كينيا··· فوضى من تحت الأنقاض

طيلة 40 عاما ظلت كينيا جالسة على قنبلة قدر لها أن تنفجر مؤخرا، بسبب الانتخابات الرئاسية الشرسة التي يدور بشأنها الآن نزاع حاد وجدل مرير، جعلا أمة كانت ذات يوم معتزة بنفسها تندب حظها، وتحصي قتلاها، وتزيل حطامها، وتغلي بالغضب· بيد أنه يمكن كذلك النظر إلى الفوضى العارمة التي استمرت في كينيا زهاء شهر، على أنها كانت نوعا من التطهر، أو الضريبة الضرورية، التي لا بد منها حتى تنبعث مجددا من بين أنقاض الفوضى، بدلا من أن تنحدر إلى هاوية الإبادة الشاملة على نحو ما حدث في رواندا· هذا المنظور الأخير كانت له تجليات، منها تلك الحالة من الراحة العميقة التي سادت يوم الجمعة الماضي، عندما خففت حكومة الرئيس ''موي كيباكي'' المحاصرة، وحزب المعارضة الذي يقوده ''رايلا أودينجا'' من ادعاءاتهما السابقة بشأن الفوز بالانتخابات، بل إن وكالة ''الأسوشيتد برس'' نسبت لمفاوض حكومي قوله، إن حزب الرئيس يفكر في تقاسم السلطة مع المعارضة· وبسبب التغطية الصحفية الغربية السطحية للأحداث الكينية، فإن العالم يعتقد أن العنف الذي اندلع في هذا البلد، وأدى إلى مصرع ما يزيد عن 1000 شخص، وتهجير ما يزيد عن 300 ألف عن مواطنهم، يرجع إلى قضايا معلقة بين قبيلة ''الكوكويو'' التي ينتمي إليها الرئيس ''كيباكي''، وقبيلة ''ليو'' التي ينتمي إليها'' أودينجا''· وهذا خطأ بالطبع، فالأزمة الضاربة أطنابها في هذا البلد -يبلغ تعداد سكانه 37 مليونا تقريبا- يعود من حيث الجوهر إلى أربعة عوامل هي: المفهوم الشوفيني للسلطة، الاقتصاد المنحرف، المؤسسات الضعيفة، والسياسات الفاشلة· وعندما نتقصى هذه العوامل فسوف نجد أنها ترجع إلى سنوات الاستقلال المبكرة: فالأب الروحي لكينيا، ورئيسها خلال الفترة من 1964 إلى 1978 كان هو الزعيم ''جومو كينياتا'' الذي كان ينتمي إلى أكبر قبيلة في كينيا وهي قبيلة ''الكوكويو''، وفي عام 1966 بدأت قبيلة ''ليو'' وهي ثاني أكبر قبيلة في البلاد تشتكي من أن أفراد قبيلة الكوكويو يحصلون على أفضل الوظائف في البلاد، ولم تتاون الحكومة الكينية في إخماد الأصوات المعارضة مثل ''أوجينجا أودينجا'' والد زعيم المعارضة الحالي ''رايلا أودينجا''، و''توم مبيـــا'' الذي اغتـــيل على يدي رجـــل من الكوكويو (ينتمي إلى قبيلة ليو)· ونتيجة لذلك تظاهر أبناء قبيلة ''ليو'' في الشارع وقمعتهـــم الحكومــــة وقتلت الكثيرين منهم، ومنذ هذه اللحظـــة تم غرس بذور العــــداء القبلي في كينيـــا· وتعهــــد الغـــلاة من قبيلة ''الكوكويو'' أن السلطة لن تخرج أبدا من قبيلتهم، وكان بعضهم يعتنق أفكارا متطرفة عن تفوقهم العرقي وحقهم الموروث والأصيل في الحكم، بسبب الدور الذي قاموا به في مقاومة الاستعمار البريطاني· وعلى الرغم من أن العنف الذي اندلع في كينيا يبدو كحرب قبلية، إلا أنه ليس كذلك في الحقيقة بقدر ما هو نوع من التمرد الجماعي ضد الشوفينية؛ فالجيل الكيني الذي نشأ في عصر ما بعد الاستقلال لا يأبه كثيرا باللافتات القبائلية وتتركز اعتراضاته على التفاوتات الاقتصادية· وقد أكد السكرتير العام السابق للأمم المتحدة ''كوفي عنان'' الذي يمارس نوعا من الدبلوماسية النشطة في نيروبي، أن الحلول الطويلة الأمد لكينيا تكمن في حل التفاوتات الاقتصادية القائمة في كينيا والتي تؤدي إلى ذهاب معظم خيرات البلاد إلى مناطق معينة، كما تؤدي إلى عدم وصول نتائج أي تقدم اقتصادي يحدث في كينيا إلى الطبقات الدنيا، وإلى الشباب الذين لا يزالون يحسون بالحرمان، وهو ما ينذر بوضع أشبه برواندا كما يقول البعض· وفي اعتقادي أن الأمور في كينيا لن تتدهور على نحو ما حدث في رواندا للأسباب التالية: الأول: أن كينيا ظلت إلى فترة طويلة تمثل جزيرة للسلام وسط إقليم مضطرب، الثاني: أن كينيا بناتجها القومي الإجمالي الذي يصل إلى 58 مليار دولار، تعتبر هي القاطرة الاقتصادية للمنطقة بأسرها، وتوقف هذه القاطرة وانهيار البنية التحتية للاقتصاد الكيني، سوف يؤثر بالسلب على المنطقة بأسرها التي ستكون حريصة بالتأكيد على عدم تبلور هذا الاحتمال· كما أن النسيج الاجتماعي في كينيا لا يتكون من قبيلتين كبيرتين مثلما كان الحال في رواندا، وإنما هو عبارة عن تشكيل فسيفسائي عرقي يضم 42 قبيلة تنقسم إلى عدة عشائر لكل منها لهجة وعادات وتقاليد منفصلة· والرابع: أن كينيا لديها صحافة تتمتع بقدر كبير من الاستقلال مما يجعل من خنقها الآن أمرا صعبا· الخامس: أن نيروبي تعتبر مقرا للكثير من المنظمات التابعة للأمم المتحدة مما يجعل من المنظمة الأممية مصلحة في المحافظة على استقرار الأوضاع في العاصمة· بيد أننا يجب أن نضيف إلى ما سبق قولنا إن كينيا بمفردها لن تكون قادرة على انتشال نفسها من وهدة العنف، وأنه يجب أن تتلقى مساعدة من المجتمع الدولي حتى لو استدعى الأمر استخدام مقدار من العصي يفوق الجزر· يوم الاثنين الماضي أدلى السكرتير العــــام للأمم المتحـــدة كوفي عنان بتصريح قــال فيــــه ''إن الحـــل السياسي هــو فقـــط الــذي يمكـــن أن ينقـــذ كينيـــا''· وهو يقصـــد بالحـــل السياسي تشكيــل حكومـــة ائتلافيــــة ذات تفويض محدد قصير الأمد، تكون أولى مهامها إجراء إصــلاح دستـوري· ولو حدث هذا فإنه سيوفر بداية جديدة، ويمنح الفرقاء السياسيين الفرصة لتقاسم شرف نزع فتيل القنبلة التي ظلت تهدد كينيا على مدار 40 عاما· كودي بارث أستاذ في جامعة كونيكتيكيت الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة كريستيان ساينس مونيتور