الثلاثاء 7 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مسرحيات المشكلة عند شكسبير

مسرحيات المشكلة عند شكسبير
17 نوفمبر 2010 19:29
يعرف النقاد أن مسرحيات المشكلة عند الكاتب والشاعر وليام شكسبير هي أربع: “هاملت” و”ترويلوس وكريسدا” و”خير كل ما ينتهي بخير” و”كيل بكيل”. فثمة عوامل مشتركة تضع هذه الأعمال في دائرة واحدة: فمؤلفها اهتم في كل منها بالفكر التأملي وبملاحظة الطبيعة الإنسانية كغاية في حد ذاتها، وكل منها يتحدث عن رجال على حافة الرجولة، وعن الخبرات القاسية التي تجبرهم على أن يتمردوا على واقعهم. وربما يكون أكثر من درس وناقش وتحدث عن مسرحيات المشكلة عند شكسبير هو الدكتور أ. م. تيليارد بروجون في كتابه “مسرحيات المشكلة”، وهو أحد المحاضرين في الأدب الإنجليزي، والمهتمين بالدراسات الكلاسيكية، والنزعة الملحمية في الرواية الإنجليزية. كما هو معروف فإن مسرحية “هاملت” تقوم على مشكلة تخص الأمير الدنماركي هاملت، والباحث عن قاتل أبيه، وهو عمه كلوديوس، وتنتهي بموت عمه وأمه جرترود وأوفيليا حبيبته، إلى جانب موته بسيف مسموم في معركة مدبرة من قبل عمه الملك. أما مسرحية “ترويلوس وكريسيدا” فتدور في مدينة طروادة أثناء حصارها المشهور. وتطرح المسرحية مشكلة الخيانة في الحرب والسياسة والزواج. ومسرحية “خير كل ما ينتهي بخير” تطرح مشكلة جندي جبان يخدعه زملاؤه في السلاح بلا رحمة ويسخرون منه، إلى جانب طرح مشكلة الصراع الطبقي بين الأفراد. وتصور مسرحية “كيل بكيل” مشكلة العلاقات الخاطئة بين الأفراد. يقول ل. ج. بوتس في كتابه “الملهاة” عن مسرحية المشكلة إنها “تعالج المواقف التي تنشأ في المجتمع، ببساطة، كمشاكل خلقية أو سياسية، على نحو مجرد ودون إشارة إلى الخصائص التي تتسم بها الطبيعية الإنسانية”. بينما يقول تيليارد إن اصطلاح مسرحية المشكلة اصطلاح مزدوج الدلالة في استخدامه، كما أنها تحمل في ثناياها بعضاً من ألوان القتامة، وهو في هذا يتفق مع ج. سيسون في حديثه عن أسطورية أحزان شكسبير، كما يتفق مع ر. و. تشيمبرز في ملاحظاته التمهيدية التي قدم بها لمسرحية “كيل بكيل” وذلك فيما يختص بالسنوات الأولى من حكم الملك جيمس الأول. ومهما يكن من أمر فإنه يمكن لنا ملاحظة بعض المظاهر عند شكسبير في هذا المجال: يظهر أن شكسبير من خلال تلك المسرحيات الأربع معني إلى حد كبير بالعقيدة الدينية والتأمل المجرد أو بالاثنين معاً. وقد أورد مثل تلك الاهتمامات لأغراض درامية، فحينما صور هاملت، وضعه في موضع حيرة الإنسان المربكة بين الملاك والوحش، فأمه جرترود التي تزوجت بسرعة من عمه الملك كلوديوس بعد موت والده، قد لاحت له أسوأ من وحش يعوزه العقل والمنطق (...) كما أنه في هاملت يعجب ويطرب لشعوره بأعاجيب الحياة وتنوعها، لأنه كان مهتماً بدرجة عالية بالتفصيلات المتحركة في أذهان شخصياته الرئيسة. وفي مسرحية “كيل بكيل” يتناول شكسبير خيط الرحمة والمغفرة بكل إخلاص ودون أدنى تهكم، وهو يعرض علينا كثيراً من الشر، ولكن ليس فيها ما يشير إلى ان الشر هو القاعدة الثابتة. وإذا تم اكتشاف أي خلل في شكسبير فهو خلل في التكنيك وليس في الحالة النفسية، وعلى ذلك فإن هذه المسرحيات إنما توجد