الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفلامنكو.. نشيد طالع من نشيج الجمر!

الفلامنكو.. نشيد طالع من نشيج الجمر!
3 سبتمبر 2014 20:15
من صدأ الأيّام يحمل الفلامنكو الصّفيح السّاخن لجرحه النّازف، كما شمسه ودمه؛ يحمل حروقات شعب الغجر كما حروقات الشّعب الإسباني بأكمله، ولو أنّ الخرافة المخْتلَقةَ تحصُر الفلامنكو في الشّعب الغجريّ فحسب! ولئن كانت أسماء مرموقة للفلامنكو تتحدّر من البوتقة الأندلسيّة، فإنّ آخرين من غير الغجر، ممّن هم أكثر انغمارا في المجتمع الحديث، ليلتمسون سرمديّة الشّمس في تلك الأغاني والرّقصات (أنركي مورنتي، كرمان لينراس، أل كبريرو، ميجال بوفيدا. . . )، ويعرف هذا التيّار بالفلامنكو فيفو.  إلى جانب أولئك الذين لا يفقهون القراءة ولا الكتابة، ويدركون مع ذلك أدقّ أسرار العالم بالدّم السّاري في عروقهم، ونزوعهم الجامح للحريّة، ظهر مهرّبون على نفس القدر من الأصالة والصّدق، مسكونون بالشّعر والكتابة؛ ويتعايش هذان النّمطان تقريباً. ما بين التّواصل الفارق للتّقاليد، وانتقالها من الآباء إلى الأبناء، وذلك الوفاء المقدّس والبحث عن فلامنكو جديد ينبض على إيقاع الزّمن وآلام البشر، هناك أحيانا اختلافات، خاصّة عندما تكون أسطورة الفلامنكو أي الغجري، مشاعة من قبل متطرّفي هذا الفنّ. نافورة واحدة يعتقد الغجر بأنّ “ذلك الذي يعرف الكتابة والقراءة لا يستطيع أن يهزج بالفلامنكو لأنّه يفتقد القدرة على النّطق”، و ذاك في الحقيقة مجرّد وهم جميل، فمورنتي، وباكو دي لوتشيا، وبرابال، ليناريس. . يتكلّمون وينطقون الفلامنكو، لأنّه بين أولئك الذين يهزجون بآلامهم ودمهم وأولئك الذين يهزجون الشّعر، ليس هناك أيّ تصدّع؛ ففلامنكو الغجر و”فلامنكو البايوس” ينسابان من نافورة واحدة، نافورة اللّهب والوجد الحارق! كلاهما يكاد يلامس جوهر الجمال، فإن كان تجسيد الغجر للفلامنكو يبدو وراثيّا، فإنّ فلامنكو “البايوس” لا يقلّ عنه أصالة في قوّة التفجّر؛ فالتمرّد هو في قلب هذه الموسيقى والكلّ يحملها! إنّ النّشيد العميق (El cante hondo) هو نشيج من الجمر، لم تفلح أيّة قوّة جائرة في إطفاءه. وعلى عكس “الفادو” الذي استطاعت دكتاتوريّة سلزار تدجينه، فإنّ الفلامنكو بقي منفلتا في عهد الدّكتاتوريّة الفرانكيّة؛ بقي أبيّا، أشمّا؛ كذلك كان الفلامنكو، وكذلك يبقى. وبعيدا عن مقاهي الفلامنكو المعدّة للسيّاح، يبقى الفلامنكو في ذات الوقت سليما ومتجدّدا بتقاطعه مع الموسيقى الحديثة؛ إنّه لم يعد محملا لآلام المحبّة والعناء فحسب، بل أصبح يعكس وضع مجتمع برمّته. كزلزال داخليّ صادم، يمثّل الفلامنكو النّشيد المتصاعد من الأحشاء؛ تارة نستشعره كانتحاب للمينوتور القابع فينا، وتارة أخرى كصريخ ينبعث من أعماقنا. حنجرة الفلامنكو. . حنجرة خشنة، وروحه هوّة سحيقة؛ إنّه وسيط الوحي لهذا العالم، ويبقى أثرا مضطرما للشّعوب المتمازجة هناك: الغجر، اليهود، العرب والإسبان ؛ إنّه مشعل التّمازج الذي لا يزال سرّ نشأته غامضا. وعلاوة على سحر الماضي، فإنّ سحره الرّاهن وقدرته الهائلة في إثارة العواطف والمشاعر والخفقان هي التي ينبغي أن نتوقّف عندها. فنواميسه متعدّدة ومعقّدة، ولكن في الرّجفة التي يثيرها فينا سماعه (إذ لا ننصت للفلامنكو دون أن نضع أنفسنا بحالة خطر. . دون أن نفقد توازننا). . لا نملك غير الاستسلام لسطوته. فذاك الطقس هو الذي كان متخفّياً في فضاءاتنا الملتهبة! لسنا بحاجة إلى أن نفهم، ولكنّنا بحاجة إلى الإنصات إلى حرقة الألم والحبّ المتشنّج، تشنّج الجمال المضطرم؛ إنّه الخميلة الحمراء للفطرة، الضّفيرة الصّوتيّة للزّمن السّحيق؛ إنّه يذكّرنا على الدّوام بنَفَسِ الوحش على رقبتنا، بجسارة المواجهة، جسارة الجذور. . جسارة الكورّيدا! جافّة، خشنة ومفتوحة