الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ريتشارد دوكينز «سَبّاك» الأفكار ورائد المذهب العقلاني

ريتشارد دوكينز «سَبّاك» الأفكار ورائد المذهب العقلاني
20 نوفمبر 2010 20:23
ريتشارد دوكينز عالم أحياء إنجليزي نشر في العام 1976 كتابه “الجين الأناني” وأصبح موضوعاً للنقاش على نطاق واسع، وصار مؤثراً للغاية إلى الحد الذي وضعه ضمن أهم الكتب الكلاسيكية لتفسير الأفكار التطورية سواء للأكاديميين أو القراء العاديين، وقد استمر مؤلفه الذي لمع نجمه في إظهار مدى وعمق مهاراته التحليلية وقدراته الأدبية في سلسلة من الكتب التي تصدرت قوائم الكتب الأكثر مبيعاً فيما بعد. وأصبح دوكينز شخصية عامة معروفة ورائداً من رواد المذهب العقلاني ومفكراً شعبياً إلى جانب كونه متخصصاً في علم الأحياء التطوري. الكتاب الذي نتناوله بالطرح اليوم “ريتشارد دوكينز: عالِم غيرّ أفكارنا” تشارك في وضعه كل من العالمين آلان جرافن ومارك ريدلي، ويضم بين دفتيه مجموعة مقالات تبرز مدى تأثير دوكينز كعالم وكاتب وشخصية عامة، ولاشك أن كتابه الإبداعي “الجين الأناني” يتصدر قائمة إنجازاته، ولهذا فإنه يشكّل بؤرة اهتمام هذا الكتاب.?يبدأ الكتّاب بمقالات صاغها أربعة من علماء الأحياء الذين كان دوكينز مصدر إلهامهم في أعمالهم في مجال علم الطفيليات واختلاف الجنسين والاتصالات ومصنوعة الحيوانات، وينصب تركيز الجزء الثاني على النص الرئيسي نفسه، وينظر في قوته التعليمية التي لا تنضب، وإسهامه الفكري ومكانته التاريخية في دوائر نقاش علم البيولوجيا الاجتماعية. يلفت جرافن وميدلي إلى أن أكثر ما يثير الإعجاب في كتاب “الجين الأناني” هو أن النقاش يبدأ من المبادئ الأولى وبمنتهى المنطق، فالمنطق هو العملة المشتركة في الأوساط الأكاديمية، وليس من المدهش أن عدداً كبيراً من المفكرين اعتنق أفكار الكتاب بل أخذوا يمدون تأثيرها كل في اتجاهه الخاص، وفي الجزء الثالث يصف لنا فيلسوف وخبير في علوم الحاسوب وعالم فيزياء وخبير في العلوم الإدراكية كيف اتبعوا منطق عمل دوكينز، في كتابه “الجين الأناني” على وجه الخصوص كل في مجال تخصصه. جدل واسع انطلاقاً من أن كتابات دوكينز وظهوره كشخصية عامة أثارا جدلاً واسعاً ومعارضة، مع أن أهم أسباب تلك المعارضة فيما يخص “الجين الأناني” تكمن في سوء الفهم، حرص المؤلفان على أن يتضمن الجزء الرابع من الكتاب مناقشة آراء ثلاثة من النقاد المعروف عنهم استحسانهم لعمله، النقاط التي يرون أن دوكينز حاد فيها عن طريق الصواب.?ولما كانت أكثر مجالات تطبيق أفكار “الجين الأناني” إثارة للجدل هو تطبيقها على البشر، كان موضوع الجزء الخامس، حيث يجد كثير من القراء القضايا المثارة فيه مألوفة لهم إذ أنها تقتحم وسائل الإعلام من حين لآخر، أما نزعته للجدال، وهو الجانب الشهير من شخصية دوكينز، فيتناوله الجزء السادس بأعمال تسلط الضوء على دوره كمؤيد لمذهب الشك، وكيف أثر فهمه للتطور على أخلاقه وآرائه السياسية وآرائه عن معنى الحياة. احتكاك مباشر في مقال بعنوان “ببغاوات منفتحة وجراثيم هلالية” لـ”أندرو. إف. ريد” يصف أول احتكاك مباشر بينه وبين الكتاب بقوله: بعد أن أنهيت سنوات دراستي الأربع في علم الحيوان، التي تخصصت فيها في علوم التطور والبيئة والسلوك، وكانت الوظائف الصيفية مع خدمة الحفاظ على الحياة البرية - في نيوزيلندا على الجبال النائية والجزر البعيدة عن الشاطئ - أكثر من تعويض، وأود أن أرى نقاط القصور في دراستي