الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مكر الكتابة ولعبة الأجناس المتناصَّة

مكر الكتابة ولعبة الأجناس المتناصَّة
3 سبتمبر 2014 20:20
في غير عمل سردي، مال الروائي العراقي الستيني أحمد خلف إلى الكتابة بنمط السَّرد المفتون بذاته، وهو ما تجلى في روايات عدَّة؛ “الخراب الجميل”، (1981)، و”تيمور الحزين”، (2001)، و”موت الأب”، (2002)، و”الحلم العظيم”، (2009)، وتالياً “محنة فينوس”، (2010)؛ حيث أقبل فيها على تسريد شؤون الكتابة، وإشراك القارئ، وتضمين رواية داخل رواية، إلاّ أنه، وفي رواية “محنة فينوس”، وابتداء من العنوان، يرتمي في عوالم الأسطورة باثاً فيها روح السَّرد الذي فُطرت عليه منذ ظهورها إلى الوجود، فالعلاقة بين السَّرد والأسطورة تبدو متصاهرة، ولذلك قال نورثروب فراي: “إن الأسطورة، في المقام الأول، هي نوع معين من القصَّة؛ إنها قصَّة، بعض شخصياتها آلهة أو مخلوقات أخرى أكثر قدرة من البشر، ومن النادر وجودها في تاريخ الأحداث الماضية؛ فعملها يحدث في عالم هو فوق الزمن العادي أو سابق له، بحسب تعبير مرسليا إلياد، وبذا فإنها مثل الحكاية الشعبية عبارة عن نموذج قصَّة مجرَّدة تستطيع شخصياتها أن تقوم بما تريده، ويعني هذا ما يريده القاص، ولا داعي أن تكون الحوافز معقولة أو منطقية؛ فالأمور التي تحْدث في الأسطورة هي أمور لا تحدث إلاّ في القصص؛ إنها توجد في عالم أدبي مستقل، لذلك فمن الطبيعي أن تكون جاذبيتها لكاتب العمل الأدبي من ذات النوع، الذي تحدثه الحكايات الشعبية؛ إنها تقدِّم هيكلاً جاهزاً، متناهياً في القدم” (1). مكر الكتابة يضم المتن النَّصي لهذه الرواية عتبة موقعة باسم المؤلِّف الفعلي أحمد خلف، جاء فيها: “لا جدوى من البحث عن بدائل في واقعنا اليومي عن أشخاص وأحداث هذا النَّص لأنه استمدَّ عناصر تأليفه من الخرافة. . أصلاً “ (ص 5). وبهذا فإن الناص المركزي أو أحمد خلف لا يطمح بوجود قارئ مثالي (المصطلح من أمبرتو إيكو) معين يبحث عن الأصول والمصادر والصور البذرية الأولى التي متحها المؤلِّف من واقع ما حتى لو كان تاريخي الأصل، إنما قارئ فعلي (المصطلح من أمبرتو إيكو) (2)، يتوجَّب عليه الدخول إلى أكوان المتن الحكائي, كما هي من دون ربط بأنموذج واقعي يقيس به مجريات الحكاية في الرواية. وبذلك فإن خلف يهيئ قارئ نصه إلى مزيد من التأويل القرائي لاسيما أن المتن الحكائي يحفل بقصديَّة تاريخية قوامها استثمار المتن الحكائي الأسطوري في عمل روائي متخيَّل لا يمكن استبعاد علاقاته السرية مع راهن ما كشف عنه الملفوظ الأخير في المتن النَّصي الذي يتعلَّق بتاريخ بدء خلف ذاته لكتابة (محنة فينوس) وانتهاءه منه، والذي تم بين شهر أيلول/ سبتمبر 2003 حتى تشرين الثاني/نوفمبر 2004، وهو تاريخ له شأنه الدلالي في المرحلة التي يعيشها الوطن الذي ينتمي إليه المؤلِّف الفعلي أو كاتب النَّص أحمد خلف (الوطن العراقي) الذي يجبرنا، بموجب هذا الملفوظ، على المراوحة بين قراءة مثالية أنموذجية وقراءة فعلية له، لعلها لعبة الغموض السَّردي التي رمانا بها خلف وذاك مكر الكتابة الخلاق، وتلك فضائله! الراوي الشريك لكي يتخلَّص الناص المركزي أو أحمد خلف من هيمنة ما يعرف بـ (الرواية التاريخية) في عمله السَّردي هذا، ولكي