الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في موكب الوداع

في موكب الوداع
18 نوفمبر 2010 20:46
من الطبعى أن يتشوق الإنسان إلى أشياء في الحياة وجرت سنة الله أن يذهب هذا الشوق بمعايشة هذه الأشياء أو الحصول عليها . وعلى النقيض من ذلك يكون الحال في شوق الإنسان إلى فريضة الحج والذهاب إلى بيت الله الحرام ، يتشوق الإنسان إلى هذه الفريضة ، ويتوقد فؤاده إلى زيارة تلك البقاع المقدسة ، ثم يمن الله سبحانه وتعالى عليه بالذهاب إليها، والإتيان بشعائر ونسك فريضة الحج ، وهنا يكون السؤال هل روى الإنسان غلته ؟ وأذهب شوقه الذي وجده في قلبه قبل الذهاب والرحيل إلى بلد الله الحرام؟ الإجابة القطعية لا ، وسبحان مقلب القلوب فهذه الفريضة إذا ما اشتاق إليها الإنسان ، وأتى بنسكها فإنه يزداد شوقاً إليها ، وحرصاً على المداومة عليها ، ولا غرابة في ذلك فالحاج لدى رجوعه من أداء نسكه يودع أشياء ثلاثة هى : الزمان والمكان والنسك والمشاعر . ولكل منهما أثره ووهجه في نفسه وفؤاده . أما الزمان فيعرفه العلماء بأنه مجموعة الحركات المتعلقة بجسم ، أما بالنسبة للحاج فإنه يلبسه مفهوماً جديداً يتعلق بوقت معين فيه يتعرض الإنسان إلى الفيوضات الربانية والاشراقات الإلهية التي تتعرض لها نفس الإنسان ، فتنعكس على الروح صفاءً ، وعلى السلوك استقامة وجمالاً . من أجل ذلك قرن الله سبحانه وتعالى الحج ومناسكه بوقت معين أساسه الطهر والتقوى . يقول سبحانه «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ» البقرة 197. بل إن الحق سبحانه وتعالى خص من هذه الأشهر أياماً بعينها ، أعلى الحق سبحانه وتعالى من شأنها ، ومن ثم أقسم بها حيث قال سبحانه «وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ» الفجر 1-2. وهى الليالى الأول من شهر ذي الحجة، وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشرة . فقالوا يا رسول الله : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ فقال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» . هكذا يودع الحاج الزمان متمثلاً فيما انعكس على روحه وسلوكه من إشراق وطهر ونور . أما المكان فللإنسان معه حوارات عجيبة ؛ فالمكان يتصوره البعض على أنه هو ما يحوي الجسم ، ويتصوره البعض كذلك على أنه حجر أصم لا حياة فيه ، ولكن المؤمن على وجه الخصوص يتصوره على أنه كائن مفعم بحياة خاصة به قوامها التسبيح والخضوع لله تعالى . ومن ثم قول الله سبحانه «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «الإسراء 44 . وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حق جبل أحد «أحد جبل يحبنا ونحبه» . والمكان هنا في الحج هو مكة والمدينة . فالحاج عندما يودعهما، لا يودع ذات المكان الأصم ، وإنما يودع طرقات ودروبا ووهادا وطأتها قدم النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام ، وكأنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسير في تلك الأماكن والبقاع، وفوق ذلك يودع بلاداً حفرت قيمتها في أعماق قلب النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقف مشرفاً عليها عند الهجرة قائلاً في حق مكة المكرمة «والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله ، وأحب بلاد الله إلى نفسي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» فعلى كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله ورسوله، وكيف لا يكون كذلك والنظر إلى بيت الله الحرام عبادة ولأجل استشعار حرمة بلد الله الحرام كان قول ابن العباس» لأن أذنب سبعين ذنباً في غير مكة أحب إلى من أن أذنب بها ذنباً واحداً « . أما المدينة المنورة فهي مهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا ما ودعها الحاج فإنه يودع موضعاً قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابن عمر «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإنه من مات بها كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة» . وقال صلى الله عليه وسلم عن مسجدها في الحديث المتفق عليه «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» أما المشاعر والنسك فإن الحاج عندما يودعها يودع في حقيقتها قربات أخذت بيده إلى رحاب الله سبحانه ، فالإحرام والتلبية من الميقات تعني إجابة لنداء الله عز وجل ، يرجو الإنسان بها الإجابة والقبول حتى أن علي بن الحسين رضي الله عنهما لما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه ووقعت عليه الرعدة ، ولم يستطع أن يلبي ، فقيل له : لم لا تلبي ؟ فقال : أخشى أن يقال لي : لا لبيك ولا سعديك . فلما لبى غشي عليه ووقع عن راحلته فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه . وأما وقوع البصر على البيت ففي حقيقته استحضار لعظمة رب البيت ورجاء أن يرزق لذة النظر إلى وجه الله الكريم في الآخرة ، كما رزق لذة النظر إلى بيت الله الحرام في الدنيا . وأما الطواف فإن الحاج يودع ركناً قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الحاكم «استكثروا من الطواف بالبيت فإنه من أجل شيء تجدونه في صحفكم يوم القيامة ، وأغبط عمل تجدونه» أما عرفة فإنه يودع من خلال هذا اليوم شعيرة اطلاع الله تعالى على أهلها فباهى بهم ملائكته قائلاً لهم : انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ، أشهدكم يا ملائكة أني قد غفرت لهم. وهكذا سائر المشاعر والنسك بما يحويه من فيوضات ورحمات يودعها الإنسان بقلب يتوقد لوعة وشوقاً لما آنس فيها من رضوان وقرب من الله ، ومن ثم يقف الحاج مودعاً الزمان والمكان والنسك يخاطب ربه بقوله « اللهم إن البيت بيتك ، والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى سيرتني في بلادك وبلغتني بنعمتك حتى أعنتني على قضاء مناسكك ، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإن تكن الأخرى فلا تحرمني عفوك ورحمتك ، اللهم هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ، ولا راغب عنك ولا عن بيتك . اللهم اصحبني العافية في بدني والعصمة في ديني، واحسن منقلبي، وارزقني طاعتك أبداً ما أبقيتني ، واجمع لي خير الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير . اللهم لا تجعل هذا آخر عهدي ببيتك الحرام وإن جعلته آخر عهدي به فعوضني عنه الجنة» . د. محمد عبد الرحيم البيومي كلية الشريعة والقانون جامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©