الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إيتيل عدنان: الرسم الصامت

إيتيل عدنان: الرسم الصامت
20 ديسمبر 2017 02:47
حوار: ليونور شاستانييه* ترجمة: أحمد عثمان في 10 نوفمبر 2013، استقبلتني إيتيل عدنان في بيتها بباريس. كلّمتني عن الرسم، رسمها على وجه الخصوص بما أنها ترسم منذ ما يقارب الخمسين عاماً، وتقتني لوحاتها كبرى المتاحف الفرنسية في هذا الحوار مع إيتيل عدنان، الرسامة أولاً والشاعرة، تتداعى أفكارها حول كل ما يتعلق بفنّها وعلاقته بالحياة، ونظرتها إلى غيرها من الرسامين: إذا أراد شخص ما البدء في الرسم أو التصوير، من المهم أن يبدأ بمواد جيدة. لا يعني ذلك كوني متحذلقة، لأن المواد تتفاعل على ما نحققه. فضلاً عن ذلك، تستطيعون الرسم على ورق صحيفة، شيء طيّب، ولكنه قرار. الورق يمتص الألوان المائية أو الحبر. يشارك في الرسم. يصبح عنصراً من عناصر الجمال. تستطيعون استعمال قماشة سميكة للغاية، أو أقل سمكاً، أو منسوجة جيداً. كل هذا يتفاعل. ولا نعرف تأثيرها حقاً، وهو أمر طيّب حينما نجيد المهنة، نكتشف كثيراً من الأشياء. نفس الشيء لكل شيء، حتى في الطهي. الفن، أيضاً، مشاركة بين المواد وبينكم. مكامن الإلهام رسومي، أنابيب ألواني تلهمني مثل عقلي. أيضاً، هذا صحيح بالنسبة للغات. إذا كنت من مزدوجي اللغة سوف تلاحظين هذه المسألة. لا تفكّرين بلغات مختلفة مثلما تفكّرين بلغة واحدة. لست 100% نفس الشخص. هناك لغات لا يوجد بها مذكر أو مؤنث لبعض الكلمات. بنفس الطريقة المدينة التي تسكنين فيها تلهمك بوجودك. العالم الداخلي والعالم الخارجي يتحاوران معاً. كل واحد منهما يشكل الآخر. ترين العالم الخارجي عبر ذاتك، وجزء منك يمثل هذا العالم الذي يصوغك. نفس الشيء بالنسبة للرسم. هنا حيث أنت، الأشياء التي تحبينها، فلسفتك، موادك... كل هذا معاً. لا تتوقفين ولا تفكرين فيه، ولكن هو ذا حاضر. رسومي، هي كاليفورنيا. لدي صديق جاء لزيارتي، قال لي: «الآن، فهمت رسمك». مثلاً، على هذه اللوحة، روابي كاليفورنيا. في الخريف، قبل المطر، الأعشاب جافة والروابي ذهبية. من نافذتي، هو ذا ما أراه. سوف تقولين لي: «الرسم التجريدي ليس ما ترينه»، ولكن ليس هناك عالم مرئي، هناك فلسفة البلد الذي يحيطك. مثلاً، جاكسون بولوك، يمثل الطاقة الأميركية. كان يرسم وقتما كانت أميركا القوة الوحيدة في العالم. كانت تمتلك الطاقة التي لا تمتلكها اليوم. وهذا لا يعني أن بولوك كان مناضلاً، وإنما يعني أنه كان يمتص الدولة حينما كان يحيا ما كانه. والفضاء! الفضاء شيء غريب، فهمته حينما رأيت الطوابع البريدية اليابانية: حتى الطوابع البريدية تمتلك فضاء شاسعاً، وهذا حقيقي بالنسبة للوحاتي: صغيرة وإنما ليست ذات فضاء داخلي. لها فضاء ليس الفضاء الفرنسي. حضور الطبيعة الكبر يوجد في فرنسا، وإنما لا يراه الفرنسيون. ولا يوجد في نتاجهم. الطبيعة لا تمثل جزءاً من