الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

في الخط الأمامي مع القوات الإماراتية

في الخط الأمامي مع القوات الإماراتية
24 أغسطس 2011 01:06
لقد مضى قرابة عقد من الزمان على وجود قوات التحالف في أفغانستان، خاصة في إقليم هلمند الذي يعد من أشرس مناطق الصراع فيها. فقد حظيت مشاركة القوات المسلحة البريطانية والأميركية بتغطية إعلامية واسعة، قياساًٍ بما حظيت به القوات المسلحة العربية القادمة من دولة الإمارات العربية المتحدة، البالغ عدد أفرادها الموجودين في أفغانستان منذ عام 2003 حوالي 500 عسكري، وهؤلاء على أتم الاستعداد لأداء مهامهم في أي وقت كان. يتمثل الجزء الأكبر من عمل القوات الإماراتية في دعم مهام إعادة إعمار البنى الأساسية. ولا يقتصر دور الإمارات على الناحية العملية بل يشمل الناحية المادية، فالأموال التي تقدمها دولة الإمارات العربية المتحدة تساهم في إعادة بناء المدارس والمرافق الطبية والطرق والمساجد. انضم مؤخراً أليكس جاردينر أحد الضباط السابقين في القوات الجوية الخاصة البريطانية، إلى ما يُفترض بها أن تكون دورية روتينية في إقليم هلمند، غير أن الأحداث تدهورت بشكل سيئ. وفيما يلي، وصف لما حدث في ذلك اليوم.. في أحد الأيام الهادئة تحديداً الساعة التاسعة صباحاً، حيث السماء ملبدة بالغيوم غادرت دوريتنا “قاعدة تامبا” الموجودة في إقليم هلمند، وكان مقرراً لأفراد قواتنا البالغ عددهم 25 شخصاً أن يبدؤوا عملية “النفسية والمدنية” لأهالي تلك المنطقة، وكانت قواتنا مؤلفة من القوات الخاصة الأميركية (التي تعرف باسم القبعة الخضراء) وفرقة من القوات الخاصة الإماراتية واثني عشر شخصاً من المغاوير (الكوماندوس) الأفغان، وسنقوم بزيارة المجمعات التي امتدت على طول الجزء الواقع تحت إشرافنا من وادي هلمند، والتي شُيِّدت جدرانها من الطين لنطرق على الأبواب ونقدم رسالة أمل من الحكومة الأفغانية إلى كل من يريد الإصغاء إليها. غادرنا القاعدة بحذر متجهين نحو الشمال، ورأينا القرويين الذين كانوا يراقبون تقدمنا، ومما لاحظته عليهم أنهم كانوا أكبر أو أصغر عمراً من السن المناسبة للعمل في الحقول التي كانت الثمار الثقيلة تتدلى من أغصانها، مما يبشر بموسم حصاد غني من الأفيون، فدرجة الحرارة معتدلة إلى حد مقبول، وهذا الانسجام المثالي بين الإنسان والطبيعة يتيح لي تلمّس جمال الصورة الأفغانية وجاذبيتها. ولكن ما يصعب تصديقه هو أن هذا الوادي الممتد لمسافة أميال هو الشريان الرئيسي لصناعة الهيروين تصل إيراداتها إلى مليارات الدولارات. كان من الملاحظ أن انطلاق قواتنا بانسيابية دليل على خبرة متمرسة؛ فأفراد القبعة الخضراء مقاتلون أشداء ومتحفظون وعلى درجة عالية من الخبرة، فقد سبق لهم المشاركة في العراق وأفغانستان من قبل، وكان أداؤهم جيداً في توجيه وإرشاد الكوماندوس الأفغان الذين لوحظ أنهم بدؤوا يسيرون بثقة، قابضين على أسلحتهم وفي وضع تأهب مستمر. كان جواً من الضحك والمزاح يسود بين كافة الرتب عندما يقوم أحد أفراد