الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من مدونة نورة الشمسان http://www.norah-s.com

9 فبراير 2010 20:20
لم أشعر بأني سافرت فعلاً ، للأسف لم أكتشف ذلك إلا مؤخراً حين قاربت على العودة، اكتشفت أني حين كنت أحزم أمتعتي كانت الهموم تندس بينها كجزيئات هواء لئيمة خالية من الأكسجين ، مليئة بثاني أكسيد الكربون، وبمجرد أن فتحت حقيبتي هناك، تسابقت الهموم هاربة من الحقيبة ملتصقة بي ! وأنا التي لمحت الأمل في بياض السحب التي التصقت بشباك مقعدي في الطائرة ، كدت أسترسل في جوابي للمضيفة حين سألتني إن كنت أريد شيئاً: - كوب ماء لو سمحتِ .. وبسرعة .. هناك بذرة أمل صغيرة أريد أن أسقيها علها تنمو بمجرد وصولنا .. لكن أجبت بكلمة واحدة : - ماء . أكثر الأشياء إيلاماً أن تكون في مكان آخر جسدياً ، مكان جدير بأن يخلق لك جواً رائعاً لولا أن مابداخلك يجعل كل حركة تبدو مصطنعة وكل ابتسامة تبدو باهتة باردة وكل اندهاش يبدو مجاراة لمن أدهشهم الأمر حولك .. ببساطة أن تشعر بأنك أنت نفسك الذي كنت في منزلك بالأمس، رغم تبدل الهواء وتبدل المكان . لم تفارقني تلك الجزيئات اللئيمة حتى حين وقفت لمدة طويلة أتنفس الهواء الرطب وأبصر المدى الأزرق لعله يفك ذلك الاختناق ، ولكن دون جدوى ، أشياء أكبر من أن تنفك عني نحو ملوحة البحر فتعطي الأكسجين فرصة ، أشياء تعلم أني لا أنفك أفكر بها ! ، لاتلبث أن تثبت انتصارها علي كل مساء حين أضع رأسي على الوسادة فأسمع ثرثرة أختي في الهاتف لصديقتها عن المكان الذي كنا فيه قبل قليل ، التفت إليها ، أغمض عيني ، أحاول تذكر ماتقوله ، أفتح عيني برعب مشوبٍ بالحزن لأني ببساطة لا أذكر أني شاهدت ماتقوله ، أو بمعنى آخر ربما شاهدته لكن لا أذكر أني استمتعت به كما تصفه هي ، أذكر أن المكان كان مزدحماً الأصوات كثيرة ومختلطة ، كان هناك أغنية أحبها أذكر مناظر كثيرة دون إحساس ، أكان المكان جميلاً إلى هذا الحد ؟ ألهذه الدرجة كنت موجوداً هناك شكلياً ليس إلا ! أغمض عيني وأدس وجهي في الوسادة هروباً من التصديق ، وفي كل صباح أستيقظ وأنسى لوهلة أين أنا ! قاربنا على العودة وما زلت كل صباح أظن أني في غرفتي ! ماكان ينبغي أن أسافر معكم ، سامحك الله يا أمي ، ما ضر لو بَقِيتُ في الرياض ، على الأقل سأعيش بشكلٍ طبيعي ، لن أحتاج لثوانٍ كل صباح أفسر فيها لنفسي أين أنا ، لن يكون هناك مكان لم أره كما يراه الآخرون ، فكل الأماكن مألوفة ، كل الأحداث روتينية تحدث كل يوم ، كل الأشياء منطقية بالنسبة لي .. هل كنت أشاهد أفلاماً كوميدية كثيرة وقتها لأنسى ، أم لأن الكوميديا تجعلني أعود لطبيعتي لدقائق حين أضحك ؟ - أحد يناظر أفلام وهو مسافر ! .. الناس تطلع .. تتمشى .. - أدري .. أدري ، ورب البيت «أدري» كيف يجب أن يكون السفر ، لكني تركيبة عجيبة هذه الأيام وكتلة روتين لم تأبه بتغير المكان ! لا أدري كيف مر ذلك المساء الغريب حين التقيت بخلود في مقهى «سيراميك»، لقاء غير متوقع جاء محض صدفة تواجدنا في المكان ذاته ، أعلم أن اللقاء لم يكن كما يجب لأني ماكنت أنا وقتها ، كنت مازلت أعيش حالة التأمل الصامت في الأشياء لذلك دهشتي لم تسعفني لأخبركِ أني استمتعت كثيراً بذلك اللقاء أكثر من استمتاعي بقطعة الـ«تشيز كيك» التي كنت ألتهمها ذلك الوقت وأنا أسمع ثرثرتك الجميلة ، أتعلمين ، ذلك المساء كنت أضع أصابعي في فمي محاولة عمل «تصفيرة» كتلك التي تفعلينها ولم أنجح ، استلقيت وأنا أضحك على بابا رحت ولا لسى ! وأتخيل شكلك وأنتِ تركضين وتكادين التعثر بملابسك ! ربما ذلك اليوم أحسست بشيء مختلف أفضل ، شيءٍ سريع وجميل .. لكن الأيام التالية كانت تشبه ماقبلها ، السفر دون رغبة يشبه السكن بغرفة جميلة جداً لكنها لاتدل على شخصيتك ، فلا أنت استمتعت بجمال الغرفة ولا أنت وجدت نفسك فيها .. أفرغت حقيبتي بيأس على سريري وأنا مستسلمة تماماً لتلك الجزيئات اللئيمة لتلتصق بي مرة أخرى بعد أن سافرت معي واستمتعت ، وكما توقعت لم يكن هناك هواء بحري بين طيات الملابس ، لم يكن هناك أكسجين دافئ ، لم يكن هناك سوى جزيئاتي الملتصقة ! أخرجت قميصي الذي اشتريته من محلٍ يبيع قمصاناً جميلة بـعبارات عربية ذات تصميم جميل ، أذكر أني أطلت التأمل في المحل لحيرتي بين العبارات وأيها سأختار، لبست القميص الذي كتب عليه بخطٍ جميل من الأسفل .. «الحرية» .. تنفست بعمق، مرة أخرى سأسافر دون حقيبة ، لعلي أسافر فعلاً .. بشكلٍ منطقي .
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©