الفكر الفرنسي. إنه ألماني للغاية، ولكن ليس فرنسياً. الطبيعة الفرنسية رائعة في دقتها، جميلة للغاية، ولكنها ليست كبيرة للغاية. هناك استثناءات، مثلاً الانطباعيون. فضلاً عن ذلك، لا نتكلم عنهم بصورة كافية. حينما نتكلم عن مونيه، نعتقد أنه «جميل»، ولكنه «عظيم»! أجراف إيتريتا، رائعة! لوحات «نيمفيا»، عظيمة! لقد أمسك بالناحية الكونية لضباب لندن، وتلك ظاهرة كونية، ولكن على وجه العموم، المكان الذي نحياه مسألة جوهرية. المناخ! أنت في مناخ كأنك في المحيط تسبحين. إنه أعلاك. وهكذا، الرسم... نعم، هو ذا عالم الرسم. لا نعرف ما نريده حقاً، بالضبط، ونعرف ما نفعله بالضبط، فضلاً عن ذلك، دوماً، أنا مندهشة وأتسلى برؤية الناس وهم يشاهدون لوحاتي. يرون أشياء معينة أو تصيبهم ردود أفعال لا أنتظرها. مثلاً، هذه اللوحة، قبل ثلاثة أيام، قال لي أحدهم أنها لوحة إيروتيكية، وأنا لم أفكر في هذا الشأن، رسمتها منذ ما يقرب العشرين عاماً، ولم يرها أحد كذلك، إنها روابي! هناك الشعور أيضاً. أحياناً، يقول الناس إن لوحة معينة حزينة بينما لا أراها كذلك. وحتى في الأدب، بينما تتقاسمين معهم نفس الكلمات. حينما تقرئين قصيدة ما، ترين أنها تقول شيئاً ما، وآخر يقول إنها لا تقول أي شيء، وهذا ما يجعل العالم مثيراً للاهتمام، كل شيء غير كامل نوعاً ما، كل شيء يتغير. رد فعلك إزاء لوحة معينة لن يكون نفس الشيء بعد عشرة أيام أو عشر سنوات. لنتناول ظاهرة السينما، حينما كنت في الثانية عشرة من عمري إلى الثلاثين عاماً، كانت السينما بالنسبة لي هي الحياة. الهروب هو الحياة الحقيقية. اليوم، ظاهرة السينما تثيرني بصورة أقل، تضجرني، أرى أن الأفلام... سيئة، سطحية، نرى أسرار المهنة. على الأقل ليس مع غودار. من قبل، الذهاب إلى السينما، لا يهم ما كنت أراه، وإنما كان السحر. فضاء بيكاسو أرى بيكاسو في جميع لوحاته. هناك فضاء بيكاسو، هناك حدة بيكاسو. نقول إن هناك نوراً غير محتمل في كل لوحة. حدة. خطوطه صارمة، موجودة. هناك وجود، قوة، في أقل خط، في ضربة الفرشاة، مما يدفعنا إلى القول: «إنها لبيكاسو». رسمي ليس بالضرورة حكمه الأمثل، ولكنني متأكدة من توفر قليل من المقتطفات في نتاج كل شخص، أياً كان المجال. هناك شيء سحري نطلق عليه الشخص، الذي يجعلنا نعمل ونكون طبيعيين. أن يكون المرء طبيعياً، أي لا يفقد الخيط الذي يربطه بشخصه، هو ذا ما يجعله طبيعياً، أن لا يفقد نفسه، وهذا يتأتى في كل ما نقوم بعمله. يطلق عليه «أسلوبك»، ولكن «الأسلوب» يشير إلى طريقة العمل، أفضل الكلمة «حساسية»، «شعور»، وذلك هو الجوهري. ربما يكون هويتك ببساطة. ولذلك تقولين: «نعم، هذه اللوحة لفلان»، هل فهمت؟ هناك تواصل بين الذوات، لحسن الحظ، ولكن إذا جرى تغيّر، هناك خيط موصل لا يتغيّر. الجبل ليس واحداً. يتغيّر بلا انقطاع، بسبب النور، يتغيّر تحت نظرك. يتغيّر أيضاً لأنك تغيرينه، وبالتالي تتغير نظرتك. ولكن، هل يعتبر هذا التغيير جوهرياً أو متطوراً؟ أعتقد أن المهم هو إن اهتمامك بالجبل لم يتغير. إذا أحببته على الدوام، لا يتغير، ويكون نفس الجبل. المأساوي أن لا تحبيه. إنه ميت. وهكذا تتغير نظرتك دوماً. حينما يتلاشى اهتمامك. هناك أشخاص كانوا يتحابون بجنون ولكن فجأة ينظر كل منهما إلى الآخر بنظرة أخرى... شيء رهيب. هذا يجري مع حبك للسينما، أو المسرح، أو الجبل. فجأة، إذا لم يقل الجبل لك شيئاً، تكون نظرتك تغيّرت لأنك تغيرت كلياً. النظرة وسيلة لكي تكون نفسك. إنها لغز صعب حينما يتحقق. لا مبالاتك. حينما تتعلق الذوات بشيء، من الممكن تجاوزه، ولكن حينما تتعلق بالذوات، الأمر مأساوي. لأنها لا تتحقق لدى شخصين في نفس اللحظة، أحياناً لا تحدث لدى أحدهما وإنما تحدث لدى الآخر. على وجه العموم، لا أحب البورتريهات، لا تثير اهتمامي، فقط بورتريهات رامبراندت أو البورتريهات الذاتية لكبار الرسامين. شيء مؤثر، ولكنها ثابتة. وأتساءل إذا لم تكن على هذا النحو. مثلاً، لا أحب رؤية صور الأشخاص على الحوائط. أشعر بأنهم ينظرون إليَّ. هل هم موجودون أم لا؟ وتلك هي المشكلة. لا أرغب في رسم بورتريهات. أحب المناظر التجريدية. خطوط القوة. الرسم والشعر بدأت بالكتابة. في العشرين من عمري أحببت القصيدة أكثر من أي جنس آخر، بل لم أكن رأيت رسماً من قبل. في جيلي، لم يكن هناك الكثير من الرسم. التقيت بالرسم في سن الثالثة والعشرين، الرابعة والعشرين، في باريس. ذهبت إلى «الأورانجوري» لرؤية «نيمفيا»، وسبحت داخلها. ضعت. نسيت ما هو المكان، وأن هناك أناساً. لا أقوم بشيء بصورة منهجية، أدخل أحياناً إلى الغاليري المقام بشارع «دو سين». لا أفكر، ولكن أحب كثيراً. وبعد ذاك، أحببت نيكولا دو ستيل للغاية. حينما أزور «اللوفر»، أنظر إلى «التيتيان». أتأمل هذه اللوحات الكبيرة، تتحدث إليَّ كثيراً. تمتصني. بالنسبة لي، الرسم محيط، ونحن نغطس إلى أعماقه. حينما نكون عشاقاً للمرة الأولى نغطس، بيد أننا لا نعرف أين نحن موجودون. أحب المحيط، حتى وإن لم أغطس فيه. «الغطس» في الأشياء. وحينما ألوّن أغطس في الألوان. وهذا هو، في الحقيقة، الفن، الموسيقا، كل ما تحققينه. ولهذا يكون مأساوياً حينما لا يتحقق، لأنك تغطسين بصورة صائبة، من دون معرفة وجهتك. إذا غطست كثيراً، لا تستطيعين العمل، وإذا لم تغطسي ليس هناك شعور، لا شيء. من اللازم العمل برفقته. من اللازم أن يعرف المرء كيف يفقد نفسه. من الممكن القول، بالنسبة لرسومي، أن الأحجام الصغيرة لها علاقة بشيئين. في البداية، لديَّ دوماً مشاكل في الظهر، غير محتملة، وأجريت عملية في الظهر. خطأ طبي، تم استئصال فقرة سليمة، وأعاني من الروماتيزم. تمَّت معالجتي ثانية. ولذا ظللت ممددة على الفراش لستة أشهر، مثلاً. هذا «النقص» الجسماني، ولكن هناك أيضاً الفعل، كما أعتقد، بما أنني تعاملت مع الكتابة والقماشة مثلما تعاملت مع