القبعة الخضراء - والذي عادة ما يقوم بإطلاق اسم ثانٍ على الأفغان - بمناداة أحدهم باسم مغنٍ مشهور من عالم الترفيه والشهرة “جستن! نعم أنت .. جستن بيبر. ابق ضمن التشكيل!” وخلال مسيرتنا يبرز أفراد قوات الكوماندوس الوطنية الأفغانية بين قبائل البشتون المحلية، ولأنه تم تجنيدهم في أقاليم أخرى، فإنهم يمتلكون بشرة وقواماً مختلفاً، فوجودهم يذكر الفلاحين والمزارعين بأن هناك كثيراً من الأعمال التي ينبغي إنجازها بعد مغادرة قوات التحالف البلاد نهائياً، والملاحظ هنا أن التحية المعتادة هي “السلام عليكم” حتى لو لم تكن صادرة عن إيمان فعلي بذلك. وأما عن الجنود الإماراتيين الذين استضافوني، فقد قدِموا من الإمارات السبع، وهم من جنود النخبة في القوات المسلحة الإماراتية، فالرقيب الذي أسير خلفه من سكان الفجيرة، وهو يمشي بتروٍّ وحذر وسلاحه متأهب وعيناه تترقبان دائماً، وهذه هي تماماً مواصفات الجندي بالفطرة. وقد أنجز هذا الرقيب جولتين من المهام، إضافة إلى خدمات الطوارئ في كل من لبنان وباكستان. “عذراً لا أستطيع الإفصاح عن اسمه” ولكن بوسعي أن أذكر بأن ابنيه منصور وسلامة يبتهلان إلى الله تعالى كل يوم ليعود إليهما سالماً. والملاحظ هنا أنه أينما نتوقف تتجمع الحشود من الناس حولنا، فوجود قوات مسلمة يثير فضول الأفغان الراغبين في مصافحة بالأيدي لهؤلاء الرجال القادمين من “عربستان” أي الدول العربية. وبدأ الإماراتيون بتوزيع المصاحف الشريفة والدفاتر والأقلام والشوكولاتة علي الأفغان الموجودين حولنا. فهؤلاء الجنود العرب قادمون من دولة فتية أصبحت الآن صوتاً للمشورة الصائبة، ويُنظر إليها بعين الاحترام، فهم كالجار الكريم المحب للخير والعطاء والرحمة. والغريب أنه في إحدى الدوريات التي قمنا بها قبل أسبوع، لاحظت استخدام الإماراتيين سلاحاً أكثر فاعلية من أي سلاح آخر شاهدته يُستخدم خلال السنوات العشر من متابعتي للحرب في أفغانستان، وذلك في دعوة متواضعة وجهها مسؤول إماراتي في الدورية إلى كبار السن في القرية بالانضمام إليهم لأداء صلاة الظهر. وبطبيعة الحال، فإن الأفغان لا يرفضون مثل هذه الدعوة، ففي غضون دقائق قليلة كان العسكريون والمدنيون جميعاً ساجدين على أرض تلتهب من شدة الحرارة. وبعد انتهاء الصلاة، التقط الإماراتيون أسلحتهم وواصلت الدورية عملها. وفي رأيي، فإن هذه قوة فريدة من نوعها، فمن ناحية لا يجرؤ أفراد طالبان على اعتراضها، ومن ناحية أخرى لا تتمكن قوات التحالف من السيطرة كما فعل المسؤول الإماراتي. وأعتقد أن رحمة الإسلام التي تتجلى في هؤلاء الإماراتيين تمثل أفضل فرصة ممكنة لإنهاء دوامة العنف، فاللطف والكرم البدوي الأصيل يمثلان سلاحاً بسيطاً، ولكنه شديد الفاعلية في أفغانستان. فالقاعدة الإماراتية في شمال البلاد تعد من أبرز الأمثلة على ما ذكرت، حيث يصطحب الأفغانيون أُسرهم على طول طريق تم تعبيده بتمويلٍ إماراتي لزيارة عيادة، أقامتها دولة الإمارات ليتلقى أطفال الأفغان ونساؤهم العلاج على أيدي طبيبات إماراتيات. كما