بينها نغمة جادة تصل في بعض الأحيان إلى حد الكآبة، كما أنها تنم عن وعي حاد بالشر ولكن دون أن يغلب عليها التشاؤم. اهتمام مسرحيات المشكلة واضح تماماً في مجال مراقبة وتسجيل تفاصيل الطبيعة البشرية، ومثل هذا الاهتمام موجود بطبيعة الحال في معظم مسرحيات شكسبير، ولكنه إنما يوجد فيها على أنحاء ودرجات بالغة الاختلاف، ففي مسرحياته التاريخية الباكرة تطل نفحات واضحة من الواقعية، على نحو متقطع من خلال الشخصيات الأقل شأناً في مراكزها الاجتماعية، كما في شخصية (كيد) في مسرحية “هنري السادس” (هو جاك كيد، قتل عام 1450 وكان زعيماً للثوار، وقد زحف بهم على لندن بتحريض من يورك، ويظهر في الجزء الثاني من مسرحية “هنري السادس”) ولكنها موجودة على نحو لا يقل رسوخاً عما هو الشأن في أي موضع آخر. وفي مسرحياته الأخيرة (“العاصفة”، “حكاية الشتاء”) فإنه على الرغم من تحكمه المطلق في هذا العنصر الواقعي إلا أنه يخضع لتقديمه الرمزي للشخصيات كما هو الشأن في منظر التمثال في مسرحية “حكاية الشتاء”، وقد كان في المسرحيات التي تتضمن مشكلات نفسية أو إنسانية خالصة مولعا بشدة بمراقبة وتسجيل تفاصيل الطبيعة البشرية والحالة ولهذا أدخل (المونولوج النفسي) في حوارات شخصياته المترددة أو الحائرة في اتخاذ قرار مصيري، على نحو ما نراه لدى هاملت الذي اكتشف أن عمه كلوديوس هو قاتل أبيه، ولما قرر قتله وجده يصلي في أحد أركان قصره، فوقف معبراً عن تردده في اتخاذ القرار بمونولوج فردي نفسي أفصح من خلاله عن كل المرارة والقلق وما يعتريه من حزن وصلت إليه النفس البشرية. أما إبداعية شكسبير في تصوير المشهد الذي يحمل مشكلة المسرحية، فإنه بارع وحاذق في تصوير المناخ والمزاج العام، وكأنه قد فوجئ بما يحدث للشخصية، كما أنه يجعلنا نتخيل كم فوجئ بجاذبية المشهد الإنساني كمشهد شائق في حد ذاته، وكيف أصبح أكثر استعداداً منه في أي وقت مضى لأن يكتفي بتسجيل ما لاحظه دون أن يخضعه لأي موضوع كبير غلاب. الاتجاه الجديد الذي تحدثنا عنه، نراه أيضا في مسرحية “هنري الرابع”، ومن المحقق أنه بمجيء الوقت الذي كتب فيه شكسبير رائعته المشهورة “عطيل” صارت الملاحظة لديه، رغم صفائها وتألقها، تخضع لخيط المسرحية الأساسي خضوعاً صارماً. أما في الفترة التي تخللت ذلك فقد كانت شخصيات: هاملت وترويلوس وبرترام وأنجيلو، تجسد كلها اهتمام مؤلفها واستمتاعاته بتنويعات الذهن الإنساني وإمكانياته وتصوير ذلك في إطار مسرحي جذاب وشمولي أمكن له من خلاله خلود أعماله المسرحية حتى يومنا هذا. هاتان المسألتان ـ الفكر التأملي، وإعمال الذهن الإنساني ـ اللتان يعالجهما كغايتين في حد ذاتهما إلى حد كبير، هما ما يميزه عن غيره ككاتب، وخاصة عندما يتناول مشكلة فرد ما في إحدى مسرحياته، ففي مسرحية “هاملت” مثلاً نرى خيطاً يتردد حول (الشاب الذي تلقى صدمة عنيفة)، فمنذ افتتاح الستارة للوهلة الأولى نجد أن الأمير الشاب هاملت يتلقى أول صدمة، حينما يواجه شبح أبيه الذي يطلب منه ان ينتقم له من قاتله، وقبل أن يمضي وقت طويل على ذلك يكون قد تلقى الصدمة الثانية، ممثلة في زواج أمه من عمه، وتحرك هاتان الصدمتان المسرحية بأكملها. وفي مسرحية “كيل بكيل” يتلقى (كلوديو) صدمة