الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نساء «غريندايزر»..

نساء «غريندايزر»..
20 ديسمبر 2017 02:45
لا يبحث السؤال هنا، في تعريف النّسويّة، بل ينحصر في محاولة للتعرف على المواصفات والاشتراطات التي بحضورها تُعد المرأة نسويّة، بافتراض أن ثمة مواصفات محددة. فكثيراً ما نُصادف تساؤلات استنكارية على شاكلة: «نسويّة وتفعلين أو تقولين هذا؟» وكأن للنسويّة كتالوجاً يعرّف بما يجب وما يجب ألا يُفعل ويُقال. وفوق هذا، فالتصنيف المعياري «للشخصية النّسويّة» لا يشمل المعاصرين فقط، بل يمتد لشخصيات تاريخية، للتعرف على أي من تلك الشخصيات كانت أكثر أو أقل نسويّة من مجايليها. مقارنات تتم بأدوات وذهنية الحاضر، لغائب لا نعرف عنه إلا ما أُريد لنا أن نعرفه. مع ضرورة الإشارة إلى وجود أفراد امتلكوا وعياً ونمط حياة أقل صرامة في الامتثال لمعايير الفروق الجندرية المتبعة في عصرهم آنذاك، ولكن تظل الصورة أقل وضوحاً من إمكانية إسقاط أحكام قطعية دقيقة. لذا، وتلمساً لوضوح أفضل، لعل من الملائم التركيز على الصورة الأقرب إلينا زمنياً. سنحاول هنا قراءة المواصفات، لا كما هي موجودة في الدراسات النّسويّة الأكاديمية، بل كما تُطرح شعبوياً بين المهتمين بالنّسويّة، للتعرف إلى الوعي الجمعي حول النّسويّة، وكيف تشَكَل هذا الخطاب في المخيلة. يتمحور الخطاب النسوي «الشعبوي» الحالي حول فكرتين أساسيتين: الأولى تتجسد في الافتخار والتباهي بالذات الأنثوية وتفخيمها على نحو مبالغ فيه، والثانية في التأكيد على الاكتمال الذاتي. ولكل من الفكرتين خطابها ومواضيعها وطبيعة الجدل الخاصة بها. تفخيم الذات أو تضخيمها تنطلق فكرة التباهي والافتخار بالذات، الأنثوية تحديداً، من فكرة نسويّة تسعى لتمكين المرأة عبر إعادة بناء للذات تجعلها أكثر ثقة وقوة، مع الأخذ بالاعتبار احتمال التطرف لدرجة التمركز حول الذات. ولكن بداية لنرى كيف تُقدم وتُصور فكرة الافتخار بالذات في الخطاب النسوي الشعبوي. مثلاً، نجد مطالبات لنساء، ممن تقع أجسادهن خارج مقاييس الجمال التقليدية، بالتباهي بجسدهن، أو التباهي بالبياض وهو يغزو شعورهن أو بوجوههن الخالية من المكياج، أو التباهي بالعمر الذي وصلنه رقماً، وكلما كبر الرقم، دلَّ على عظم شجاعة المرأة في الاعتراف والمجابهة، وبالتالي صدق نسويَّتها. التركيز على المظهر الخارجي للمرأة وصرامة اشتراطات ومعايير هذا المظهر، كان ولا يزال من ضمن مظاهر وأدوات القمع التي مُورست على المرأة. ولكن أليس الاحتفاء بـ (نقيضها المباشر) نوعاً من تقوية للفكرة ذاتها، ولكن من الجهة المقابلة؟ فمثلاً، في مجال الاعتراض على صورة الجسد المثالي الذي تقدمه الميديا عبر عارضات أزياء يرتدين ملابس بمقاييس معينة (10، 12)، نجد نموذجاً يتم تقديمه مؤخراً، باعتباره فتحاً نسوياً، لنساء أقرب إلى جاراتنا وزميلاتنا في العمل بل وذواتنا تختلف مقاييس أجسادهن عن المقاييس المكرّسة، وبصور أُحسن فيها استخدام الإضاءة واختيار اللقطة لتقول لنا: «بإمكانك أن تكوني جميلة حتى وإنْ كنت خارج مقاييس الجمال التقليدية». فهل في هذا تحقيق للخطاب النسوي؟ أليس هذا تذكيراً بتلك المقاييس؟ إنها كحملات مكافحة التدخين التقليدية والتي تنشر صور السجائر في كل مكان مع تحذير أسفلها، فهل أسهمت تلك الحملات في التخفيف من التدخين أم كانت محفزاً غير مباشر، وذلك عبر التذكير بلذة السجائر، كما كشفت بعض الدراسات في هذا المجال؟. قد لا يكون افتراضنا صحيحاً، وباعتبار تعدد الخطابات النّسويّة، فقد تُحقق هذه الطريقة هدفاً ما، ولكن يجب أن نعي أنه لا يشمل مُبتغى الخطاب النسوي. كلا الصورتان، ألا ترتكزان وتُركزان على أهمية امتلاك صورة لجسد جميل؟ والأخطر، جميل عبر أدوات وبعيون الآخرين. رغم ضرورة الاعتراف بأن الصورة الثانية تقدم إطاراً أكثر اتساعاً وتنوعاً لمفهوم الجمال، ولكنها تحمل الفكرة ذاتها. ثم ماذا إنْ كان هناك نساء غير راضيات عن أشكالهن؟ هل عليهن الشعور بألم مضاعف في هذه الحالة، ألم لعدم الرضا عن الجسد ولـ «خيانة» النّسويّة؟ هل يحرمن من صفة النّسويّة إذن؟ ولماذا يكون جسد المرأة والقبول به هو المعيار؟ مع الإيمان بأهمية الجسد وعياً به وبسطوته، ولكن الإشكالية في خطاب كهذا، أنها تحوله (الجسد) لمجرد غشاء خارجي، كثوب حريري جميل، مع أول نسمه هواء يتطاير ليكشف ما تحته، وقد يكون ما تحته مما لا يرضي صاحبته وتحاول إخفاءه، عبر طبقة شفافة من الحرير. كمعالِجة نفسية، أعي ما قد يحققه هذا الخطاب من أثر علاجي لدى عدد من النساء، ولكن التمادي به يصبح كما الوهم يُقدم للسعادة والرضا. فبمجرد خروج المرأة ذات المقاس (24 مثلاً) وفشلها في العثور على فستان أنيق وملائم، أو تعليق غير لائق من عابر طريق قد ينهار هذا الخطاب، فلماذا ينهار سريعاً؟ لأنه يحمل هشاشته بداخله، هشاشة تشابه هشاشة الإعلانات التجارية التي تريد تسويق كل شي، بما فيها النِّسويّة، لتصبح النّسويّة عاملاً إضافياً يستخدم ليُحفز على تسويق مضاعف لبضائع متعددة الأشكال والمقاسات. المرأة في هذا الخطاب ما هي إلا مادة للعرض أمام الآخر، يستعطف الآخر بطرق متعددة من إضاءة وخلفية وعبارات براقة، بعضها مُقتطع من أدبيات النّسويّة، كل هذا لجعل الصورة أكثر جاذبية للآخر، لا الذات. أي أنها تشتغل على ذات الآلية: تسويق الجسد الأنثوي، ولكن بمرونة أكبر في تقبلها لتعدد قياسات الأحجام وبتنوع خارجي براق. التصريح بالعمر الحقيقي مثال آخر للفكرة ذاتها، الافتخار بالذات، تتمثل في اعتبار التصريح العلني بالعمر دلالة على قوة الخطاب النسوي لدى المُصرِّحة. دائماً ما تتبع إحداهن، مع إعلانها عن عمرها، عبارة تفيد ما معناه: «المجتمع يتعامل مع النساء كمادة لها مدة صلاحية للاستخدام، وأنا أرفض هذا، لذا سأفصح عن عمري الحقيقي ولن أخاف». لنجد بعد ذلك عبارات الثناء والمديح تُلقى على المتحدثة. ولكن، ألسنا كبشر، نساءً ورجالاً، لنا «مدة صلاحية للاستخدام»؟ ألا تنص الدراسات على أن متوسط أعمارنا حالياً هو 75 عاماً؟ أليست هذه مدة صلاحيتنا للعيش = الاستخدام؟ أليست هذه حقيقة واقعية رغبنا بها أو لم نرغب؟ جسدنا يفنى، ونحن نفنى، وزيادة الرقم الذي نحمله دلالة على اقتراب هذا الفناء، فلماذا يُفترض بنا ألا نخاف ولا نهلع؟ وما المشكلة في أن نخاف من العمر ومن الكِبَر؟ هل علينا كنسويّات أن نكون خارج اشتراطات جسدنا البشري الفاني، وأن نتعالى على حقيقتنا الوجودية، لنستحق أن نكون جديرات بالنّسويّة؟ شخصياً، أعترف بأنني أخاف العمر والكبر، وما يحمله هذا من إحساس بالعجز والوحدة. ولتوضيح الفكرة سأطرحها بشكل شخصي بدل النقاش المجرد، لإيماني بتقاطع العام مع الخاص، وهو ما أحاول تكريسه في كل ما أكتب، فالذاتي أكثر صدقاً. المثال الأول عن أبي. رجل ستيني يحب الحياة بعمق ويُجيد خلق فرص للفرح بفلسفة ذاتية ملهمة وفريدة من نوعها. منذ سنتين كنت أتحدث معه، وبزلة لسان قال إنه في الأربعين من عمره، رغم أن أختي الكبرى، ابنته، في الأربعين. حين لاحظ صمتي المتفاجئ، مباشرة صحح زلته بقوله «في الأربعين منذ زمن سابق»- ولكنه لم يقل «الرقم»، لم يعلن عمره! من الواضح أنه حين زل لسانه بأنه في الأربعين، فإنه صرح بما يشعر في دخيلة نفسه من عمر. هو لا يكذب، ولكن هكذا يشعر. وفعلاً أبي من الشخصيات المشهود لها بكريم الخلق ونبل الروح. العمر بالنسبة له موضوع حساس جداً، وحتى الآن لا نستطيع مجابهته بعمره الحقيقي دون أن يبدو عليه الانزعاج. أليس هذا خوفاً إنسانياً مشتركاً؟ فلماذا نحمِّله بعداً جندرياً، ونجعله ذنباً، على النسويات الأصيلات التخلص منه؟ المثال الآخر شخصي وذاتي أيضاً. حين كنت أقيم في أميركا لم أجد حرجاً على الإطلاق في التصريح بعمري. فاشتراطات العمر هناك أقل صرامة بكثير مما هي هنا. حين عدت، عدت كامرأة، ومطلقة، وأم عزباء بالإضافة إلى سنوات العمر التي أحملها. هذا تطلب دائرة من الاشتراطات الحياتية المحددة مسبقاً من نمط اللباس ونمط السلوك وطبيعة الحياة. وفوق هذا كأستاذة جامعية يجب أن أخضع لاشتراطات أخرى تتعلق بدلالة المكانة الاجتماعية للوظيفة التي أشغل. ومع هذا، في الجامعة مثلاً، وجدتني أنسجم مع أحاديث الطالبات، فالطالبات رغم أنهن أقل خبرة وأكثر سذاجة إلا أن أرواحهن أكثر انطلاقاً، بينما الأستاذات، فرغم عمق تجاربهن، إلا أن أرواحهن معتقلة ببيروقراطية الوظيفة. في مجتمع مهووس بالتصنيف ووضع الأفراد في خانات مسبقة لتحديد إطار تقييميّ لسلوكهم، فإن المخرج لهذا هو محاولة إخفاء دلالات التصنيف بأكبر قدر ممكن، حتى نستطيع امتلاك إطار سلوكي ذاتي مرن نسبياً، بقدر ما نستطيع. إنه كمن يمسح اسم القبيلة من هويته هرباً من اشتراطات