الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بكّاء الأندلس

بكّاء الأندلس
21 أغسطس 2013 19:58
أدرك بخيلك خيل الله اندلسا إن السبيل إلى منجاتها درسا كانت هذه بداية قصيدة رثائية للأندلس قيلت قبل سقوطها وسبقت بطبيعة الحال قصيدة أبو البقاء الرندي التي مطلعها: لكل شيءٍ إذا ما تمّ نقصانُ فلا يغر بطيب العيش إنسان وناظم القصيدة الأولى هو الشاعر الأندلسي ابن الأبار القضاعي، وهو محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن القضاعي الأندلسي. ولد ابن الأبار سنة 595 هـ في بلنسية في الأندلس في بيت علم وصلاح، حيث كان والده عبد الله عالماً بالقراءات مقبلاً على أمور الخير كثير التعبد، ويحظى بثقة الحكام. يقول عنه ابن الأبار: “تلوت عليه القرآن بقراءة نافع مراراً وسمعت منه أخباراً وأشعاراً واستظهرت عليه كثيراً أيام أخذي عن الشيوخ، يمتحن بذلك حفظي”. قال عنه الذهيبي: “الإمام العلامة البليغ الحافظ المجود المقرئ بجد العلماء أبو عبد الله ابن الأبار”. وقال عنه ابن خلدون: “كان الحافظ أبو عبد الله بن الأبار من مشيخة أهل بلنسية، وكان علاّمة في الحديث ولسان العرب وبليغاً في الترسيل والشعر”. بعد سقوط بلنسية بيد الإسبان رحل ابن الأبار بأهله إلى تونس، وعمل في بلاط الأمير كاتباً، ولكن حفاوة الأمير به في البداية تغيرت عندما عين الأمير أبا العباس الغساني بدلاً منه حيث كان أبو العباس يحسن كتابة الخط المشرقي الذي كان يفضله الأمير على الخط المغربي، وهذا ما جعل ابن الأبار يسخط، وحدثت جفوة بينه وبين الأمير واستشفع ابن الأبار بالمستنصر ابن الأمير وعاد الصفاء مع أمير تونس أو سلطانها أبي زكريا الحفصي، ولكنه كان صفاء محاطاً بالشك، وظل ذلك الوضع إلى أن توفي الأمير وخلفه ابنه المستنصر الذي قام برفع درجته وأهله لحضور مجلسه مع علية القوم. ولكن حتى هذه العلاقة مع المستنصر شابها الكثير من المنغصات، إلى أن كان يوم غضب فيه المستنصر وأرسل رجاله إلى بيت ابن الأبار فجمعوا كتبه ووجدوا أو دسوا رقعة فيها أبيات مطلعها: طفى بتونس خلفٌ سموه ظلماً خليفه فاستشاط المستنصر غضباً وأمر بتعذيبه وقتله رمياً بالرماح، ثم أحرق كتبه ودواوينه. وكان ذلك عام 658 هجرية وكان ابن الأبار في الثالثة والستين من عمره. وهكذا يدفع هذا الشاعر حياته ثمناً لكلمات نظمها أو ضحية لكلام الحساد والعذال والحاسدين الذين أوغروا صدر الحاكم ضده. كان ابن الأبار شاعراً رقيقاً بالإضافة إلى كونه عالماً فقيهاً لنصغ إليه وهو يتحدث عن هديل حمامة تصور أنها تنوح كحمامة أبي فراس الشهيرة التي قال فيها وهو أسير: أقول وقد نامت بقربي حمامةٌ أيا جارتا لو تشعرين بحالي لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ولكن دمعي بالحوادث غالي أما ابن الأبار فيقول: وحمامةٍ نامت فنحت إزاءها فلو استمعتَ لقلتَ هذا المأتمُ أبكي وتبكي غير أني معربٌ عمّا أُكِنُّ من الغرام وتعجمُ وأردد الزفرات أثناء البكا وتظل فوق أراكِها تترَّنمُ فإذا أصاغ لشدوها وتأوهي واعٍ يقول: خليَّةٌ ومتيّمُ وكانت بلنسية مسقط رأس ووطن الشاعر ابن الأبار محور كثير من قصائده التي حملت حنينه إليها وحبه العظيم لها، وأخيراً بكاؤه على سقوطها بأيدي الإسبان. يقول ابن الأبار: بلنسيةٌ يا عذبة الماء والجنى سُقيتِ وإن أشقيتِ صوب الرواجسِ أحبُّ وأقلى منك حالاً وماضياً بموحشة ألوتْ بعهد الأدانس ومن عجبٍ أن الديار أواهلٌ وأندبها ندب الطلول الدوارسِ ويقول أيضاً: إلى أوطانه حنّ العميدُ فظلَّ كأنه غصنٌ يميدُ وسقط رأسه ذكر اشتياقاً فذاب فؤاده وهو الحديدُ ولورام السلوَّ أبن عليه معاهد عهدها الماضي حميدُ ولابن الأبار قصائد غزلية كثيرة، حملت رقة المشاعر وسلاسة التعبير، وسهولة الألفاظ وابتعادها عن الكلمات التي تحتاج إلى البحث في المعاجم لإدراك معناها وكنهها ومن غزله قوله: لا تصدوا مز يمامات صدا مستهام لسلوةٍ ما تصدّى جعل السهد في رضاكم كَراهُ واكتس في هواكم السقم بُردا رام أن يخفيَ الغرام ولكن لم يجد من ابداء خافيه بدّا كلما هبت الصبا