الرسمي. أما أفضل وظيفة حصلت عليها فكانت بعد امتحانات السنة النهائية مباشرة عندما أسعدني الحظ بالعمل في برنامج لحماية ببغاء الكاكابو أثناء أحد مواسم التكاثر، وببغاء الكاكابو هو أغرب طيور العالم وأكثرها روعة، ولكني آنذاك، عندما كنت عالم أحياء تطوري ناشئاً كنت أنظر إليه على أنه تحد فكري، فلم أستطع أن أفهم كيف يمكن للكاكابو أن يكون بالصورة التي هو عليها، بل لم أستطع أن أعرف كيف يمكن للمرء أن يكتشف ذلك، وبالطبع لم تساعدني مجموعتي الضخمة من أعمال ستيفن جاي جولد فنصحني رئيسي بقراءة كتاب “الجين الأناني”. وهذه المرة قرأته بالفعل، ويا له من عرض للحقائق، إنه لم يذكر شيئاً عن ببغاء الكاكابو (بالطبع)، ولكنه وضع على الأقل إطار عمل يفسره، وهأنذا أقضي حياتي المهنية أفكر في الأمراض المعدية بالطريقة التي علمني إياها “الجين الأناني” للتفكير في الكاكابو، ثم تبين أن مفهوم الجين الأناني لا يفسر الكائنات الغريبة مثل ببغاء الكاكابو فحسب، بل يقدم أيضاً بعض المفاهيم المحتملة التي غابت عن علم الطب الحيوي التقليدي”. معركة الجنسين أما هيلينا كرونين وعبر مقال بعنوان “نظرة جديدة لمعركة الجنسين” فتوضح علاقتها بـ”الجين الأناني” ودوكينز ونقتبس من هذا المقال قولها: ينقل ذكر ذبابة الفاكهة سائله المنوي في مزيج سام يدفع شريكته إلى الوفاة المبكرة، أما أنثى ذبابة الروث، التي تجد نفسها في خضم اشتباك بين مجموعة من الذكور المتلهفين، فينتهي بها الحال في وضع مشين غارقة في قلب روث بقرة، وأنثى العنكبوت تلتهم شريكها في عملية التزاوج نفسها، هذا النوع من المآسي يلخص معركة الجنسين، أو هل يلخصها حقاً؟ وعلام تدور هذه المعركة سيئة السمعة في الحقيقة؟ وكيف نميزها عن صراعات الحياة الأخرى المتعددة؟? يدعونا ريتشارد دوكينز في كتابه “الجين الأناني” لننظر إلى تلك الأسئلة والأمور والداروينية الأخرى بعين الجين، وكما تخيل آينشتاين رحلة على شعاع ضوء، هذه دعوة لرحلة إلى عوالم لا يمكن الوصول إليها لفهم أوضح للحقيقة، فهي تصور استراتيجيات الجينات وهي تشق طريقها عبر الأجيال، عبر الزمن التطوري، فالسير الذاتية الفصيحة للجينات تخبرنا عن تصميم الانتخاب الطبيعي، فعلى عكس معظم التجارب الفكرية، ليس هذا حلاً لمشكلة واحدة محددة، وإنما طريقة لفهم عالم الكائنات الحية بأسره، وهي طريقة فعالة للغاية، وتتمتع بقوة تفسيرية هائلة - ولا عجب في ذلك، إذ إنها تفهم بدقة منطق أسلوب حل المشكلات الذي يتبعه الانتخاب الطبيعي، ومن ثم، يمكنها خلق فرضيات قابلة للاختبار، إنه يتمتع بقوة تنبؤية مذهلة ويقدر الأدلة الواضحة التي غير ذلك لا تحظى بتقدير، إنه يحول نظرتنا للمألوف، ويحول إلى أسئلة ما كان يعد - دون تفكير - إجابات ويكشف عن عوالم لم نكن نحلم بها وينبهنا إلى عوالم مناقضة للمنطق ويزيل الالتباس حتى المترسخ منه الذي يأبى الانجلاء. سباك الأفكار في مقال عُنون بـ”ريتشارد دوكينز: سباك أفكار وأكثر” يقول جون كريبس: احتملت منذ وقت قريب حفل عشاء من ذلك النوع الذي لا يضاهي فيه قوة التشبث بالرأي سوى ضعف الأساس الذي قام عليه.?