القبيلة. فإن كانت القبيلة بمفهومها الاجتماعي والأنثروبولوجي مؤسسة ذكورية تضعنا كنساء على الهامش، فإن أعمارنا كنساء، هي «قبائلنا» التي تحدد لنا ما علينا فعله. نحن كنساء مجالنا ضيق، ويضيق أكثر وفقاً لاعتبارات عديدة؛ وضعنا الاجتماعي، لباسنا، أعمارنا. فلعل في إخفاء العمر محاولة للحفاظ على بعض من الحرية الممكنة، إذ بذلك نلتف ونهرب من المطالبات بسلوكيات محددة تتطابق أو تتماشى والجدول العمري والسلوكي الملائم، كما صممه المجتمع مسبقاً لنا. وفوق هذا الاعتراف، أعترف، ودون أن يقلل هذا من إيماني بنسويَّتي، بالإضافة إلى كرهي للتصريح بعمري، أتأمل ملامح وجهي كل صباح، خوفاً من أي خطوط لغدر زمن أتى قبل أن أشعر وأستمتع بهذا الزمن. أفعل ذلك لأنني أحب الحياة، وأحب متعتها. لم أشبع ولم أرتو منها بعد، موقنة أن لحظات فرح كثيرة قادمة، لذا أخاف الكبر سريعاً. ألا يمكن أن يكون لهذا الخوف قراءة أخرى، أي أن يكون لحب الحياة، والشغف بها، امتداداً نسوياً يتمثل في كون المرأة هي من تمنح الحياة بالولادة والتجدد؟ وبهذا يصبح الخوف من الكبر ورفض التصريح بالعمر، فعلاً نسوياً بامتياز. خرافة الاكتمال الذاتي الفكرة الشعبوية الثانية في الخطاب النسوي تتمثل في التأكيد على اكتمال المرأة بذاتها المستوحدة كامتداد للنسويّة الحقة، فهل تكتمل المرأة؟ وهل يكتمل الفرد؟ أليس في هذا المطلب ادعاء مثالياً؟ هل تصل الذات إلى درجة الامتلاء والاكتفاء الذاتي؟ لمناقشة هذه الفكرة، لنرى كيف يتم التعبير عنها. غالباً يتم هذا عبر التأكيد على ضرورة تركيز النساء على النجاح الشخصي، المهني تحديداً، والتشديد على أهمية استبعاد الزواج كأحد أولويات الفتاة، ليصل إلى حد إعلان رفض فكرة الزواج. الرفض ليس نابعاً من نقد للمؤسسة الزوجية، باعتبارها إحدى المؤسسات المجتمعية التي تحتاج إعادة قراءة وتشّكل، كونها، أي المؤسسة الزوجية، ظلت محافظة على صورتها التقليدية، باستثناء تغير طفيف لا يتناسب وإيقاع التغيرات الفكرية ونمط الحياة الجديد الذي تتعرض له هذه المجتمعات. وهذا موضوع لمبحث آخر، بل يأتي هذا الرفض من نقطة أخرى تتعلق بتصور محدد عن النّسويّة. لا بد من التنويه، هنا، إلى أن المؤسسة الزوجية على مستوى العالم تتعرض لتخلخل، ما أنتج، خاصة في المجتمعات الغربية، مفاهيم ونمط علاقات بين الجنسين لا تتبع الشكل التقليدي للزواج ولكنها تشبع احتياجات الجنسين الإنسانية. في مجتمعنا، مجتمع البياض والسواد، حيث الأبيض لباساً للرجال والأسود للنساء، لا مجال لشكل آخر مقبول للعلاقة خارج دائرة الزواج، ومن هنا يصبح لرفض المؤسسة الزوجية في مجتمعنا تبعات أكبر على الأفراد، وعلى العلاقة بين الجنسين يفوق مجرد رفض المؤسسة الزوجية. ليصبح أقرب لفكرة رفض الآخر. فالرفض هنا يأتي من رفض الارتباط بالرجل، ورفض اعتبار الرجل/‏‏‏ الآخر شريك حياة. في مجتمع، تقليدياً، يعتبر