الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خاسر في الحالتين

خاسر في الحالتين
18 أغسطس 2011 22:30
استيقظت في الصباح الباكر قبل شروق الشمس على مشاجرة عنيفة بين أبي وأمي، لا أعرف سببها لأنني كنت نائما، ولأنني كنت صغيرا فلم أبلغ الرابعة من عمري بعد، المعركة كانت حامية الوطيس استخدمت فيها كل أسلحة الدمار الشامل والأسلحة المحرمة دوليا، من أدوات التنظيف وأدوات المطبخ والمائدة، وأيضا الضرب في الممنوع وتبادل اللكمات والصفعات في اي جزء من الجسد قد تصل اليه أيديهما، وإن كانت الغلبة لأبي بحكم قوته وتكوينه، ولأن أمي لا تريد أن تتجاوز معه فقط تريد أن تدافع أكثر مما تهجم، وتعوض ذلك بالصراخ والعويل وهي تستغيث الى أن حضر الجيران وأقاربنا الذين يسكنون بجانبنا، وتمكنوا من فض الاشتباك وإعلان الهدنة بعد أن تبادل الطرفان الاتهامات، وأنا لا أعرف سبب كل ذلك، وظللت ارتعد وقبعت في ركن أراقب عن بعد كل ما كان يحدث. الأمر لم ينته، فقد تركت أمي البيت وعادت إلى بيت أبيها من دوننا ونحن خمسة أطفال أنا أوسطهم وأعمارنا متقاربة، وبدأت الحرب الباردة دورها في بيتنا بعد أن تولت عماتي وجدتي النفخ في النار وهن يدفعن أبي نحو الخلاص من أمي ولابد من قطع دابرها لانها تجرأت عليه وتطاولت وتعدت كل الحدود، وهو يهيج ويثور حتى يخيل اليَّ انه سوف يهدم على رؤوسنا الدار ويبدو مقتنعا برأيهن ويسايرهن في الحوار الساخن، ويزيد عليه انه لابد من تلقينها درسا قاسيا، وتدبر الأمر لتكون عبرة لمن يعتبر، وتأكدت أن أمي لن تعود إلينا مرة اخرى واننا فقدناها الى الابد، ولا مجال للصلح الذي أصبح رابع المستحيلات. بعد ان هدأت العاصفة وتدخل أهل الخير من الكبار وأدلوا بدلوهم، تحدثوا عن الأمر بشكل مختلف ومغاير عن حديث جدتي وعماتي، رغم صغر سني لكنني استشعرت فيهم الحكمة والنوايا الطيبة لانهم يهدون الى الخير والسلام وعرضوا الأمر على أنه عادي ويحدث في كل البيوت ولا يكاد يخلو واحد من مثله، بل من الطبيعي ان يكون في البيوت مشاكل، المهم ان تكون لدى الزوجين القدرة على تجاوزها ويجب على كل منهما ان يتجاوز عن سلبيات الآخر فلا يوجد إنسان كامل وكل شخص لديه عيوب ومميزات، وعليه ان يحاسب نفسه قبل أن يحاسب الاخرين، واستطاعوا بعد جهد جهيد ان يقنعوا أبى ويتنازل ويلين ويوافق على إعادة امي، ولم أصدق ان هذا سيحدث فقد كنت فقدت الامل وأصابني الاكتئاب. لم يكن هذا الموقف هو الأخير بينهما وانما كان الأول الذي أتذكره بشدة ودائما لانه زرع في نفسي رعبا لم يخرج، وان كانت الخلافات والمشاجرات قد تكررت كثيرا بعد ذلك إلا انها كانت عندي مثل توابع الزلزال أقل تأثيرا من الهزة الأولى العنيفة التي لم أفق ولم أشف من أثارها، لأن المخاوف التي سكنت أعماقي كانت أقوى مني ولم أتمكن من التخلص منها، وهي التي تتحكم في كل حياتي. منذ ذلك الحين وأنا طفل مستكين يرعبني الصوت العالي، وأخاف من الكلاب والطيور والحيوانات والناس كل من هم