ذكر الشوق ففاضت يمناهُ شوقاً ووجدا وكان لابن الأبار قصائد أشبه بالوعظ الديني، يدعو فيها إلى هجر ملذات الدنيا وتذكر أن الحياة مهما طالت فهي قصيرة وأن الإنسان يجب أن يعمل لأخرته ويتخلى عن أطماعه وسعيه المستميت لكسب هذه الدنيا. يقول: ألا قل لذي الجهل كم تطمحُ وقلبك للغيِّ كم يجنحُ جريتَ إلى الذنب جري الجموح وذو اللب في الذنب كم يجمع نصحتك والنصح دين فلا تلان بمعاصاة من ينصح ولا تبك يمنكِ إلا دماً لعل الخطايا بها تنضح وكن واثقاً في اجتراح الذنوب بأن مقدرها يصفح أليس الجواد الذي كلما لجأت إلى بابه، يفتح كان ابن الأبار شاعراً مبدعاً، ويميل شعره إلى الغنائية، ولعل هذه الصفة كانت مشتركة بين جميع شعراء الأندلس، وبعض قصائده لا تزيد أبياتها عن ثلاثة أبيات، مثل قوله: حملت براحتها شبيهة خدّها تفاحةً لبست حلى الصهباءِ ورمت إلى جهتي بها بل أومأت وحلِت يداً مخضوبةً بدمائي فقنعت منها بالزهيد تعللاً والحبُّ يقنعُ فيه بالإيماءِ ولكن شهرة ابن الأبار، كانت وراءها تلك القصيدة الرائعة التي لم يكن يهدف منها إلى رثاء الأندلس التي بدأت تسقط وتتبدد ممالكها واحدة تلو الأخرى، بل كان يريد من السلطان التونسي أن ينجدها وينقذها من الإسبان الذين يحملون في نفوسهم الحقد والغل على العرب الذين دام ملكهم في الأندلس أكثر من خمسة قرون. وكان ابن الأبار ضمن وفد من بلنسية جاء إلى السلطان التونسي أبي ذكريا الحفصي من قبل حاكم بلنسية (ابن مردنيش) فألقى القصيدة أمامه وبحضور علية القوم وجمهور كبير من أهل تونس. ولقد تركت تلك القصيدة أثرها في نفس السلطان الحفصي، فاتخذ قراره على الفور بإعداد السفن لنجدة بلنسية المحاصرة وعهد بقيادة حملة النجدة هذه إلى ابن عمه يحيى بن أبي يحيى الشهيد. ولكن هذه النجدة، كانت متأخرة، ووصلت بعد فوات الأوان، وقيام حاكم بلنسية بالاستسلام وتسليم المدينة إلى الملك الإسباني باتفاقية حملت لفظ الصلح وهي في الحقيقة اتفاقية استسلام دخل بعدها الملك الإسباني خايمي ملك أراجون ومعه زوجته وكبار الأحبار والأشراف والفرسان ورفع علم أراجون على المدينة المنكوية.. وهكذا كان سقوط أول ممالك الأندلس، وظلت القصيدة ورغم سقوط بلنسية وتوالي سقوط ممالك الطوائف بعدها، كأول قصيدة رثاء هدفت. كما هدفت القصائد الرثائية الأخرى إلي استنهاض الهمم واستنفار الأمة العربية والإسلامية لإنقاذ المجد العربي في الأندلس، دون جدوى.. ونختار من قصيدة ابن الأبار هذه الأبيات التالية: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درسا(1) وهب لها من عزيز النصر ما التمست فلم يزل منك عز النصر ملتمسا وحاش مما تعانيه حشاشتها فطالما ذاقت البلوى صباح مسا يا للجزيرة أضحى أهلها جَزَراً(2) للحادثات وأمسى جَدُّها تعَسا تقاسم الرومُ لا نالت مقاسمهم إلا عقائلَها المحجوبة الأنُسا وفي بلنسية منها وقرطبةٍ ما ينسف النفس أو ما ينزف النَفَسا مدائنٌ حلَّها الإشراك مبتسماً جذلان وارتحل الإيمانُ مبتئسا وصيرتها العوادي(3) العابثات بها يستوحش الطرف منها ضعفَ ما أنسا فأين عيشٌ جنيناه بها خضراً وأين غصن جنيناه بها سَلِسا محا محاسنها طاغٍ أتيح لها ما نام عن هضمها حيناً ولا نعِسا خَلا لَهُ الجوُّ فامتدت يداه إلى إدراك ما لم تطأ رجلاه مختلسا صل حبلها أيها المولى الرحيم فما أبقى المراسُ لها حبلاً ولا مرسا وأحي ما طمست منه العداةُ كما أحببت من دعوة المهديِّ ما طُمسا أيام سرت لنصر الحق مستبقاً وبت من نور ذاك الهدي مقتبسا هذي وسائلها تدعوك من كثبٍ وأنت أفضل مدعوٍ لمن يئسا وقد تواترت الأنباء أنك مَنْ يحي بقتل ملوك الصغرِ أندلسا وأضرب لها موعداً بالفتح ترقبه لعل يوم الأعادي قد أتى وعسى معاني الألفاظ: 1 - درسا: تقادم عهده 2 - جزراً: أشلاء 3 - العوادي: المصائب وعوائق الدهر. المراجع: 1 - ابن الأبار القضاعي/ هلال بن عبد الله بن عمر. 2 - المقدمة/ ابن خلدون. 3 - مختار الصحاح/ للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر الرازي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©