العنوسة نقصاناً للمرأة والطلاق عيباً على المرأة الابتعاد عن شبحه، يصبح هدف المجتمع أثناء تنشئته للفتاة، تشكيلها وفق هذا التصور: إيجاد الرجل المناسب، ولنكون أكثر دقة، أن تكون هي جاهزه ليجدها الرجل المناسب، ثم لتصبح زوجة صالحة لهذا الرجل. هذا التصور يصبح منبعاً يُسهم في تشكيل القيم والعادات ونمط التوقعات لأفراد المجتمع، ما أصبح يُشكل ضغطاً مضاعفاً وغير مقبول على الفتيات في هذا العصر. ومن هنا فردة الفعل أصبحت ليس رفض الزواج باشتراطاته وقيمه ومفاهيمه التقليدية، وما يترتب عليه من إمكانية صنع بديل، ولكن رفض للشراكة مع الرجل ورفض اعتبار الرجل مكملاً للمرأة. ولكن هل من وجود للفرد الكامل، الذي لا يحتاج أحداً؟ فأي فرد هذا؟ وأي نمط حياة هذه؟ وهل بالإمكان تحقيق هذا؟ حتى المجتمعات الفردانية لا تعيش وفق هذا المنطق الواحد المستوحد. في لقاء جمعني بإحدى المثقفات، وهي ناشطة في المجال النضالي النسوي بصوت وحضور قوي وفعال. أردت، وبلؤم ثقافي، اختبارها بسؤالها على نحو مفاجئ وسط حديث النضال، وليس هناك أفضل من الأسئلة المفرطة ببساطتها لاكتشاف الآخر. سألتها: «في أثناء معركتك حول حقوق المرأة، وسفرك بين مختلف البلدان ولقاؤك أفراداً يشاركونك ذات الاهتمام والمشروع، هل صادفت الحب؟» المرأة التي كانت تتحدث وهي تنظر إليَّ مباشرة بثقة وإصرار، فجأة أخفضت رأسها وهمهمت بكلمات غير مفهومة، ثم غيرت موضوع الحديث. ارتباكها هذا يطرح التساؤل حول إمكانية ارتباكات خطاباتها الداخلية، وإنْ كانت خطاباتها الداخلية مرتبكة وتبعث على الخوف لدرجة الهمهمة ألا يجعل هذا، خطابها النسوي مرتبكاً وخائفاً؟ فعن أي اكتمال كانت تتحدث قبل قليل؟ كيف تريد تقديم خطاب مختلف عن السائد وتخاف من خطاب يسكُنها؟ قطعاً، لا أطالب باكتمال الخطاب النسوي، بل على العكس، أؤمن بلا اكتماليته وأرى ضرورة التواضع في هذا، لنكون بهذا أكثر واقعية وقرباً من حقيقتنا الإنسانية غير الكاملة. فإن كان التباهي المبالغ به بشكل المرأة الواقع خارج مقاييس الجمال التقليدي، يماثل فستاناً حريرياً جميلاً ولكن من السهولة كشف ما تحته، فإن خطاب رفض الارتباط بالرجل والحاجة له، يصبح كمدرَّعة تتحصن بها المرأة. المدرَّعة قوية، ولا تحركها نسمة هواء كما ثوب الحرير، ولكن لسقوطها دويٌّ عال! فخطاب «الاكتمال» هذا يستبطن فكرة أن الحاجة للرجل أو الرغبة بالحب تُنقص من المرأة ومن استقلاليتها. إن كان كذلك، فلعل المشكلة تكمن في إدارة الحاجة وتحقيق الرغبة، لا في الحاجة ذاتها أو في طبيعة الرغبة. وفق تفسير فرويد الإنكار هو حيلة دفاعية لا تُقر بوجود الشيء ولكنها بالوقت ذاته لا تملك القدرة على إلغاء أثره، ولأن الإنكار يجعل الحاجة غير واعية، فإن تأثيرها يصبح أقوى. فاللاوعي بمجهوليته، يصعِّب، إن لم يجعل من المستحيل، إرضاءها بشكل واضح ومباشر، وتعدد طرق ومحاولات