أن هناك محطة إذاعية تم إنشاؤها أيضاً بتمويل إماراتي تقوم ببث الموسيقى والأخبار باللغة البشتونية، فيما تشكل سارية شركة الاتصالات الإماراتية “اتصالات” الموجودة هناك منافسة لشبكات الهاتف المتحرك الأخرى. ولن يقتصر الأمر على ذلك، بل إن في استطاعة العناصر الغربية في قوات التحالف مد تلك الجسور أيضاً. وكمثال على ذلك، البهجة التي تغمر الأطفال عندما ألتقط لهم بعض الصور لأريهم إياها على شاشة آلة التصوير الخاصة بي. وهذا لم يقتصر على الأطفال فحسب، بل إن الكبار تغمرهم فرحة بالكاد يتمكنون من إخفائها، فالجميع يبتسمون لآلة التصوير ولبضع لحظات فإن الرفض العام من قبل الأفغان لوجود قوات التحالف يقابله شعور بالامتنان للأعمال الخيرية البسيطة التي نقوم بها. نواصل تحركنا شمالاً لنجول بنظرنا على المساكن والفلاحين المنكبين على عملهم في زراعة الخشخاش. وغالباً ما تدور بيننا مناقشات غير مجدية حول موضوعات متكررة، كحتمية مواجهة ما يُعرف بوباء طالبان أو عدم وجود محصول آخر بديل للخشخاش أو متى ستغادر القوات الأميركية أفغانستان؟ وفجأة وفي منتصف النهار، يقرر النقيب الأميركي بأن ثلاث ساعات تكفي للقيام بدورية، لذا غيّرنا التشكيل بالتوجه جنوباً، علماً بأننا سنتوقف للتحدث مع المواطنين الأفغان عدة مرات في طريق العودة إلى الديار، ونحن كذلك إذ نشاهد النيران وهي تلتهم ناقلة جنود مدرعة فيكسر ذلك خط السماء الرتيب. ويغرد المترجم البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عاماً قائلاً: «إنها من طراز فايكنغ، لقد عملت مع قوات المشاة البحرية البريطانية (المارينز) قبل عامين». مضت علينا ساعات قبل أن نتمكن من رؤية قاعدتنا، التي تبعد الآن كيلومتراً ونحن بأمس الحاجة لنيل قسط من الراحة. وفي هذه الأثناء، يقوم أحد أفراد القبعة الخضراء، وكان قوي البنية والوشم يغطي جسده ومحبوب من قِبل الأفغانيين والإماراتيين، بإمالة رأسه إلى الوراء ليصرخ قائلاً: “وهكذا ينتهي.. الملل” ويتوقف ليملأ رئتيه بالهواء ثم يصرخ “تنتهي ألعن دورية... في تاريخ أفغانستان” وعندما ينتهي من الكلام، تكون الابتسامة قد علت شفاه الجميع. ولابد وأن كلماته قد أخذته إلى أبعد مما كان يتصور. وما هي إلا لحظة حتى سمعنا صوت انفجار ينذرنا بالتماس مع العدو. ونحن إذ لا نزال على الأرض، فجأة يطغى صدى الطلقات السريعة على صوت الصراخ في الهواء، ثم يقوم الأفغاني الذي أُطلق عليه اسم “جستن بيبر” بالرد على النار بوابل من الرصاص من بندقيته الرشاشة، وهنا يصرخ أحد أفراد القبعة الخضراء طالباً عدم تبذير الذخيرة، ويأمر بالتقدم باتجاه الطلقات القادمة من العدو. في هذا الحين، لم أعد أشعر بعدم الارتياح لارتدائي الدرع والخوذة. وفي خط واحد نحني أجسامنا ونهرول عائدين إلى نقطة المراقبة المتمركزة على تلة من الأرض، نحتمي بآلية الفايكنغ البريطانية المحطمة ونتوقف قليلاً ثم نواصل طريقنا مجدداً نحو الشمال. لقد قلصنا المسافة بيننا وخصومنا إلى النصف، ما يقارب 200 متر فقط إن