على كلّ الطّرقات والمنافي والموت، فإنّ تغريدة الفلامنكو مزروعة بالحصى والحفر، ومن جدب الصّوت ينبغي أن تزهر ورود الصّحراء. . بداخلي بئر ولكنّني لا أستطيع شرب الماء فالحبل ليس طويلا بالقدر الكافي “سوليا لبولوريا” هكذا غنّى أغيجتاس، ومثله كآخرين كان يجد نفسه في رجفاته على عتبة ارتباك الأرواح. معنى تراجيدي بمواجيده وأهازيجه التي تتلمّس اللاّنهائيّ، وبرقصاته الشّامخة، المثيرة والمرسلة إلى السّماء، يحمل الفلامنكو المعنى التّراجيدي للحياة؛ فنّ أناشيد “المرتينات” العتيقة (أناشيد الحدّادين التي يحاكي الإيقاع فيها وقع المطرقة على السّندان) إلى الكوبلاس (مقاطع شعريّة مغنّاة). . الفلامنكو هو العبور إلى الصّيحة! إنّه يحمل، لصيقا بجسده المعقّد، دوار المقدّس، مقدّس قاس ودموي، شهوانيّ وحسيّ؛ التبتّل للقدّيسين وللسيّدة العذراء الذي ينضح به الفلامنكو، ينبغي أن لا يحجب عنّا حقيقة أنّ الشّهقات وتعانق الجنّيات والسّاحرات يخترق هذا الطّقس، طقس الجسد والفتنة! إنّه فنّ التحدّي، يشبه حالة الإنسان في مواجهة الثور والموت، وبالتالي فإنّه يحرّك بأعماقنا قوى حيويّة وحيوانيّة. من هذا الهمس الذي يتحوّل إلى زئير، من تلك الارتجافة الخفيّة التي تتحوّل إلى رقص قدسيّ مجنون، يصلنا الفلامنكو بتلك القوى التي تدير الأرض وتثير بكاء البشر. تنّورات تتحوّل إلى دوّامات للحبّ الشّبقي، أقدام تركز الأرض حدّ انبجاس الدمّ، صرخات تمسك بالقمر، قيثارات ينتابها جنون الرّغبة، الفلامنكو هو كلّ هذا الدّوار! قيثاراته، وهي طيور متنبّئة تقبل لتصطدم بشبابيك الزّمن، بَرَدُ النّغمات المعزوفة، تُقتلع من الخشب والأوتار، لتَشيد حلقة من قوّة خام، ينبسط فيها هذا النّشيد القربانيّ. إنّ هذا النّشيد بسكتاته التي هي بثقل الصّخر، بمناشداته للسّماء. . للموت، يتكشّف طريقا ضاربا في القدم. إنّه تلك الحجارة التي تلقى في وجه الخاملين، القابعين في السّكون؛ فالفلامنكو هو الفنّ الأسمى للتّوتّر، إنّه مجابهة. . إنّه جنون!  إنّ هذه الرجّة التي تسري في ارتعاشات القيثارة، في الحناجر الملتهبة للمغنّين، في الخطوات المزهوّة للرّاقصين، لا شيء يمكن أن يوقفها. إنّه الاحتفاء المباشر بالحياة! إنّ ذاك التعطّش الشّرس للحريّة، ذاك الجدول المتوحّش الذي يتدفّق بين الأسنان، الذي يرقّق المعدن والإحساس، له ألف ذراع؛ تصاحبه دوما كلمات بسيطة مستوحاة من المعيش اليوميّ ونصوص باهرة الوضوح. . اللّهب والجنون. . هما المَلَكان الحارسان للفلامنكو، ولا ينبغي لهما الإغفاء، لأنّ الفلامنكو أرق وسهاد! حياة انبثقت من نار المخيّمات ومصابيح مدن الغربة والاغتراب. . بأذرع ممدودة، وأصوات مجلجلة في ذروة السّطوح، وحسم لكلّ صنوف القهر بحركة منفلتة، هو فنّ مقدّس يتجاوزنا؛ إنّه ابتهال يندّ عن الابتهالات؛ إنّه يتوسّل بقدر ما ينكر ويتبرّأ، إنّه يعشق بقدر ما يتأبّى ويرفض. . مذعنا لإرادة البشر أكثر من إذعانه لإرادة خارقة، فإنّ هذا التوسّل هو قرن ثور في جسد الثّوابت واليقينيّات، ومسامير أقدار الكائنات الهشّة أكثر إيلاما من عذابات الصّلبان. . الفراق. . الحبّ الذي يتشظّى. . الجمال الشّبيه بخنجر جسد الآخر. . الوحدة. . هي كلماته. . آه . . على طريق دي لا إيسلا وقبل أن أدرك أشجار البرتقال أطلقوا عليّ النّار تركوني ملقى على الأرض أناشد النّجوم هناك في السّماء العالية أن يأتوني بأمّي أمّي التي أحبّ أناشد النّجوم هناك في السّماء العالية أن يأتوني بأمّي لأنّي أموت من الأسى الفلامنكو قدّ من حديد ونار؛ هو ترنيمة الإنسان، ترنيمة وحشة، صيحة أسد شارد، رنّات القيثار تسقيه، والصّوت المدفوع إلى أقصى حدوده يغذّيه! إنّه شعلة سوداء تتلوّى، تلوينا فتخلّصنا. .
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©