في حبه وعلاقته مع الآخرين. وفي “ترويلوس وكريسيدا”، يتلقى ترويلوس صدمة انفصاله عن حبيبته كريسيدا وصدمته الثانية تكون في وقوفه على خيانتها له. إنها صراعات داخلية مركبة بعناية، وبمزيج من الدلالات والمعاني في الجمل المركبة والمواقف المدهشة، تشير إلى ان شكسبير كان من خلال تلك المسرحيات مهتما إلى حد كبير بأنماط مختلفة من الشباب الذين هم على حافة الرجولة، وبالخبرات القاسية التي ترغمهم على أن يشبوا عن الطوق. حتى أن هاملت في بداية المسرحية يبدو متسماً بكثير من الجاذبية والرقة والمثالية الحساسة، وهي سمات تنتمي كثيراً إلى فترة المراهقة، لكن سرعان ما نجده يبلغ مرحلة النضج تدريجياً مع سير الأحداث في المسرحية التي عدها النقاد من أروع ما كتب شكسبير حول مؤامرات القصور. المشاهد التي تتم في الليل أو الظلام، من المشاهد التي احتلت حيزاً مهماً في كتابات شكسبير، ذلك لأنه كان يعتقد أن أخطر مراحل نمو الشخصية وتطورها يتم في الظلام، فإذا كان هاملت ينمو أساساً في المسرحية فإن هذا يتم بصفة رئيسية أثناء الليلة التي مثلت فيها مسرحية (مصرع جونزاجو) داخل القصر وكانت بمثابة لعبة قام بها هاملت من خلال قيام فرقة المهرجين التي استقدمها واتفق معها على تقديم مشهد القتل الذي حل بأبيه حتى يكتشف آثار هذه اللعبة المسرحية على عمه كلوديوس وأمه جرترود. وبعده وخلال الليل أيضاً أخذ يتحدث لأمه بصراحة عن شكوكه في مقتل أبيه وأنها لعبت دوراً في ذلك. وفي غياهب الليل فرض على ترويلوس أن يشهد خيانة كريسيدا له، ونحن هنا ندرك مدى أهمية أن تنمو الأحداث والانفعالات الإنسانية أثناء الليل بصمته وقلقه، وظلامه وما سينتج عن ذلك من تأثير على سير الأحداث وتركيبة الشخصيات والحبكات وصولاً إلى ذروة الأحداث المسرحية وتفريغ الشحنة الدرامية بما يتناسب ورؤية المؤلف للموضوع والمشكلة المطروحة. إن شكسبير كاتب كبير وعميق وشديد الصلة بالغوص في أعماق النفس البشرية، فهو حين يعالج مشكلاته في مسرحياته فإنه يرتكز على عدة أجيال من الشخصيات القديمة والجديدة وعادات التفكير، والأمزجة، وبالطبع فإن هذا قد أتاح لشكسبير خلق عوالم تتزاوج في مشكلاتها وطبائعها، حيث نجد العالم الوسيط القديم لريتشارد الثاني يوضع جنباً إلى جنب مع عالم هنري الرابع الأحدث عهداً، ونفس هذا النوع من التقابل بين الطرواديين والإغريق في مسرحية “ترويلوس وكريسيدا”، فالطرواديون من الطراز القديم، فرسان في عصر لم يعد يؤمن بالفروسية، تعوزهم الفاعلية، والإغريق هم الرجال الجدد الذين لا يرحمون، وعلى الرغم من ميلهم إلى الشجار والكدر إلا أنهم أكثر فاعلية من الطرواديين. وفي “خير كل ما ينتهي بخير” نجد التقابل ما بين الشيخوخة والشباب، هذا إلى جانب عناصر مثل التأثير الشعري، والصورة المسرحية، والغنائية، والموسيقا الداخلية في بناء الشخصيات، والمونولوج النفسي، والتوازن الرقيق ما بين المشكلة والمعادل الموضوعي، كما أفاد منه تي. اس. إليوت، وكلها سمات وعناصر استثمرها شكسبير في وضع أسس لمسرحية المشكلة، القائمة على حساسية لغوية فائقة قلما تجد مثلها عند كاتب مسرحي حاول إقامة فن درامي باق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©