لم يبتعدوا وظلوا في مكانهم. نتوقف مرة أخرى بينما تصدح أجهزة اللاسلكي بأصوات الأميركيين وهم يناقشون الخيارات المتاحة. بدأت فرقة كلاب المطاردة الأميركية “K9” في أثر رجلين بتتبع رائحتهما. وهناك احتمال بتمكّن مجموعتنا من تعقب أفراد طالبان بسرعة والإمساك بهم، وتصدر إلينا أوامر بالتقدم نحو مرتفع يطل على النهر والحقول وهو المهرَب المحتمل للعدو. يظل الجميع متيقظاً بينما نحتشد عند جسر ضيق عبر قناة ري عميقة تحيط بها ضفاف ترابية عالية. هذه المنطقة خطرة على المارة من المشاة والسيارات، وقد عبر منها الهاربون، كما أنها موقع جيد للعبوات الناسفة. وبينما كنت أفكر في تلك العبوات، لاحظت بقايا مواد بلاستيكية صفراء خلّفها انفجار عبوة ناسفة سابقاً. بعدها، لاحظت تحمّس كلب المطاردة “K9” وتوجهه إلى بقعة كانت تبدو فيها الأرض كما لو عُبث بها حديثاً، فيما أشارت بقعة أخرى من التربة إلى المكان الذي حدث فيه انفجار سابق. في ذلك الحين، احتجزت مجموعة المطاردة المرافقة اثنين من الأفغان وأحضرتهما إلى موقعنا، كان أحدهما شاباً نحيفاً والآخر أكبر سناً وأكثر أناقة، تبدو علامات الثقة على الاثنين وهما يزعمان أنهما مواطنان من المنطقة، غير أن أيديهما كانت ناعمة وليست خشنة جراء الأعمال الشاقة في حقول الخشخاش. وبدأت الشكوك تحوم حولهما وتبخر تظاهرهما بالشجاعة عندما تعاملت قوات الكوماندوس الوطنية الأفغانية معهما بمنتهى الحزم. في هذه اللحظة، يعلن النقيب الأميركي بأن علينا البقاء للمراقبة والسيطرة على المنطقة، وانتظار وصول فريق إزالة المتفجرات وتنظيف المنطقة التي حددها فرقة “K9” لاحتمال وجود عبوة ناسفة فيها. وهنا يهمس النقيب الأميركي لاثنين من رجاله قائلاً: “إن فريق إزالة المتفجرات في مهمة، وسيأتي إلينا بعد الانتهاء منها”، ثم يوجه حديثه إلى الجميع فيقول: “لا داعي للقلق فلدينا هناك طيارة من دون طيار من طراز بريداتور” مشيراً بإبهامه إلى الأعلى وهو يعدد وسائل التكنولوجيا الأخرى الساحرة التي يحق فقط لآلة الحرب الأميركية أن تفخر بها. ويوجه بعد ذلك إحدى الفرق لتأمين إحدى المناطق الواقعة قريباً من أسفل التل باتجاه الشمال الغربي. وأنا شخصياً أحترم هذا النقيب لهدوئه في الكلام والتعامل بلطف، فهو نموذج للجندي المتواضع العفوي الذي يمتلك حس الفكاهة والسخرية، ولكنه في الوقت نفسه صلب من الداخل كالفولاذ، فهو شخص يحكم السيطرة ويبتسم على الدوام، وأنا أتخيله دائم التفكير فيما قد يواجهه من صعاب ومخاطر وفي كيفية التعامل معها. فالانسحاب من هذه المواجهة تعني خسارة المواجهة مع الشعب الأفغاني الذي لطالما حاول التأثير فيهم. انضممت إلى الأفغان والأميركيين وأصحابي الإماراتيين المسترخين على طول الضفة الترابية للقناة، وكلّي ثقة بأن الأمور تحت السيطرة. خلعت خوذتي وجلست على الأرض اللينة لانتظار طويل. سمعت من بُعد صوتاً يوحي باحتمال انتهاء فريق إزالة المتفجرات من إحباط انفجار كان على وشك الوقوع، مما يعني أنهم سيصلون إلينا قريباً. تفاخرت