وعندما تحول مجرى الحديث، كما يحدث غالباً، إلى الفوائد الصحية المحتملة للطعام العضوي، سئلت عن وجهة نظري بصفتي استقلت حديثاً من منصب رئيس وكالة المعايير الغذائية في المملكة المتحدة، وعندما هممت بالإدلاء بتفسير قصير، ولكن قويا، للدليل العلمي، قاطعني بغتة وأنا في منتصف الفقرة الأولى الصوت العالي الأجش للسيدة التي كانت تجلس أمامي والتي أقحمت نفسها قائلة: “ولكننا لا نؤمن بالعلم في عائلتنا”.? كتمت الرغبة التي ولدت بداخلي على الفور لأن يكون ردي عليها جسدياً نوعاً ما، وحولت مسار أفكاري، كما اعتدت من قبل في مواقف مشابهة، إلى فكرة ضرورة وجود “خدمة دوكينز للطوارئ”، فعندما يحدث تسرب في المواسير في منزلك، تستدعي سباكاً، وعندما تعاني من تسرب في الأفكار تستدعي دوكينز، “السباك الفكري البارع”، فمحاضرة واحدة، أو اثنتان على الأكثر، كافية لأن تجعل ضيفة الحفل تدرك خطأها. ولكن ريتشارد أكثر من سباك يمكنه إصلاح العقول الخربة، فعندما بدأ يكتب عن نظرية التطور، سعى زملاؤه الأكاديميون لأن يضعوه في نطاق على أحد طرفيه لقب “المبسط للعامة” وعلى الطرف الآخر لقب “عالم العلماء” مبتدع معرفة جديدة خالصة، وعلى أية حال، فقد تحدى ريتشارد هذا التصنيف، أما ما كان يفعله، والذي برع فيه أكثر من أي شخص آخر، فهو إعادة تحليل أو إعادة تفسير اكتشافات الآخرين بصرامة نقدية وعمق ووضوح حتى إنه يكشف اللثام عن أفكار جديدة وطرق جديدة للتفكير، وغالباً ما يكتسب مؤلف البحث الأصلي أفكاراً جديدة عن أهمية اكتشافاته نتيجة إعادة التحليل وإعادة التفسير الذي قام بهما ريتشارد. علامة بارزة يطرح مايكل هانسيل تساؤلاً: ما هو الكوجر؟ وعبر الإبحار في الإجابة تبين مدى تأثر هانسيل بـ”دوكينز” ويفصل ذلك قائلاً: يعيش النمر حراً طليقاً في غرب اسكتلندا، وتشير المشاهدات أنه يتحرك في اتجاه مدينة جلاسكو، لا توجد صور أو دنا مستخرج من شعرة وجدت على سياج إحدى الحدائق، ولكنه هناك، وهناك آخرون في إنجلترا.?في الستينات كان الكوجر، وليس النمر، هو وحش العصر، وفي صيف عام 1965 خرجت مجموعة من طلبة الدراسات العليا في علم الحيوان في جامعة أكسفورد وأصدقائهم في رحلة استكشافية في عطلة نهاية الأسبوع بحثاً عن دليل حاسم لوجود كوجر مقاطة سري وقد كنت أنا وريتشارد دوكينز من بين أعضاء تلك المجموعة.?وأفضل دليل توصلنا إليه كان علامات خدوش كبيرة، فهل كانت آثار الكوجر أم، وهو الاحتمال الأرجح، مخلب كلب ضخم سعيد بعد أن حرر نفسه؟ وفي الحالتين لم تكن آثار المخالب كبيرة بما يكفي في نظر مصور صحفي كان يرافقنا، الذي أضفى عليها مزيداً من الرعب بإضافة بضع علامات بعصا. وأذكر أني تحدثت إلى ريتشارد عما سيحدد حيوان الكوجر، صورة جانبية كاملة أم وجه أم ذيل؟ وتساءلت هل يمكن القول إن اثار الخدوش تخص الكوجر، لا يحضرني الآن ما توصلنا إليه ولكني سأعود إلى السؤال.?في أكسفورد كنت أدرس تنظيم السلوك الذي تبني به يرقات ذبابات كاديس لنفسها بيوتاً آمنة متنقلة، ولكني كنت مهتماً بسلوك البناء لدى الحيوانات بصفة عامة، وكان ريتشارد آنذاك يدرس اتخاذ القرار في الأفراخ، وكان مهتماً بجميع الأشياء، ولكن بعد سنوات قلائل اتصل بي بشأن بناء بيوت ذبابات الكاديس بالتحديد، هل كان هناك دليل على التحديد الجيني لنزعة معمارية ما في بيوت الكاديس؟ كان ريتشارد يعمل آنذاك في كتابه “النمط الظاهري الممتد” الذي خرج إلى النور عام 1982. ?وكتاب “النمط الظاهري الممتد” تطوير للفكرة الأساسية التي أرساها في كتاب “الجين الأناني” أن الانتخاب الطبيعي يعمل على مستوى الجين وليس الكائن الحي، وفي الواقع كان العنوان الفرعي للطبعة التي نشرت عام 1982 هو “الجين وحدة الانتخاب”.?