الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مطية اللسان

مطية اللسان
28 أكتوبر 2006 23:37
سعاد جواد: suad-jawad@hotmail.com لا أدري لم يتهمني الناس اتهامات باطلة· في الحقيقة، لا أحد يترك الآخر في حاله، الكل لديه فضول شديد يأكل القلوب· يقولون إنني لا أدع أحدا بحاله· لا أدري لم يطلقون علي مثل هذه الإشاعة! فأنا رجل بسيط، لا علاقة لي بأحد، ولم أتسبب يوما في إيذاء أحد· لماذا إذن يستعيذون بالله من لساني؟ هل لأنني أقول الحقيقة؟ يبدو أن الذي يقول الحقيقة مكروه في هذه الايام· البلاء كله من زملائي في العمل، إنهم يشيعون عني الأقاويل، ومديرنا يصدقهم· هذا الإنسان الغريب··· إنسان معقد، لم يحببني أبدا، و منذ أن رآني أول مرة كرهني··· ولا أعرف السبب· يقولون عنه - والله أعلم- بأنه قد تزوج امرأة لا يحبها ولا تحبه· أمه هي التي اختارتها له· ويقال إنه امتنع عنها لثلاثة أشهر بعد العرس، ثم حملت منه وأنجبت له ولدا معاقا يقال إنه مات بمجرد ولادته· ويقال أيضا إن المرأة أصيبت بعد ولادتها بمرض غريب بسبب حمى النفاس وفقدان الولد وعلمها بأنه معاق ويقينها بأنها مفروضة على زوجها فرضا· كل ذلك أدى إلى إصابتها بالجنون· ويقال أيضا بأن الرجل -وهو مديرنا طبعا- ونتيجة لكل تلك الأحداث الغريبة في حياته أصبح معقدا لا يحب أحدا ولا يريد مساعدة أحد· وقد أصبح غليظ القلب لا يرحم موظفيه الطيبين البسطاء أمثالي· ولا أخفيكم القول فإنني لست مقتنعا مئة بالمئة بما قيل عنه· فقد شاهدته بنفسي في أحد الأيام وهو يلاعب أطفاله في قسم الألعاب بأحد المراكز التجارية· وكانت زوجته إلى جانبه يتجاذبان الحديث بانسجام كامل· في الحقيقه كلام الناس لا ينتهي وأنا أعتقد أنه قد تزوج هذه المرأة بالسر، وهي ليست زوجته الأولى· فهو لا يريد أن تعرف أمه أنه تزوج من أخرى غير تلك المجنونة التي اختارتها له بنفسها· قلت في نفسي: عيب أن أشاهد مديري خارج نطاق العمل فلا أذهب وأسلم عليه، حتى لو حاول تجاهلي فالأصول هي الأصول· توجهت نحوه فاتحا ذراعي لاحتضنه والسلام عليه بحرارة تليق بمركزه، ولكنه تجاهلني وكأنه لا يعرفني· حاول أن يدفع زوجته وأولاده للخروج وصار يتصرف بارتباك شديد، كأنه قد فعل فعلة شنيعة يخاف منها· أسرع بالابتعاد عن المكان بعد أن رآني فأيقنت ساعتها بأنه إنسان غير سوي يقوم بتصرفات غريبة· المواجهة في اليوم التالي طلبني مديري إلى مكتبه· كان متجهما معي وقال لي بعصبية· ما هذه القصص التي قمت بتأليفها عني؟ كيف تتحدث عني أنا مديرك أمام جميع الموظفين بهذا الشكل؟ هل تعرفني؟ هل تعرف أسرار حياتي؟ من أطلعك عليها؟ أنت والله إنسان عجيب· أكدت له أنني لم أتحدث عنه بشيء وإن من نقل له كلاما عني هو كاذب وأنا على استعداد تام لمواجهته· اتصل بأحد زملائي وطلب منه الحضور· أسرع هذا الأخ بالمجيء فورا سعيدا ومنتشيا· إنها فرصته التي ينتظرها للتقرب من المدير· عندما دخل هذا الموظف سأله المدير عن كل ما تحدثت به اليوم أمام زملائي فأعاد عليه الشريط كله، فشعرت بالإحراج وحاولت تكذيبه ولكن المدير كان ضدي على طول الخط· خرج الموظف وعلى وجهه ابتسامة شماتة كبيرة، نظر إلي المدير نظرة شر أحرقتني بلهيبها فشعرت بالخوف يتسرب إلى جميع أوصالي· قال لي بعصبية: لن تفلت من عقابي أبدا· اذهب من أمامي الآن وسأجد طريقة مناسبة لمعاقبتك كي لا تعود لتلفيق الأقوال على غيرك· خرجت من عنده أضرب يدا بيد· ليس ذنبي إن تحدث ذلك الموظف بهذا الشكل· هذا الموظف بالذات يقال عنه - والله أعلم - بأنه منحوس··· أي