الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قلب بين الجدران

22 أكتوبر 2006 01:00
وقفت طويلاً أمام الباب المصبوغ حديثاً·· لا أدري كم من الوقت مر علي وأنا واقف، ولكن الخواطر التي مرت في ذاكرتي قاربت ثمانية عشر عاماً· مددت يدي الى الباب أتحسسه·· لقد تغير، ولكن الجدران لا زالت كما هي· دفعت الباب بهدوء ففتح أمامي كعادته دائماً·· تخيلت أنني سألتقي بالعم قاسم·· رجل كبير في السن أتخيل أنه قد تجاوز المائة عام بظهره المتقوس ولحيته البيضاء، ويده التي يرميها دائماً خلف ظهره إذا مشى كعادته بين قومه، أصلة من تركستان، جاء فاراً من الشيوعية ليستقر في مدينتي·· وأصبح مؤذن المسجد· كان المسجد خاوياً·· حتى العم قاسم لم يكن موجوداً في مكانه المعتاد خلف الإمام·· توجهت مباشرة الى غرفة في زاوية الفناء·· كانت مغلقة·· حاولت دفع الباب ففتح، وارتسم ظلي على الجدار المقابل للباب، وقفت أتأمل الظل، لقد تغير كل شيء·· دخلت الغرفة ووقفت أنظر للأثاث البسيط·· تعودت عيناي على الإضاءة الخافتة الناتجة عن بقايا الشمس في الخارج·· ثم تقدمت ببطء لأقف أمام مكتب من مكاتب التحفيظ الصغيرة، جلست أمام المكتب وتحسست خشبه·· وارتفع صوت الأطفال من حولي وهم يقرؤون القرآن·· تذكرت أحمد البخاري وهو يقرأ القرآن ويهتز·· وفي الزاوية صالح السوداني يحاول أن يختفي خلف جاره حتى لا يراه الشيخ·· هنا كان عبدالعزيز اليمني يتحسس أثر ضربة تلقاها من الشيخ على فخذه لأنه لم يتم الحفظ·· وتوفيق يجلس قبالة الشيخ يسمع ورده·· وطفل صغير واقف على الباب في تردد، ينظر الى الأطفال ويحسدهم، يتمنى أن يناديه الشيخ لينضم الى الأطفال في الحلقة·· ولكن الشيخ المتعب بمن حوله لم يكن يفكر أن يضيف هماً الى همومه· سمعه ذات مرة يقول للعم قاسم: - هؤلاء الأطفال متعبون· - العم قاسم كعادته يكتفي بالصمت وينظر اليّ في هدوء، ثم يعود ليتابع التسبيح على مسبحة خشبية وعتيقة، هي بلا شك ذكرى زيارة للحرم المكي أو المدني· - لا يريدون الحفظ·· يحبون اللعب· - في عربية متكسرة يجيب العم قاسم: أستغفر الله· - أنت يا عم قاسم لا تعلم شيئاً· ويتركه متوجهاً الى غرفته وفي يده عصاه المكسوة باللون الأحمر·· لا أدري لماذا لونها بهذا اللون؟ هل ينوي أن يضرب الأطفال حتى تدمى أكفهم ولا يعلم أهلهم بذلك· أفقت من تأملاتي وعدت للغرفة الصامتة·· ثمانية عشر عاماً مرت على هذا المكان·· تغير العالم وبقيت هذه المساحة ومساحة أصغر منها في نفوسنا ثابتة لم تتغير· في الأدراج الخشبية المهترئة وضعت نسخ قديمة من المصاحف كانت تطبع في باكستان والهند· أخذت نسخة منها، كتبت بخط يشبه الأوردو، كيف كنا نقرأ فيها؟ ارتفع الصوت من جديد·· - (عم يتساءلون، عن النبأ العظيم···)· - وارتفع صوت بكاء أثر ضربة تلقاها أحد الطلاب وهو يصيح بصوت باك·· (آخر مرة يا شيخ)·· وصورة الغلام الصغير يقف على الباب ينتظر أحداً يناديه لينضم الى الحلقة·· غادرت الغرفة وفي مقلتي دمعة·· ولامست وجهي نسمات العصر الباردة فشجعت الدمعة على النزول·· وحملتني الذكرى ثانية·· أخذت أمشي في الشوارع القريبة من المسجد، كل هذه الشوارع تعني عندي الكثير·· ها هنا كنت أجري، وهناك كنت أراقب مباريات كرة القدم، في تلك الزاوية كنا نبني قلاعاً في الهجوم الوهمي على منزل الجيران، وجميل أبو راسين يقابلنا في الجهة الأخرى، ويدافع باستماتة عن آخر معاقله، وسرعان ما تنتهي الحرب الوهمية بسيل من اللكمات والصفعات·· وتتحول الزاوايا الى ساحات حرب ساخنة· قادتني قدماي من نفس الطريق التي سكلها الطفل الصغير ذات يوم·· واستوقفتني شجرة تين أعطت للشارع الترابي منظراً متميزاً·· كان الأرض قد رشت بالمياه، وحول الشجرة انتشرت بعض نباتات الريحان، وبجوار النافذة القريبة من الشارع امتدت سلسلة لتلامس النافذة وتربطها بعربة من ذلك النوع الذي يستخدم لنقل الخضروات·· شعرت بدقات قلبي تتسارع، هل يعقل أن أجد هنا أحداً ممن يعرفونني؟ عدت لثمانية عشر عاماً وتذكرت يوم زراعة هذه الشجرة· - ماذا تفعل يا عم صالح؟ - أزرع شجرة· - لماذا؟ - حتى تعطي الشارع منظراً جميلاً·· توقف الطفل عند شتلات الريحان المنتشرة في الصف الأول من مسجد الحي·· والعم صالح وهو يمر ويترك الريحان في مجموعات ليتمكن المصلون من أخذه·· واقتربت من الباب الخشبي ومزيج من الخوف والشوق يحاصرني·· وبيد مرتعشة قرعت الباب وبعد وقت لم أحسنه خرج رجل عجوز قد انحنى ظهره، ونظر إليّ من خلف نظارته السميكة· - ماذا تريد يا بني؟ - أنا عبدالله يا عم صالح·· عبدالله ولد علي الريمي· - بدا لي أن العجوز لم يفهم ما أقوله له· - حاولت أن أقرب له الصورة·· كنت أقيم هنا في هذا الحي· - من تريد يا بني؟·· شعرت بمرارة في قلبي·· لقد نسيني الناس· - اختزلت الحديث معه وعدت أتنقل في الشوارع أبحث عن بقايا قلب بين الجدران· عبدالله بن علي السعد
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©