الصفحة. أتذكر أنني حينما بدأت الرسم، في عام 1959، كنت أقطع القماشة بالمقص، وأبسطها على الطاولة، من دون دعامة. هناك علاقة مباشرة بالمساحة. بنفس الطريقة أشتغل بالمقص أكثر من الريشة، مقاومة المساحة واضحة للغاية. وبذلك، لرسمي علاقة بالكتابة. علاوة على ذلك، كتابة على اللوحة. لغة تصبح مرئية. الرسم فكر. عن المعنى درّست فلسفة الفن. أعرض على طلبتي لوحات كاندنيسكي، وكانوا يقولون: «لا تعني شيئاً». قلت لهم: «إذا أنصتُّم إلى الموسيقا، لن تقولوا إنها بلا معنى. ومع ذلك، لا تستطيعون ترجمتها بالكلمات». اكتشفت هذه المقارنة لكي أفهمهم أن هناك أفكاراً غير شفاهية. إنها ليست فكراً منذوراً للترجمة. من الممكن التعبير عن مشاعرك بالقول: «هذا جميل»، «أحب»، «هذا مصنوع جيداً»، «معقول»، ولكن ما الذي تعنيه هذه الكلمات حقاً؟ بالتأكيد، إذا كنت تتحدثين عن موضوع معين: «كم هي السماء رائعة!»، ولكن ليس هذا هو اللوحة. اللوحة أكثر من صورتها. من الممكن الكلام عن اللوحة. وبالمثل، من اللازم الكلام. لأنه يوقظ الاهتمام، نرى الكثير من الأشياء، نقترب من معناها. ولكن هذا لا ينفد، لا يمكن إحلاله، لا ترجمة. على وجه العموم، معناها الحقيقي موجود بداخلها. تظل مرئية، تظل لوحة. مثل الموسيقا، من اللازم الإنصات لها. من الممكن قول هذا الكلام، ولكن لا شيء يحل محل الفعل الذي حققها مثل الموسيقا. تقولين عن لوحة لرامبراندت: «كم هي جميلة، رهبة كبيرة حققت هذه اللوحة»، ولكن تظل هذه اللوحة التي تشاهدونها غامضة. لا، يجب الكلام عنها. لا يتم تخريب خافيتها إذا عرفنا الكلام عنها بصورة طيبة. حتى وإن الأشخاص الذين يبدعون لوحات لا يعرفون الكلام بدقة عن لوحاتهم. إنهم يهربون منها بصورة ما. من الجميل أن يكون الرسم صامتاً. سوف أقول كما أقول عن الموسيقا، شيء عجيب. رحلة فنية ولدت ايتيل عدنان في بيروت عام 1925 لأم يونانية وأب سوري. درست في المدارس الفرنسية في لبنان، ثم تابعت دراساتها في السوربون، باريس، حيث درست الفلسفة. في عام 1955، رحلت إلى الولايات المتحدة كي تواصل دراستها الفلسفية في بركلي، ثم في هارفارد. في آخر الأمر، استقرت في كاليفورنيا، حيث درست الفلسفة في «دومينكان كوليج أوف سان رافائيل» حتى عام 1972. بعد ذاك، أخذت ترتحل بين العديد من البلدان: لبنان، الولايات المتحدة وفرنسا. بدأت ايتيل عدنان بالكتابة منذ كانت صغيرة، إذ شغفت بالشعر. ثم متأخراً، في عام 1959، بدأت في الرسم. ................................................... هامش: (*) Léonore Chastagner, La peinture silencieuse - Entretien avec Etel Adnan. -مقال منشور على موقع الروائية الفرنسية المعروفة، كريستين آنغو. http:/‏/‏www.christineangot.com/‏rendez-vous/‏universitaires/‏la-peinture-silencieuse-entretien-avec-etel-adnan
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©