نعم··· فقد خطب أكثر من عشرين فتاة، أو ربما أكثر من ذلك، ولم تقبل به أي واحدة منهن· يقال بأنه مسحور، ويقال بأنه كان على علاقة بفتاة، وكان يحبها بشدة، وبعد ثلاث سنوات من الحب اكتشف أنها رخيصة تبيع جسدها لهذا وذاك وتقبض الثمن··· ومن ساعتها كره النساء كرها شديدا· منذ ذلك اليوم أصبح منحوسا ومعقدا، فهو عندما يذهب لخطبة فتاة ما يلح في السؤال عنها حتى يمل منه أهلها ويطردوه· ويقال أيضا إنه كان عاقا بوالدته وقد دعت عليه بالنحس وعدم التوفيق، وهاهو لم يحصل على أية ترقية طوال فترة عمله، كما أنه لم يوفق في الحصول على زوجة على الرغم من وصوله إلى سن الثلاثين، وقد امتطى مطية النحس وتمسك بها· خرجت من مكتب المدير وأنا متضايق جدا لأنه هددني، ولا أدري هل سينفذ تهديده لي أم لا··· وماذا يمكن أن يفعل بي؟ ربما سيطردني من العمل، أو ربما سيخصم مبلغا من راتبي، فهو رجل قاسي القلب، ويقال إنه قد ورث القسوة عن أبيه، وإن والده كان يضرب أمه بوحشيه حتى ماتت المسكينة، عندها ندم الأب ونصح أولاده بعدم القسوة، فسمعوا كلامه إلا مديرنا، فقد تمكنت القسوة من أعماقه فامتطاها وجعلها مركوبه المفضل طوال الوقت· مواساة إحدى زميلات العمل وجدتني متجهما، مكفهر الوجه، فسألتني عن السبب، فبقيت ساكتا أخشى أن أتكلم بشيء فيساء فهمي، فتذهب هذه الزميلة بقول جديد يزيد من اشتعال فتيلة غضب المدير ضدي· فهذه الزميلة ليست هينة أبدا··· يقال بأنه قد تركت بلدها وجاءت إلى هنا سعيا وراء الثروة، وعندما دارت ولفت في أرجاء الدولة لم تجد من يتولاها بالإنفاق، فهي لا تملك رصيدا من الجمال، واضطرت للقبول بوظيفة بسيطة لا تحقق أيا من طموحاتها· ويقال أيضا إنها لا تسأل عن والدتها المريضة وإخوتها الصغار، وهي تعلم جيدا بأن لا مصدر لهم للرزق سواها، بعد أن مات والدها وتركهم أيتاما· كما يقال، بأنها تنفق راتبها على أدوات التجميل وعمليات الشد والمد من أجل أن تشتري الجمال الذي ستمتطيه إلى الثروة التي تحلم بها· كما يقال أيضا··· بأنها رسمت على مديرنا خططها ورمت شباكها ولكنه لم يكترث لها لأنه غير معجب بشكلها· عموما، فهي على الرغم من كل الأقاويل، طيبة بعض الشيء، وهي الوحيدة التي تسأل عني، لولا مطيتها التي تمتطيها باستمرار وهي البحث عن الجمال والثروة· طلبات وعقوبة كنت متوترا وأنا أفكر بكل هذا الذي يحدث اليوم، والعقوبة التي سأتلقاها من مديري· ناديت الفرّاش كي يجلب لي كأسا من الشاي لأعدل به مزاجي المتعكر· هذا الملعون، لماذا يتلكأ دائما بالاستجابة لطلباتي؟ لا أدري لم يتصرف معي أنا بالذات بهذا الشكل، مع أنني لم أفعل له شيئا· يقال عنه - والله أعلم- بأنه لم ينجب إلا بنتا واحدة وهو يربي أولاد أخيه وهو يدعي بأنهم أيتام· إنه يجمع المساعدات من الموظفين من أجل الإنفاق عليهم· ويقال إن كل ذلك خداع وإنه لم يتكفل بأحد من الأيتام وإنه يجمع المال من عندنا ليبني له عمارة في بلاده· هؤلاء الناس يضحكون على ذقوننا ويبتزون إنسانيتنا وتعاطفنا وحبنا للخير· والله أنا لم أعطه فلسا واحدا··· فليذهب إلى الجحيم· ما أدراني إن كان صادقا في كل ما يدعيه؟ إنه يستدر المشاعر بإحضار صور أولاد أخيه الأيتام ·· لربما كانت صورا لأطفال جيرانه؟ فقد قيل بأن فراشنا هذا يتحول إلى ''دون جوان'' ولديه علاقات مع نساء متزوجات وغير متزوجات· عموما مالي أنا وما لهذا الإنسان، المهم أن يحضر لي الشاي بسرعة فرأسي يكاد ينفجر· آخر النهار انتهت ساعات الدوام المملة وعدت الى منزلي كي أرتاح من هؤلاء الناس الذين لا يعرفون الرحمة أبدا· كنت أمني نفسي بأكلة شهية تعدها زوجتي ولكني وجدت بأن المنزل خال منها فلا أحد سوى الصغار، وعندما سألتهم عن أمهم أخبروني بأنها ذهبت لعيادة أمها المريضة· المشاكل لا تنتهي أبدا· في العمل وفي البيت··· سأنفجر من شدة الغضب··· كيف تنسى نفسها هذه المرأة وتبقى عند أمها كل هذا الوقت؟ هل نسيت بأن عليها مسؤوليات وأنني أعود من عملي مرهقا أحلم بوجبة شهية وجلسة هانئة ونوم مريح؟ بالطبع لا شيء من هذا سيحدث· فكيف أنام وأنا أشعر بالجوع بهذا الشكل؟ زوجتي هذه بليدة جدا· قبل أن أتزوجها نصحني الناس وحدثوني عن شدة غبائها· قالوا إنها لم تستطع أن تنهي أية مرحلة دراسية بنجاح وأنها كانت تعتمد على الغش طوال دراستها ولولا الواسطة لما أكملت الإعدادية· كما قالوا إنها لا تجيد الاعتناء بنفسها وهي تبدو غير نظيفة وغير مرتبة باستمرار· للأسف فقد استمعت لكل هذه الأقاويل وأصررت على الارتباط بها وهذه هي النتيجة· لقد بقيت متمسكة بغبائها وجعلته مطية لها تمتطيها طوال الوقت· وعلى الرغم من تجاهلي لإهمالها المستمر لمظهرها ولبيتها وأولادها إلا أنها تتمادى بلا أدنى شعور بالمسؤولية· كل ذلك بسبب الغباء· كيف لم تفكر بي و بأولادها وتبقى عند أمها كل هذا الوقت؟ الهاتف يرن بصوته المزعج فيزيد من توتري· ترى من يتصل في مثل هذا الوقت؟ إنها زوجتي··· آه يا إلهي··· إنها تنبئني بموت والدتها··· رحمها الله· هي امرأة مسنة ومريضة، الموت راحة لها··· الأفضل أن أسرع لأداء ما يتوجب علي للمساعدة في دفنها· ياللكارثة··· علي أن أطلب إجازة من عملي للوقوف في العزاء··· ترى هل سيوافق مديري على الإجازة؟ سأخبره بأن عمتي هذه هي بمثابة أمي، وأنها تعني لي الشيء الكثير، على الرغم من أنها كانت رحمها الله سليطة اللسان، لا ترحمني أبدا· لقد هجرها جميع أولادها بسبب لسانها الطويل وأصبحت كخرقة بالية مكومة على فراشها لا تدري عن الدنيا· كل شيء فيها معطل إلا لسانها، تلذع به كل من يمر من أمامها· يقال إنها اضطرت للعمل كبائعة في السوق بسبب هجر زوجها لها، وكانت تصرخ طوال الوقت لتهش الأذى من حولها ولتزين نفسها بالقوة لتحافظ على سمعتها بين الناس· ويقال إن أولادها عندما كبروا منعوها من البيع في الأسواق وأجلسوها قي دارها معززة مكرمة ولكنها اعتادت على هذه المهنة فأخذت تبيع البضائع سرا في بيوت الجيران· بقيت العجوز محافظة على لسانها السليط وصراخها وجعلت العصبية مطيتها· لقد رحلت وتركت المطية واقفة بانتظارها في العالم الآخر· أما أولادها فيقال إنهم كرهوا السمعة التي تأتيهم من اشتغال أمهم بالبيع والشراء فغادروها ليعملوا بعيدا ويتحججوا بانشغالاتهم فلا يزورونها إلا في المناسبات· ويقال أيضا بأنهم اعتمدوا على أنفسهم باختيار الزوجات وأنهم أقاموا أعراسهم بلا تدخل منها، وقد أخبروا أنسباءهم بأنهم أيتام وأن أمهم قد رحلت بعد رحـــيل والدهم مباشرة وأنهم اعتـــمدوا على أنفسهم في العمل والدراسة حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه· لم يبرها أولادها في حياتها ولا أعتقد بأنهم سيبرونها عند موتها··· وسأكون وحيدا في جنازتها··· ماذا أفعل؟ يقولون اعمل المعروف وألقه في البحر· لكل منهم مطية يمتطيها وأنا مطيتي هذا اللسان الذي أمتطيه كل وقت فتذهب أعمالي كلها هباء بسببه· أنا إنسان طيب ولكن لساني يتحرك في كل صوب فينقل الكلام هنا وهناك فتأتيني المصائب التي لا قبل لي بها··· ماذا أفعل؟ هذه مطيتي التي تعودت على امتطائها ولا مطية لي غيرها·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©