أمام جندي إماراتي بحزام ساعتي المرصع وأخبرته بأنه هدية من زوجتي وأنا اعتبره تعويذة لجلب الحظ السعيد. وحديثي هذا يحفز مترجمنا الأفغاني الشاب “جيرو” على تقديم ساعته الرخيصة على سبيل المقايضة. نهضت ومشيت بضعة أمتار إلى اليمين لأتحقق من قراءات آلة التصوير. فجأة، سمعت صوت انفجار قوي يشق طبلة الأذن. استدرت لأشاهد المكان الذي كنت أجلس عليه قبل لحظات، وهو يتناثر من وقع الانفجار. وهنا تبدأ على الفور صرخات الألم بعد أن خمدت سحابة التراب والغبار لتكشف عن ثلاثة رجال مستلقين على الأرض. ميزت الشعر الأسود لأحد أفراد قوات الكوماندوس الأفغانية وهو ممدد في الحفرة التي أحدثتها العبوة الناسفة التي انفجرت تواً. بدأ النقيب الأميركي الممدد على الضفة وهو يمسك بيده اليمنى بإطلاق الشتائم وهو مغطى بالرمال، ثم شاهدت أميركياً آخر ممداً على بعد أمتار قليلة مني، وكلاهما يئن من شدة الألم. الأفغاني كان هادئاً ووجهه على الأرض، ويحاول رفع نفسه بالاستناد إلى مرفقيه، بينما كنت في طريقي إليه، وإذ بي أكتشف بأنه قد فقد ساقيه. وضعت آلة التصوير على الأرض وبدأت بجره بعيداً عن تلك الحفرة، فتقدم مسعف، وهو أحد أفراد القوات الأميركية الخاصة باتجاهي مسرعاً لتقديم المساعدة. هرع جندي إماراتي للمساعدة ولكنه تلقى أوامر بالعودة إلى وضعية التأهب لإطلاق النار. توجهت إلى النقيب وعرضت عليه المساعدة، وهو لا يزال ممدداً على الأرض، ومن الواضح أن ذهنه كان مشغولاً بالتفكير، حيث قام بدفعي بعيداً. أما الانفجار الثاني فقد كان قريباً لدرجة أن جسمي بدأ بالارتجاج، وظهرت سحابة بنية أخرى بعد ذلك، فبدونا جميعاً وكأننا فاقدون للوعي وفي ذهول تام للحظة. فجأة سمعت وابلاً من الألفاظ النابية والشتائم، فعرفت بأن النقيب الأميركي لايزال بيننا فأكاد لا أصدق ذلك، فهو لا يزال مغطى بالتراب والحصى وممدداً على سفح الضفة. كان الانفجار قريباً منه جداً، غير أن الدرع التي يرتديها أنقذت حياته. وكان المُسعف والأفغاني المصاب بجروح بليغة في وسط عاصفة من الأحجار وكانا على وشك أن يكونا هدفاً للانفجار الثاني. بدأ المسعف ينادي طالباً مساعدة الأفغاني الجريح، وقام بمناولتي رباطاً ضاغطاً لوقف النزيف، وأشار إلى ساقي الرجل المحطمتين. لم تكن هناك أقدام، وكان الجلد منزوعاً عن العظم ويكشف عن لون عاجي ووردي أشبه بشريحة من اللحم المدخن ممددة بجانبه على التراب. وضعت الرابط الضاغط على عظم الفخذ الأيسر، وسحبتها إلى أعلى فخذ الرجل، فانغمست أصابعي في النسيج الممزق. بدأ المسعف بالصراخ، ربما فقد سمعه أو أن الأدرينالين قد بدأ يتدفق أو لأنه يريد أن يؤمن بأن المصاب سيكون على ما يرام، ويحث الأفغاني المصاب قائلاً: “تماسك يا صاحبي، ستكون بخير.” النقيب بحاجة إلى المساعدة أيضاً، وبدا أنني كنت الأقرب إليه. فتحت حقيبته الطبية ومزقت الضمادة ولففتها حول يده النازفة. كان الألم والتراب يعلوان وجهه ولكنه كان رابط الجأش بشكل مدهش، وكان يوجه التعليمات عن طريق الجهاز اللاسلكي ويصدر