لا يتم تصنيف روايته على أنها رواية من هذا النوع، نراه يدس (الراوي) =(Narrator) كمشارك فعلي في أحداثها منذ الملفوظ السَّردي الأول الذي ظهر في المتن الحكائي ما بعد العتبي: “سأروي ما أعرفه عن الذي حصل وما جرى. . ” (ص 7)، وهو ملفوظ يوحي بأن ما جرى قد تم في الأمس؛ ما جرى كان في تاريخ ماض، وهو إيحاء مراوغ أيضاً يدعونا إلى البحث عن سبب تورُّط الراوي في الكتابة السَّردية: “لو كان الأمر لا يعنيني لما تورَّطتُ في رواية ما حدث” (ص 7)، وهو ما نجد صداه في (الفصل الثاني)؛ حيث يكشف (الراوي) عن دواعي الكلام والحديث عمّا جرى، وهو ابن أثينا المهزوم وسط الخراب الذي يجري في وطنه سوى من القدرة على الكلام والحديث، لاسيما “أن الأسطورة هي شكل من أشكال الفن الكلامي”، بحسب نورثروب فراي (3) يقول الراوي: “إذ لا يحق لي الكلام عن مدينة لم أحسن الذود عن حياضها، لأنّي لا أجيد الدفاع عن نفسي وسط فوضاها، غير أنّي تعهدتُ بالحديث لكم عنها لما توارد إليَّ صوت يخاطبني: لا بدَّ من الوصول إلى أثينا وإن طال السفر! لم يطل سفري في الوصول إليها، وقد عرفتُ عنها كل شيء؛ قرأتُ أشياء لا يُستهان بها، واحتفظتُ بحفنة من أسرارها وأنبائها، وعرفتُ أن واديها ليس وادياً للنسيان أو التأسي، إنما حفرت عناوين دساتيره ووثائقه على صخرة الأولمب الصلدة وقد أمضى رهط كبير من العاملين العارفين بفك طلاسم الأسرار والألغاز والرموز وهم يتدرَّبون الوقت كله لمعرفة كنه أسرار مدينة تنازعتها الأقوام والقبائل” (ص 20 - 21). يبدو أن سبب (الروي) = (الكلام + الحديث)، يكمن في ذلك “الصوت” - الذي جاء كمرسِل داخلي - القابع في ذات الراوي ظلَّ يحث الشاهد ليمارس دور (الروي) و(الكلام) و(الحديث)، وهي أفعال وردت تباعاً في سيرورة السَّرد، أفعال تدلُّ على مشاركة مواطن أثينا في عملية الحكي من الداخل، حيث لا يملُّ الناص المركزي في الرواية عن تأكيد انتماءه الهوياتي إلى (أثينا) كما تدلُّ عليه جملة من الملفوظات السَّردية مطردة الظهور والحضور في مسار السَّرد، منها: “أبناء مدينتنا أثينا. . ”، (ص 8) و”الجميع يعلم أن أبناء مدينتنا كانوا وقوداً لنيران المعارك الطاحنة. . ” (ص 9)، و”أما نحن جمهرة الناس من أبناء أثينا. . ” (ص 10)، و”انبرى ذات يوم نفر من أبنائنا محتجاً. . ” (ص 14)، وغير ذلك من الملفوظات الدالة على انتماء الراوي العضوي إلى مجتمع الرواية. استدراكات الروي لا يدخر أحمد خلف جهداً وهو يضمن تجربته السَّردية “محنة فينوس” بمزيد من شعريات القول السَّردي، وهذا ما يتجلى في استدراكات الروي التي تفرطها مسارات السَّرد المتدفقة، والذي حرص بوصفه ناصاً على وضعها بين معقوفتين (. . . )، ابتداء من الصفحة العاشرة لتتكرَّر تباعاً كظاهرة نصية ذات قيمة شعرية من شعريات القول السَّردي. لقد أبقى أحمد خلف على ملفوظات هذه الاستدراكات في المتن النَّصي، بل وأبقاها كجزء من البناء الحكائي؛ فلم يحيلها كملفوظات تفسيرية إلى هوامش المتن الحكائي، إنما دسها تلقائياً في ذلك المتن، وأطلق لها العنان لكي تمارس سيرورات حضورها كما نراه في الملفوظات الشارحية الآتية: “(وتجرّأ أحد المؤرخين ليطلق عليه سوق الدعارة، . . )” (ص 22)، و”(من الطريف أن الآلهة، آلهتنا، تبيحُ. . )” (ص 