الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فول وفلافل

فول وفلافل
5 سبتمبر 2014 20:00
الدكتور زكريا أستاذ جامعي مرموق وعالم كبير، وقد ظهر مراراً في التلفزيون، كما أنه يُدعى إلى أي مؤتمر في الخارج حول الإبستمولوجية أو الأنطولوجيا العربية أو الهرميونيطيقا الفكرية، وهو ينتمي لأسرة نبيلة يتكرر فيها أكثر من اسم من الأسماء المؤثرة في التاريخ المعاصر. مشكلة الدكتور زكريا غريبة بعض الشيء، هي أنه يعشق الفول والفلافل. لا مشكلة جسيمة هنا فكل المصريين مثله، لكنه يعشق التهام هذه الأطعمة على عربة فول. كلما كانت العربة أفقر وشكلها أكثر بؤساً، كلما كان الإغراء أقوى. لا توجد مشكلة كذلك، لكنه كان من أسرة أرستقراطية تجد أن هذه الأمور عار حقيقي، ولعله كان يفضل أن يقبض عليه في بيت سيئ السمعة، على أن يراه واحد يعرفه وهو يأكل على عربة فول. كان يحاول النسيان. . يحاول الكف عن هذه العادة البذيئة. حاول أن يدمن الخمور والنساء حتى ينسى عشقه الشديد للفول والفلافل، لكنه اكتشف أن كل الشهوات في العالم تذبل. . بينما الشهوة المتجددة دائماً هي شهوة الطعام. هناك يقف أمام عربة الفول يرتجف، ويمرر أنامله على الخشب المدهون بألوان بدائية حمراء وخضراء، مع عبارات تجعله يوشك على البكاء من طراز (كُل واشكر) و(العين صابتني ورب العرش نجاني). يقف البائع أمام زجاجات السحر التي تحوي الشطة والتوابل والزيت. يهرس الفول هرساً وينثر فوقه البهارات كأنها تعويذة فرعونية قديمة، ثم يصب مقادير محكمة يعرف سرها من تلك الزجاجات الغامضة. . ثم يملأ طبقاً صغيراً من المعدن، وينتقي بعض البصل والمخللات ورغيفاً ساخناً طازجاً كالأرض الطيبة التي أخرجته. بعد هذا يسحق بعض أقراص الفلافل مع الطماطم والطحينة ليحشو بها رغيفاً آخر ويضع كل هذا في صحفة أمام د. زكريا. لا ينسى أن يضع أمامه طبقاً مليئاً بالسلطة الخضراء والمزيد من الخبز. عندما تنتهي هذه الوجبة الجهنمية، يكون من الضروري ومن حق بدنك عليك أن تذهب لأقرب مقهى، لتطلب كوب شاي ثقيل بالنعناع. لو لم تفعل هذا لأطبق الفول على روحك وخنقها. هذه الطقوس كانت عشق د. زكريا وحلم حياته. بالطبع لم يكن يستطيع أن يمارسها في بلدته حيث يعرفه الجميع. من السهل جدًا أن يقف جواره طالب من تلاميذه يأكل ثم يصيح بفم مليء بالفول: ـ»دكتور زكريا !. . . لا أصدق !» اعتاد كلما غادر مدينته أن يخرج ليقصد أقرب عربة فول يجدها. في أكبر المؤتمرات الجامعية، كان ينسحب في صمت من الفندق الفاخر، تاركاً البوفيه المفتوح بكل ما فيه من خيرات، ويفتش في الأحياء المجاورة عن عربة فول واحدة. يقف ليلتهم كل ما يقدر عليه، شاعراً بأسى لأن لديه معدة واحدة فقط، وعندما يعود للفندق يتساءل زملاؤه عن سبب اختفائه، فيقول إنه كان يقوم بجولة سياحية سريعة. هناك قانون من قوانين مورفي يقول: «تزداد فرصة لقائك لأناس لا تريد لقاءهم، إذا كنت في مكان لا تحب أن يراك أحد فيه». وهذا ما تعلمه بالطريقة الصعبة. كان من الصعب أن يقف ليلتهم الفول دون أن ينظر له الواقف جواره نظرة الشك الذي لابد أن يعقبه اليقين. . ثم . . . دكتور زكريا ؟ . . ماذا تفعل هنا ؟،لم أتصور أنك تأكل على عربات الفول مثلنا ! مع تكرار ظهوره التلفزيوني تعلم أن كل الناس يعرفونه، وعند أي عربة فول سوف يسأله أحدهم: «ألم نرك في التلفزيون أول من أمس ؟». هكذا قرر أن عليه أن يضحي بالظهور التلفزيوني وصار يعتذر عن أي لقاء. كما صار يحرص على ألا يضع صورته على أي كتاب له، أو مرفقاً بأي مقال ينشره. كان يأمل أن ينسى الناس صورته، وصار يحرص على أن يلبس عوينات سوداء عندما يقف على عربة فول برغم أنه كان يعجز عن رؤية الطبق الذي يأكل فيه نفسه. في النهاية نجحت في أن أقنعه أن غرابة الأطوار جزء مهم من تكوين الفنان. كل العباقرة لديهم غرابة أطوار معينة، وأحمد شوقي أمير الشعراء كان يدخل السينما في الدرجة الثالثة (الترسو) – لأنه ضعيف البصر ويكره ارتداء العوينات - وبيرم التونسي كان يجلس على المقهى يتكلم عن الطبخ، وبيتهوفن لم يكن يستحم . . الخ . . فما الضرر في أن يقف عبقري مثله على عربة فول ؟ في النهاية بدأ يقتنع . . صار يفعل ما يروق له . . إلى أقصى حد. وقد رأيته مؤخراً يمشي في الشارع ببدلة مبقعة تساقطت كل أزرارها . . وحذاء ممزق ونظارة ألصق ذراعها باللاصق. . وبدا لي أنه لم يمشط رأسه منذ عقود. أدركت أنه نفذ نصيحتي حرفياً إلى أبعد مدى ممكن . . ربما اقترب من الجنون أو جن فعلاً. . لكنه على الأقل سعيد. سعيد إلى أن يصل به الجنون لدرجة تجعل عربات الفول تمنعه من الأكل عليها ! د. أحمد خالد توفيق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©