة الثقافة/ الأردن 2012). قصائد الديوان تغلب عليها ـ كما هي العادة في شعر سميح القاسم ـ لغة التمرد والرفض والثورة ومواجهة الطغاة والمحتلين، وتبشر بالفجر الآتي والعودة. في القصيدة التي حمل الديوان اسمها «هيرمافروديتوس»، يشتغل القاسم على ثيمة الإنسان الفلسطيني الذي يراد له أن يكون هجيناً، بهوية مزدوجة، مستعيراً الكائن الأسطوري المتشكل من كائنين وكيانين ميثولوجيين، هيروميس وأفروديت، ليولد بجنس مزدوج، الذكر والأنثى في آن واحد. فإلى أي حد يمكن أن يعيش هذا الكائن حياة طبيعية؟ وكيف يعالج القاسم هذه الأسطورة شعرياً؟ يتميز كل عمل شعري جديد للشاعر سميح القاسم بالاشتغال على ثيمة ما، يطرح من خلالها سؤاله الجوهري، سؤال الهوية، على نحو ما، وغالباً ما تكون هوية الفلسطيني العربي في مواجهاته متعددة الاتجاهات. في مجموعته هذه ثمة عشر قصائد متنوعة بين شعر العمود الكلاسيكي والتفعيلة، قصائد المجموعة تحمل العناوين: هيرمافروديتوس، ماذا آخذ من مونبيلييه، الغريب، عين الصواب، حياتي مستمرة، صليب لحي بن يقظان، بطاقة معايدة للخليل، أبو القاسم الشابي، القصيدة المكية، و«مستشفى». منذ البداية يعلن الشاعر أن «لميلاد هيرمافروديتوس ضجيج الحياة الجديدة»، والحياة الجديدة تبدأ من افتراض التزاوج والخصب، «هيروميس يُثار بنكهتها». «أفروديت تلين قليلاً وتسخو كثيراً. إذاً، فلنسمِّ الوليد المتوج بالخصب هيرمافروديتوس». ومنذ البدء يكون هذا المولود «طفل المآسي التي ستكون»، فالشاعر يقوم بدور العرّاف أو المتنبئ بمصير هذا الكائن الذي ستصلي الجبال له. ويربط الشاعر أسطورة، بل خرافة مولوده العجيب هذا بأساطير وأمكنة وشخصيات عدة، كما ترتبط ثيمة هذه القصيدة بقصائد المجموعة عبر ثنائيات تتخذ صيغة التضاد والتناقض. يبدأ «بطل» القصيدة من رحلة بلا وضوح ولا وجهة «بلا موعد وبلا غاية»، ليغامر، فهو سليل الهواجس والنار، وقد تَشكَّل في «نزوة المعجزات»، وينمو «بما يشتهي الطين والنار»، وتكمن حكايته في حكاية «سالماكيس» التي يُغشى عليها حين تبصره في مياه البحيرة. وسالماكيس هي في الأصل السوري (صاليماكي)، وهي التي تجمع الإثارة والمصيدة والانتصار من جهة الأنثى، والشعور بالنقص والدونية والهبوط والانحدار من جهة الذكر. فالأنثى انتصرت على الذكر الذي لم يكن يرغب فيها، بإرادة الآلهة الغابرة. وفي هذا الصراع، تتبدى السمة الأولى في هوية «بطل» القصيدة، صراع بين هويته العربية الأصلية وبين الهوية التي يسعى عدوه لفرضها عليه. ويبدو ظهور «النشوء العظيم. . والارتقاء على الدهر جيلاً فجيلاً»، تعبيراً عن اكتمال قيام الدولة. ويبدأ «مهرجان التعدد»، في طقوس مباركة، تمثل «عنفوان التجدد»، وتطرح الأسئلة، ويتدخل «ميركوريس»، إله التجارة، وتنطلق فاعليات الخصب، وتبدأ «كينونة قادمة». كينونة يرسم الشاعر العلاقات في بنيتها ومكوناتها من الجنسين، الهويتين المتعايشتين والمتصارعتين في آن. بينما يقف «البطل» منبوذاً من الطرفين، فآلهة الغيب تنبذ أوهامه البشرية، والآدميون ينبذون ألوهيته و «تدير له ظهرها نار أيامه الغابرة». كما يقع بين الحرب وبين السلام، بين نداء «قاتل وقاوم»، ونداء «حارب وسالم»، الثنائيتين البارزتين في القصيدة. فهو مشتت بين حب الغناء القديم ولا يستسيغ ضجيج الأغاني الجديدة، وهو موزع بين لثغة الطفل وحكمة الشيخ. وهو «شخص غير مرغوب فيه» كما عبّر القاسم في مجموعة قديمة له تحمل هذا العنوان. وعلى رغم رؤية الشاعر الواضحة للصراع والحل، ينتهي «البطل» وحيداً، بلا قرار محدد، لكن الصورة الكلية هي صورة الرافض للآخر إلا في سياق تعايش للهويتين، القوميتين، العرقين، في وطن للجميع، وعالم أكثر عدالة، وفي منأى من الحروب والأحقاد والعنصرية. الموضوع نفسه كان القاسم عالجه في روايته «إلى الجحيم أيّها الليلك»، (دار ابن رشد، بيروت 1978) حيث الفرضية التي يُقدمها النصّ، كما يرى أحد النقاد، هي «إمكانية/ لا إمكانية» قيام علاقة من نوع ما بين ما هو عربي وما هو صهيوني، ويقوم الخطاب بمحاولة طرح جميع إمكانات هذا اللقاء وفحصها في ضوء منطق التاريخ وفي ضوء الحتميات الحضارية، في أكثر أبعادها قابلية (القضايا الإنسانية)، ويختار أيضاً من القضايا الإنسانية الجانب الأكثر قابلية على الإطلاق الجانب العاطفي (علاقة الرجل بالمرأة) بالذات، ولكنّ هذه الفرضية في النّهاية تحمل نفيها في ذاتها وتظهر في النصّ ضرباً من المحال، إنها كخطوط التوازي التي لا يمكن أن تلتقي إلا خارج منطق الحقيقة والتاريخ ومنطق التطور الحقيقي والحتمي للتاريخ، وخارج منطق العالم والمنطق البشري الاختياريّ، إنّها النقطة المستحيلة. «إنّ العدوّين المتجابهين هنا هما من العرب واليهود، هذا ما يبدو لك على السطح، لكن الجبهة أعمق بكثير وأكثر تعقيداً أو تركيباً، هنا يدور القتال الحقيقي بين الليل والنهار، بين عناصر الزمن ومكوّناته المتناقضة، بين الخير الذي في الإنسان والشرّ الذي فيه، بين البناء والهدم والحب والكراهية». إنه الصراع الذي خصص له القاسم جلّ حياته وشعره ونضالاته، معبّراً عن الأمل في خاتمة سعيدة له، لصالح العرب واليهود معاً، في مواجهة الصهيونية الإمبريالية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©