25)، و”(أقصد مدينة أثينا بالطبع،. . . . )” (ص 90)، بل وما نراه أيضاً في عدد من الملفوظات الإخبارية: “(ذكرنا وأعاد علينا أحد سدنة المعابد، أن تلك قسمة زيوس كبير آلهة الأولمب، المتعة والثراء من نصيب. . . . )” (ص 10)، و”(كنّا ننتظر كالبلهاء غير مصدقين ما يجري. . . )” (ص 11)، و”(لكن الفتاة لم تتوان في الرد. . . . )” (ص 17)، و”(ذلك ما كنتُ أقوله له. . . )” (ص 17)، و”(كان دائماً يظهر. . . )” (ص 18)، و”(كان للنساء في مدينتنا ساعات. . . )” (ص 21). وإلى جانب ذلك نراه في عدد من الملفوظات الاستدراكية التساؤلية، منها: “(وأية رعية تلك التي تلتهم. . . . ؟)” (ص 12). تبدو هذه الملفوظات الاستدراكية وغيرها سواء كانت في بنيتها الشارحة أو الإخبارية أو التساؤلية أحد الأجزاء الحيوية في بنية السَّرد العامة التي تكشف عن دور الراوي الشريك المتميز بالحكي أو الراوي من داخل الحكي الذي أراده لنفسه لاسيما تأكيده؛ في بداية المتن الحكائي، بأنه عرف عن (أثينا) كل شيء، وقرأ عنها الكثير، واحتفظ بالكثير من أسرارها وأنبائها (انظر: ص 20 – 21)، ولذلك أخذ على عاتقه كتابة ما يعرفهُ “على الورق لئلا يضيع وسط فوضى العاصفة الهادرة، لأن الإنسان ضحية النسيان والإهمال المتعمِّد مهماً تم تذكيره” (ص 26)، وبذلك يمكن النَّظر إلى هذا الراوي كراو شاهد سعى لأن يكون متجانس الحكي رغم حذره في التعامل مع أحداث الرواية، ولعل دلالة ملفوظ “ذلك ما كنت أقوله له. . . ” (ص 17)، خير دليل على ذلك التجانس، فضلاً عن ملفوظين سرديين آخرين نقرأ فيهما: “وقبل أن يفرّ الشاب من أمامي، التقطتُ الورقة من يده. . . ” (ص 142 )، ومن ثم: “لقد أوقفني في الطريق ذات يوم أحد مواطني مدينة أثينا متسائلاً. . . ” (ص 52)، وكلها هي ملفوظات دالة على شراكة الراوي في أحداث الرواية شراكة عضوية متجانسة، ملفوظات دالة تتيح إمكانية مدِّ الصلة مع (القارئ)؛ فهي تفتح له أفقاً يتعزَّز فيه دور (الراوي) ليقترب أحمد خلف بسرديته (محنة فينوس) من نمط (السَّرد المفتون بذاته) (4) الذي يحتفي بالتعبير عن مشروع الكتابة من داخل الحكي واستدراج القارئ إلى فتنته من خلال التعاقد معه على الشرح والتفسير والإخبار والتعليل والتساؤل، بل حتى مناداة القراء مباشرة كما يرد ذلك في مفتتح الفصل الثالث: “ها أنتم ترونني أتحدَّث. . . ” (ص 42)، و”ها أنتم ترونني أواصل الحديث عن فينوس. . . ” (ص 51)، وكذلك “إنني أروي لكم ما أعرفه عن فينوس. . ” (ص 51)، ومن ثم “لم أقل إني أمتلك وثيقة أو مدوَّنة، إنما أحفظ الكثير من الأخبار والحكايات المروِّعة قد يضطر بعض الرواة إلى الكذب والتلفيق. . ” (ص 51). وهنا لا بدَّ من التنويه بأن تجربة (السَّرد المفتون بذاته) التي خاض غمارها أحمد خلف في غير نص من نصوصه الروائية، تختلف هذه المرة عن سابقاتها؛ فهو لم يعتمد على (وثيقة) أو (ملف) كأساس لرواية داخل رواية، إنما فضَّل الاحتفاء بأن يكون راوياً شاهداً بدت خبرته ذخيرته، وبتعبير فلسفي، بدا نص الوجود الذي عاشه هو مورده في وصف وتفسير وروي ما جرى. الأجناس المتناصَّة وإذا كان نص الوجود المعاش والمسرود يمثل مصدراً لديه، فإن “فتنة فينوس” تبدو علامة صارخة على التناص مع الموروث الحكائي الأسطوري كون المؤلِّف الفعلي