الإرضاء دون تحقيق ذلك، يجعل حضور الحاجة أكثر إلحاحاً وأكثر ضبابية. ولا سبيل هنا إلا بمجابهة موضوع الإنكار والإقرار بوجوده. والمجابهة هنا يجب أن تأخذ شكل عملية علاجية، كما يحدث في عيادات التحليل النفسي، فهي تحتاج إرادة ووعياً، وما يتطلبه ذلك من تبعات. إنكار الحب أو الرغبة به، وإنكار الحاجة للرجل/‏‏‏ الآخر، حين ينتشر كخطاب جماعي لدى فئة، يصبح وفق هذا السيناريو حالة عصابية. فهذا الإنكار لا يعبر عن خيار فردي بل دلالة خوف جماعي. والخوف هنا هو خوف من استسلام لآخر، فلا ثقة بالآخر، والأهم لا ثقة بذات متصالحة وواعية بقوتها وبضعفها كذلك، وباحتياجاتها وطبيعة هذه الاحتياجات. هي تخشى مجابهة احتياجاتها، لأن إعلان الحاجة يتطلب الانتقال إلى الخطوة اللاحقة، وتقديم تصور جديد لكيفية واشتراطات تحقيق الحاجة. وهنا عليها أن تحمل تصوراً لشكل العلاقة مع الرجل وفق الفكر النسوي الذي تبنّته. رفض الخطاب التقليدي في شكل العلاقة مع الرجل، يترك فراغاً ما، ما يستلزم تقديم خطاب بديل، فهل تشكّل خطاب بديل مكتمل؟ هل تملك كل من أعجبها الخطاب النسوي، الحديث في مجتمعنا، تصوراً واضحاً لشكل علاقتها بالآخر؟ لا نتصور ذلك، لا تقليلاً من قدرة النساء هنا، ولكن لصعوبة تشكّل خطاب كهذا، دون تراكم ثقافي مجتمعي يحتاج زمناً لينضج. لذا، فإن إعلان الرغبة بالزواج، الشكل الوحيد المقبول هنا للارتباط بالرجل لتحقيق الاحتياجات الجسدية والعاطفية الطبيعية، قد يكون دليل قوة. ليس هناك أكثر قوة من امرأة تعلن استقلاليتها ووجودها الخاص، وفي الوقت رغبتها وبصوت عال بالارتباط بشريك يكون نداً ورفيقاً لها. هي لا تخاف حاجتها بل تضعها أمامها، وبهذا فهي تقول أنا أمتلك رغبتي، لا أنكرها، بل أنا واعية لها، وعليه أعرف كيف أُديرها وفق اشتراطاتي الخاصة التي تحافظ على استقلاليتي وتتماشى بالتوازي مع الخطاب النسوي الذي أمتلك. إنها كمن تُمسك قلبها بيدها أمام العالم وتكشف جسدها بلا خوف من شمس تحرق أو قمر يسحر. هذه المرأة تعلم أن حاجتها ونقصها لا يُضعفها، بل إن بحثها المعلن ومحاولاتها لملء النقص هو ما يمنحها قوة. هذا الوعي يجعلها تستطيع الانتقال للمستوى الآخر، محاولة التعرف إلى الرجل، ما الذي تريده من الرجل؟ وما شكل العلاقة معه؟ وأي نمط من الرجال يناسبها بما يحقق لها وله إنسانيتهما المستقلة ويحقق توازنهما العاطفي والفكري والجسدي المنشود؟. وقبل أن ننهي هذه الفقرة، لا بد من التنويه إلى أن اعتبار الرغبة بالزواج أو إعلان هذه الرغبة ليس دليلاً كافياً على نسويّة حاملتها، بل المقصود هنا هو التشديد على أنه ـ في السلوك الإنساني - لا يمكن حصر صفة أو سلوك ما بدلالة أو بمعنى واحد فقط، فالدلالات والمعاني تتعدد وتتقاطع بتقاطع الثقافات وتنوع الشخصيات الإنسانية وتجاربها الحياتية. فلا يغيب عن بالنا وجود نساء، ورجال أيضاً، لا يرغبون بالزواج، دون