لقد كان كتاب “النمط الظاهري الممتد” الذي تبع كتاب “الجين الأناني” علامة بارزة في إقناع علماء الأحياء العامة أن يتحدثوا ويفكروا بهذه الطريقة، إنني أدين بصفة شخصية لريتشارد الذي ساعد أفكاري وفهمي أن يحلقا بعيداً منذ أن طرحنا سؤال: “ما هو الكوجر”؟. اتصال وثيق أما ماريان ستامب دوكينز أستاذ السلوك الحيواني في جامعة أوكسفورد فيعدد من خلال مقاله “الحياة مع الجين الأناني” المميزات العديدة الناتجة عن الاستعانة بكتاب “الجين الأناني” في التدريس، فيقول: لم يتسن لي العيش مع مؤلف كتاب “الجين الأناني” لفترة تقارب خمسة وعشرين عاماً، ولكني عشت على اتصال وثيق ودائم مع الكتاب نفسه حتى قبل أن يُنشر، وكلماته والصور البلاغية به تنهال عليّ يومياً تقريباً في مقالات الطلاب، فالقضايا التي يثيرها هي القوة المحركة وراء أنجح الجلسات التعليمية مع الطلاب، ولايزال له حتى اليوم نفس التأثير على كل جيل جديد من الطلاب يستوعب الدلالات غير العادية لما يقوله الكتاب كما كان من قبل.. يبدو أن كتاب “الجين الأناني” يحتل مقاماً فريداً بين كل ما كُتب في علم الأحياء، بعض الكتب من كتاب Silent Spring لراشيل كارسون أعلنت بدء عصر جديد، وأثرت تأثيراً كبيراً على طريقة تفكير العلماء حينذاك، ولكنها أصبحت تقرأ بعد ذلك بدافع الاهتمام بالتاريخ، وبعض الكتب الأخرى تشكّل جزءاً من حركة مستمرة، ولكن سرعان ما حلّت محلها طبعات أحدث أو وسائل تعبير أخرى أكثر رواجاً، ولكن لو لم يُكتب “الجين الأناني” وقتما كُتب، لظلت هناك حاجة إليه اليوم، فببساطة لم يستعض عنه بأي كتب أخرى، حتى الآن عندما أعقبته كتب كثيرة أخرى.?ومع مطالعة باقي المقالات الواردة في الكتاب نكتشف أنه يقدم أفكاراً قيمة عن نطاق الأعمال في المجالات المختلفة التي ألهمتها كتابات دوكينز، ويوضح مدى تأثيره. والعديد من المقالات نفسها تعد إسهامات هامة للنقاش العلمي ويجب أن تجعل عالم الأحياء المتخصص والقارئ العادي يتوقف وهلة للتفكير، ولا يسعنا التفكير في دليل على التعظيم والتقدير مناسب أكثر من هذا لشخصية على هذا القدر من المنطقية الشديدة في العلم، وهذا القدر من الوضوح المليء بالصبر في زيادة الفهم العام للعلوم، وعلى هذا القدر من الطلاقة في التعبير وصفاء الذهن في الدوائر العامة. شعبية الكتاب البناء المتماسك في كتاب “الجين الأناني” يقدم لنا نوع الأساس المنطقي والوحدة الفكرية عبر نطاق كبير من الأفكار التي ترتبط عادة بالرياضيات، وستصبح المفارقة جلية، أولاً: أود أن أشير إلى أن ما حققه الكتاب من نجاح على المستويين الشعبي والأكاديمي، لا ينبع فقط من وضوح الشرح والاستخدام البديع للغة، وهما صفتان معروفتان عالمياً في أعمال دوكينز، ولكن أيضاً من إسهامه الجوهري للعلم، المتمثل في هذا البناء التأسيسي، الذي لم يحظ بنفس التقدير، ولكنه على المستوى الفكري على درجة أعلى من الأهمية. - آلان جرافن أغرب من الخيال قبل صدور كتاب “الجين الأناني” كتب العلماء كتباً لبعضهم أو للعامة، ولكن نادراً ما يكتبون للاثنين معاً، وقد يكتب كبار مفسري العلوم أمثال بيتر ميداور أو جيه، بي. إس هالدين أو آرثر إدينجتون بفصاحة وذكاء وحيوية، ولكنهم كانوا يميلون أكثر لتفسير الأفكار القائمة بدلاً من اكتشاف الألغاز الجديدة، وتجدهم يمنحونك الإجابة بأسلوب جميل ولطيف بدلاً من ذكر المناقشة، أما ريتشارد دوكينز فقد ظن أكثر من أي شخص قبله أنه إذا كان سيقنع زملاءه العلماء بحقيقة جديدة بدت له “أغرب من الخيال” فلم لا يحاول أيضاً أن يثقف بقيتنا وهو يقدمها. - مات ريدلي
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©