الأوامر لرجاله. بينما كنت أربط ضمادة النقيب، لم يكن جيرو المترجم قد تلقى العلاج بعد من الانفجار الأول، ولسوء حظه فقد أصيب في الانفجار الثاني، فكان ينتحب من شدة الألم وهول الصدمة، وكانت الدماء تسيل من يده اليسرى، بعد أن مزق الانفجار ملابسه. ذهبت إليه بضمادة إضافية ولففتها حول ذراعه وثبتّها برباط بكتفه الأيمن. إلى يساري، كان هناك جنديان إماراتيان، يعرض أحدهما المساعدة على المترجم، وبينما كان الآخر ممسكاً بسلاحه متأهباً لأي تهديد طارئ. خلال دقائق، أُخمدت الفوضى التي خلفها الانفجار مع استعادة القوات الخاصة الأميركية السيطرة من عدونا غير المرئي، ولقد تم إعفائي من واجباتي كمسعف مؤقت، فالتقطت آلة التصوير مرة أخرى. هنا أرى فريق المساندة من القوات الإماراتية والكوماندوس الأفغانية يبدأ بتفتيش مجمع مبانٍ مجاور. وأرى أيضاً الأفغاني الذي بُترت ساقيه وقد لُفّت إحدى ساقيه بضمادات بيضاء نظيفة، بينما كان المسعف ينفض الحصى عن شعره وينهمك في تضميد الساق الثانية من منطلق إيمانه بأن جهوده هذه قد تشكّل للشاب مسألة حياة أو موت. ولا يفوتني القول إن الجرافات قامت بإزالة الألغام وتنظيف الطريق إلى قاعدتنا من الألغام، وهي المتواجدة بانتظار تكليفها بأي مهام، وطاقم السلاح الناري أيضاً يعرض علينا حماية كاملة. كان في الأفق طائرة مروحية ضخمة من نوع “CH47” “Casevac” تحوم وتحلق بسرعة وعلى ارتفاع منخفض قادمة من جهة الجنوب، بصوتها العميق والحميم. نعلم الآن بأن على متن تلك المروحية فريق من الجراحين الميدانيين مستعدون لإنقاذ حياة الجرحى. كانت هناك أيضاً مروحية من طراز تشينوك تحلق في السماء يهدر صوتها كالدبابير الغاضبة. خلال دقائق، امتلأت المروحية بالمصابين لتهدر محركاتها إيذاناً بالانطلاق. تندفع المروحيتان إلى الأمام وتخفضان مقدمتيهما منطلقتان بأقصى سرعة نحو معسكر باستيون والمستشفى الميداني. نستعد نحن البقية للعودة سيراً في الطريق الخالي من الألغام. فقوات الكوماندوس الأفغانية فتشت المنازل وأخرجت منها معدات تشغيل العبوات الناسفة كالبطاريات وأجزاء من هاتف متحرك وألواح الكترونية. اشتد غضب الكوماندوس بعد مشاهدتهم لرفيقهم وهو يفقد ساقيه، وقد تم جر اثنين من المشتبه بهم من منزل مجاور. بدأت النساء بالصراخ من شدة الهلع لمشاهدة أحد الأبناء أو الإخوة يتعثر ويسقط تحت وابل من اللكمات والركلات بينما يتم جره إلى صفنا. وقفت مع فريق “K9” بفتور وعدم اكتراث. في تلك الليلة، أصبت بالأرق وصعِب عليّ النوم، وقمت بالتجوال على سطح قاعدتنا الصغيرة للتدخين والاستمتاع ببرودة الجو المعتدلة وسماء الليل الصافية والنجوم التي لا تعد ولا تحصى. في الشرق، كانت هناك عاصفة رعدية تستعد للانطلاق بكامل قوتها، أما في الغرب فكان نوع آخر من العواصف يستعد للثوران؛ وهو وادي هلمند، مشروع ري أميركي منذ الستينيات أصبح الآن مشهداً حياً لجهد أميركي أكثر فتكاً. شمالاً، كان الوضع هادئاً، وأذكر أنه على بعد 20 كيلومتراً تقريباً، كانت هناك قاعدة