أكبر مني، لا ألعب مع أقراني في الشارع ولا حتى مع أخوتي في البيت، ولم أعش طفولتي ولم أمر على هذه المرحلة العمرية مثل بقية خلق الله، وعندما التحقت بالمدرسة لم تختلف الحال وأجلس في الصفوف الخلفية ولا أخرج في الفسحة خاصة وانا ليس معي مصروف كباقي الصغار، أقبع في مقعدي من اللحظة التي أدخل فيها الفصل وحتى يدق جرس آخر اليوم فأحمل حقيبة الكتب وأتسلل خارجا لا أود أن اختلط بأحد، أكون مثل من يريد ان يهرب او يتخفى من شيء ما، وفي البيت انتحي جانبا استذكر دروسي الى ان أنام. أما ام المعارك فكانت عندما بلغت مرحلة الصبا، هذه المرة في المساء، كعادتي كنت اختبئ في احد أركان البيت معتزلا الجميع واندلعت الصرخات المتتالية في بيتنا انخلع قلبي لها قبل ان أعرف سببها، وهرولت بسرعة أسابق الريح لاستطلع الأمر فوقعت عيني على المشهد المرعب، النيران قد أمسكت في محتويات البيت ومحاولات حثيثة للاطفاء واختلط الحابل بالنابل وفي ظل هذه الأجواء ابي يكيل لأمي السباب وهو يتوعدها بالانتقام ويهددها بالموت، اعتقدت لأول وهلة ان ذلك لانه يريد ان يعاقبها على إهمالها لانها تسببت في هذا الحريق، ولكن بعد لحظات تبين لي ان الحريق شب بعد مشاجرة بينهما وكان يضربها فسقط المصباح البدائي من يدها فاشتعلت النيران التي تمت السيطرة عليها لكن لم تتم السيطرة على أبي وأمي. وتدخلت عماتي وجدتي لنزع فتيل الامان من البيت وسكب المزيد من النار على البنزين في علاقة أبي وأمي لتزيد احتراقا واشتعالا، وكالمعتاد يتدخل الحكماء ويعيدونها من بيت أبيها الذي ذهبت اليه غاضبة، وبعد عودتها لا تزول أسباب التوتر وانما كل منهما يتربص بالاخر، حتى كرهنا لقاءهما معا في البيت ونحن لا نعرف من الظالم منهما ومن المظلوم، الا ان المؤكد أننا الضحية في هذا الصراع المستمر. لم استطع ان أسامح جدتي وعماتي على ما تفعلنه بأسرتنا واصبحت بيني وبينهن فجوة كبيرة تزداد مع الأيام ومع كل موقف يتدخلن فيه، لا أرغب في رؤية أي منهن او بالاحرى كرهتهن خاصة وانا لا اقف على السبب الاساسي لموقفهن من أمي. أنا لا أبحث في هذه الخلافات عن المتسبب فيها، ولا اعرف ان كان أبي ظالما لامي ام أنها تستحق ما يحدث لها او العكس، فليس المهم عندي هذا وأنما المهم أن تنتهي هذه الأزمات التي لا تتوقف والمعارك المتواصلة التي لا تضع أوزارها وتندلع لاتفه الأسباب ولا نجدها عند غيرنا فنحن حالة شاذة وغير مسبوقة والدليل على ذلك ان أحد هذه المشاحنات كان بسبب الخلاف على خطبة إحدى شقيقاتي عندما تقدم لها أحد اقاربنا يطلب يدها فأبي وافق عليه بينما اعترضت امي لأسباب كانت من وجهة نظري وجيهة، وقامت الدنيا ولم تقعد كالعادة وعلم القاصي والداني وأصبح هذا الموضوع حديث الناس، فلا مجال بينهما للحوار والتشاور ولا لتقبل الرأي الآخر. كل من حولنا يثنون على هدوئي وكانوا يعتبرونني طفلا مثاليا بعكس كل من هم في مثل سني، وهم لا يشعرون بما أعاني وان هذا ليس خيرا كله على الاقل بالنسبة لي فانا