أحمد خلف ذهب إلى التاريخ الحكائي ليستعيد حكاية (فينوس) التي اغتصبها (مارس)، إله الخراب والدمار (انظر: ص 26 وما بعدها)، لتأتي دلالة ملفوظ (المحنة) في عنوان الرواية “محنة فينوس” كمدلول يمكن أن يكون المشار إليه فيه تلك الفاجعة التي حلَّت على راهن حياتنا العراقية الذي فُضَّت بكارتها من جانب بشر ليسوا سوى آلهة جُدد للخراب والدمار، وإذا ما أردنا أن نقابل تأويلاً بين ما جرى في بغداد عام 2003 وما كان قد جرى في أثينا بحسب قراءة المؤلِّف الفعلي لها، فإن الملفوظ الآتي يمكن أن يعبر ذلك؛ جاء في ذلك الملفوظ: “وما أثينا إلاّ أرضاً لتجارب الحمقى والمجانين ينفذون فيها أفعالهم ونواياهم ورغباتهم الرعناء” (ص 53)، بل إن اغتصاب (فينوس) من جانب إله الخراب والحروب (مارس)، هو شبيه باحتلال بغداد من طرف المحتلين الغزاة الذين أباحوها لكل مجانين الأرض! لكننا، ومع ذلك نبقى في دائرة التأويل كون النَّص التخيلي، وكما يقول كارلهاينر شتيرله، “يتميز بكونه لا مرجعياً”، لكن “إشارته إلى الواقع تبقى محتملة” (5). خصوصاً أن أحمد خلف كان قد قال معلِّقاً على روايته (محنة فينوس): “ينبغي التخلُّص من تلك الاستعلائية الفائضة لعالم الأسطورة المغلق على ذاته وتحويل تلك الشذرات المضيئة في الأساطير إلى حكاية تمتد وتنشئ جسراً متيناً مع الواقع”. وبذلك تستأنف “محنة فينوس” (6) تجربة جديدة في تزاوج الأجناس المتناصَّة فيما بينها؛ بين متخيَّل أسطوري وآخر روائي، من خلال تفكيك نزعة الأسطورة الاستعلائية، واستدراج طاقتها التخيلية والرمزية إلى عالم قابل للسَّرد الروائي، وفي الوقت ذاته انفتاح المتخيَّل الروائي على عوالم الأسطورة المضيئة، إنها تجربة حدث جمالي يُستحسن التوقف عنده. الهوامش: (1) نورثروب فراي: الماهية والخرافة. . دراسات في الميثولوجيا الشعرية، ترجمة: هيفاء هاشم، مراجعة: د. عبد الكريم ناصف، ص 49، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1992. أما بالنسبة إلى مقتبس نورثروب فراي من مارسيليا إلياد فتجده في: (مرسيليا إلياد: المقدّس والمدّنس، ترجمة: عبد الهادي عباس المحامي، ص 58، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1988). (2) أمبرتو إيكو: اعترافات روائي شاب، ترجمة: سعيد بنكراد، ص 56، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2014. (3) نورثروب فراي: المصدر السابق نفسه، ص 50. (4) حول هذا المفهوم، انظر دراستنا: (د. رسول محمد رسول: السَّرد المفتون بذاته. . من الكينونة إلى الوجود، مجلة (الأقلام)، العدد (3)، السنة (48)، أيلول - كانون الأول، 2013، ص 74 وما بعدها). وهذه الدراسة هي فصل من فصول أخرى يضمها كتابنا الذي سيصدر بالعنوان ذاته (السَّرد المفتون بذاته) عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، 2014. (5) كارلهاينر شتيرله: قراءة النَّصوص التخيلية، ضمن كتاب: (القارئ في النَّص/ مقالات في الجمهور والتأويل، تحرير سوزان روبين سليمان وإنجي كروسمان، ترجمة: د. علي حاكم صالح ود. حسن ناظم، ص 105، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2007). (6) أحمد خلف: محنة فينوس، (رواية)، دار الينابيع، دمشق، 2010.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©