أن يكون لهذا دلالات عصابية تكشف ارتباكات مفاهيميّة لديهم، كالنّسويّة مثلاً. عدم الرغبة بالزواج في هذه الحالة هو خيار فردي، يجب احترامه بل ومحاولة الدفاع عنه لتمكين من ترغب ويرغب بذلك. ما نشدد عليه هنا هو أن الإشكالية تكمن في الإعلاء من قيمة الرغبة بعدم الزواج، لتصبح مؤشراً أو شرطاً من شروط اكتمال النّسويّة، في حين أنها، ومن منظور سيكولوجي، وفق طريقة التعبير عنها لدينا وطريقة إدارتها ليست إلا دلالة على عصابية جماعية لمجتمع مأزوم في علاقات أفراده ببعضهم بعضاً. هشاشتنا وضعفنا الإنساني جزء من حقيقتنا، وفي وعينا لحقيقتنا هذه تحقيق لاكتمال، اكتمال نسبي، إن كنا نُصر على مبدأ الاكتمال، فلا اكتمال تام متحقق. صيرورتنا الإنسانية تكمن في محاولاتنا لاختراع الذات. فلا وجود لهوية نسويّة مُنجَزة. ما نستطيع فعله هو إعادة تشكيل هوياتنا وفق القيم التي نشأنا عليها ووجودنا فيها، وكذلك القيم التي اخترناها، بتناغم جميل وصادق، وفي هذا يكمن مجال الإبداع الفردي لكل منا. الخوف من التقدم عمراً، ارتباكاتنا أمام اشتراطات مقاييس الجمال المحاصرين بها، وحتى ارتباكاتنا كنساء أمام ابتسامة رجل عابر أو حاجتنا الملحة لإيجاد شريك للحياة ما هي إلا محاولة لاختراع الذات عبر وعي بالفراغات التي في دواخلنا. هذه الفراغات هي جزء أصيل من إنسانيتا، فراغات تعكس وجودنا القلق. وجودنا القلق الذي نأمل أن يكون دافعاً لخلق عالم أفضل بقيم أجمل، بما فيها النّسويّة، فلا تعارض هنا. اعتراف اعترف، ودون أن يقلل هذا من إيماني بنسويتي، بالإضافة إلى كرهي للتصريح بعمري، إنني أتأمل ملامح وجهي كل صباح، خوفاً من أي خطوط لغدر زمن أتى قبل أن أشعر وأستمتع بهذا الزمن. أفعل ذلك لأنني أحب الحياة، وأحب متعتها. لم أشبع ولم أرتو منها بعد، موقنة أن لحظات فرح كثيرة قادمة، لذا أخاف الكبر سريعاً. ألا يمكن أن يكون لهذا الخوف قراءة أخرى، أي أن يكون لحب الحياة، والشغف بها، امتداد نسوياً يتمثل في كون المرأة هي من تمنح الحياة بالولادة والتجدد؟ وبهذا يصبح الخوف من الكبر ورفض التصريح بالعمر، فعلاً نسوياً بامتياز. إدارة الرغبة إعلان الرغبة بالزواج، وهو الشكل الوحيد المقبول هنا للارتباط بالرجل لتحقيق الاحتياجات الجسدية والعاطفية الطبيعية، قد يكون دليل قوة. فليس هناك أكثر قوة من امرأة تعلن استقلاليتها ووجودها الخاص، وبذات الوقت رغبتها وبصوت عال بالارتباط بشريك يكون نداً ورفيقاً لها. هي لا تخاف حاجتها بل تضعها أمامها، وبهذا فهي تقول أنا أمتلك رغبتي، لا أنكرها، بل أنا واعية لها، وعليه أعرف كيف أُديرها وفق اشتراطاتي الخاصة التي تحافظ على استقلاليتي وتتماشى بالتوازي مع الخطاب النسوي الذي أمتلك. إنها كمن تُمسك قلبها بيدها أمام العالم وتكشف جسدها بلا خوف من شمس تحرق أو قمر يسحر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©