غير مستقر نفسيا ولست سعيدا بهذه الحال التي هي أقرب الى الاكتئاب، وهذا ليس مطروحا للمناقشة فالاطفال عندنا كانوا على هامش الاهتمام وخارج بؤرة التفكير إما لكثرتهم وإما لعادات الناس في ذاك الزمان، ولم تتغير الأحوال وانأ في مراحل التعليم المختلفة حتى وانأ في الجامعة سلوكياتي كما هي إلا أن زملائي وزميلاتي كانوا يتحدثون كثيرا عن غرابة تصرفاتي والانعزالية التي اتقوقع فيها وفشلوا في معرفة أسبابها او إخراجي منها لان أسبابها أقوى مني ومنهم. عندما تحركت مشاعري نحو إحدى زميلاتي لم أجرؤ على التصريح أو التلميح لها وكتمت احاسيسي داخلي او بالاحرى دفنتها حتى لا يبدو لها اثر لأنني أرى أن ذلك من العيوب والتصرفات غير اللائقة لكن العيب فيَّ أنا، فقد تخوفت من النتائج فلو انها وافقت على الارتباط بي فانا لست مستعدا لذلك ولا أفكر في الارتباط على الإطلاق وقد لا يكون هذا الأمر واردا في ذهني، واذا رفضت أكون قد اضفت إلى مشاكلي مشكلة جديدة، حساباتي دائما هكذا ابنيها على كل الاحتمالات ومعظمها يثبت أنه خاطئ فيما بعد. كنت أبحث عن مفر لأهرب من هذه الأجواء، وفور تخرجي في الجامعة سافرت بعيدا أبحث عن عمل وعندما وجدته لم يختلف سلوكي عن ذي قبل فالحال على ما هي عليه انعزل جانبا اؤدي مهمتي في هدوء شديد، لا أتكلم مع أحد ولا أتدخل في أحاديث الزملاء ايا كانت. وما عجبت له ان كل الزملاء والزميلات المتزوجين ينقلون أسرار بيوتهم بكامل تفاصيلها لبعضهم، والاعجب انني لم أجد امرأة راضية عن زوجها وحياتها معه، ولم اجد رجلا مقتنعا بزوجته وتصرفاتها، اكاد اقرأ الندم في عيون الجميع ولو عادت بهم الحياة مرة أخرى ما اختار واحد منهم شريك حياته، ولا تخفى هذه التلميحات في كلام الجميع وأحيانا بعضهم يصرح بها، أصبحت لدي قناعة تامة بانه لا أحد من المتزوجين يعيش في استقرار، وان الزواج لا يعني الا الهموم والمتاعب والمسؤوليات، لا أجد الحب والرومانسية إلا في الأفلام القديمة والقصص والروايات، وأقول جازما إنها الآن غير موجودة. أبي وأمي رحمهما الله انتقلا إلى الرفيق الأعلى لكن لم تطو صفحتهما من ذاكرتي، لقد تخطيت الخامسة والاربعين من عمري، ومع التفاني في عملي استطعت ان أتملك شقة جيدة ومعي مبلغ لا بأس به يكفي لمصروفات الزواج ويزيد، وبجانب مشاكلي القديمة أعاني الوحدة القاتلة، أشعر بانني بحاجة الى امرأة تشاركني حياتي، وانا مقبل على الوقت الضائع من العمر، أجدني بين مخافتين، الأولى لو ظللت ثابتا على موقفي وانظر الى مآسي من حولي من المتزوجين، قد أندم بعد حين في وقت لا ينفع فيه الندم، والثانية إذا كررت سقطات المتزوجين فقد اقع في نفس مشاكلهم التي لا تخفى عني واراها أمام عيني وأعيش فيها منذ ان وعيت وجئت الى الدنيا، ولا أريد ان أكرر المأساة التي كانت بين أبى وأمي، والنماذج التي أعيشها من خلال زملائي وزميلاتي وبعضها لا يقل بشاعة حسب ما يقصون ويشكون.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©