إماراتية مزودة بعيادة ومحطة إذاعية وبرج لاتصالات. كل ما حدث في هذا اليوم بدأ يموج في ذهني... المزارعون الأفغان وأبناؤهم المتلهّفون لاقتناء الكتب والحصول على فرصة في الحياة، واليأس الواضح الذي يخلفه حاضر ممزق بين قوات طالبان التي تذيق الشعب ألوان العذاب، وبين جهود تقودها الولايات المتحدة الأميركية لإرساء دعائم الثقافة ومستقبل مشرق. فقوات الكوماندوس الأفغانية وقلة من أفراد البشتون (إن وجد بينهم)، هم غرباء في بلدهم وغير مرحب بهم في هلمند، شأنهم شأن بقية أفراد القوة الدولية للمساعدة الأمنية (إيساف)، ورغم ذلك فإنهم لا يعرفون اليأس بل يواصلون المحاولة ولا أعرف من أين يستمدون تلك الشجاعة. هنا لا بد لدوامة العنف من أن تنتهي، فإن كان الفلاح الأفغاني يتحمل شتى أنواع العقاب ويظل صامداً، فلِم لا يتم استئصال الخشخاش وتقديم ضمانات بشراء محصول آخر بدلاً منه؟ ربما تكون سذاجة التفكير هي السبب ولكن من حقنا أن نسأل: هل يمكن لزراعة الخشخاش أن تسفر عن شيء آخر غير الجريمة المنظمة؟ مما لا شك فيه أنه على الرغم من بطولات الأميركيين والتزامهم وشجاعتهم، فإنه يساء فهمهم. فأنا تجول في ذهني الآن صورة المسعف من أفراد القبعة الخضراء الذي كان يعمل بجد وإخلاص كالملاك رغم ألمه، فقد كان يسعى جاهداً لإنقاذ حياة شخص بالكاد يعرفه ولا يرجح أن يراه ثانية. (علمت لاحقاً بنجاة ذلك الأفغاني). أما ذلك النقيب الهادئ ذو الشخصية الساحرة، فكان موجوداً في قلب العاصفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وعلى الرغم من جراحه وألمه فقد واصل القيادة ولم يسمح لنفسه بأخذ قسط من الراحة إلا بعد أن وصل المسعفون. لقد استغل الرجلان كل ما أوتيا من شجاعة هذا اليوم. ويعلم جميع أفراد القبعة الخضراء أنه لو احتاج إليهم أحد فسيعودون على الفور إلى الدورية ليكونوا مثالاً يحتذى به لنظرائهم الأفغان. سيعود الأميركان إلى الدورية على الفور، جنباً إلى جنب مع رفاقهم الإماراتيين والأفغان وسيكررون الكلام المعسول نفسه سواء أكانوا يؤمنون به أم لا. إنهم يوفون بوعودهم حتى لو كانت فرص نجاتهم ضئيلة وهم يخاطرون بحياتهم بلا حدود. وماذا عن المستقبل؟ خلال بضع سنوات ستغادر القوات الأميركية والبريطانية والقوات الغربية الأخرى أفغانستان، وهذا ما يدعى “مقبرة الإمبراطوريات”، مثلما غادر الروس أفغانستان بعد عشر سنوات من غزوها. فالأفغان هم من سيحدد ملامح المستقبل، ولكن بمساعدة من أصدقائهم المسلمين. وكما قال لي أحد الضباط الإماراتيين ذات يوم، وهو من خريجي كلية ساندهيرست: “أتعلم بأننا كنا موجودين هنا كجيران عرب قبل أن تحدث هذه المتاعب، وسنظل جيران حتى بعد رحيل قوات التحالف وإيساف؟ ربما لن نتمكن من تقديم الحل، ولكننا سنتمكن على الأقل -كأشقاء مسلمين- من حمل المصباح المضيء الذي سيمكّن الأفغان من إيجاد طريقهم بنفسهم.” بقلم أليكس جاردينر من إقليم هلمند الأفغاني وقعت هذه الحادثة في 7 أبريل 2011
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©