الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سليمان العيسى.. شاعر الثورات العربية

سليمان العيسى.. شاعر الثورات العربية
21 أغسطس 2013 19:59
كان سليمان العيسى نجْماً مؤتلقاً في سماء الشعر العربيّ المعاصر، وخصوصاً بعد أن اشتهر، بالقياس إلينا نحن الجزائريّين، بتخصيصه ديواناً كاملاً للثورة الجزائريّة، كما حاول، هو وملكة زوجه، ترجمة ثلاثية محمد ديب، من الفرنسيّة إلى اللغة العربيّة. وحين عقدنا المؤتمر الأوّل عن الأدب الجزائري بجامعة وهران سنة 1975 دعوتُه، فأجابني بقصيدة شعريّة طريفة، مكتوبة بخط يده، وهو صاحب خطٍّ جميل، وهي «أرجوزة الجزائر» يبدي شوقه فيها إلى زيارة وهران لشهود ملتقاها الأدبيّ.. وقد نشرتُ قصيدته تلك في المكان المخصص للمنشورات بمعهد اللغة العربيّة وآدابها، أثناء انعقاد المؤتمر، كيما يطّلع عليها الأساتذة والطلاّب. وكنت كلّ حين أعثر على نصّها بين أوراقي المبعثرة، ولعلّ هذا هو الوقت المناسب، لإثبات أهمّ أبياتها، هنا. ويبدو أنّ الشاعر نشرها في ديوانٍ له عنوانه: «الديوان الضاحك»، وقد أثبتَ الشاعرُ نصّها في صفحتين اِثنتين، وهي تقع في ستّة وعشرين بيتاً. فيما يلي بعض نصّ الأرجوزة، مع تقديم الشاعر. يقول سليمان العيسى: «إلى الأخ الأستاذ عبد الملك مرتاض، بمناسبة تجديد الدعوة إلى ملتقى وهران، من سليمان العيسى (...): هذا كتابٌ بالهوَى فيّاضُ إلى أخينا واسْمُهُ مُرتاضُ جزائريّ من بقايا الثورة سقى الغمامُ ذِكرَها، وذِكْرَهْ في كلمات حلوة دعانا لملتقى يُعقد في وهرانَا ونحن في الجزائر المجيده منذ سنين أصبحتْ بعيده منذ انطلاق الثورة الجبّارة كنّا لها القصيدَ والقيثارة لم نعترفْ يوماً على الحدود كيْ نتحامَى غضَبَ الجدود لقد حملْنا الوطن الكبيرا حُلْماً ونبْضاً شاعراً مثيرَا ولم نزل أقوى من اللصوص ولو تبعثرْنا إلى فصوص شكراً لعبد الملك العزيزِ بالمُسهَب الممطوط (1) والوجيز إلى أن يقول: أنا الذي غنَّى على الأوراسِ الناسُ في كلّ مكانٍ ناسِي وكلُّهمْ هناك أمّي وأبي وإخوتي، أكرِمْ به من نسَب خلْف الوجوه العابساتِ حِينَا يُخْفون قلباً رائعاً ولِينَا يلومهم غيري على العبوسِ فقد أضاءوا الأرض بالشموس يا سكرةَ القَيثارِ يا وهرانُ آتٍ أنا، موعدُنا نيسانُ سليمان العيسى، دمشق، في 22/11/1980». ذكريات يمنية كما كان الْتمس منّي يوماً، ونحن بصنعاء، أن أسعى له في نشر أحدِ دواوينه بالجزائر، وأعطانِيهِ مخطوطاً، وحاولت لدى دار نشْر حكوميّة، ولم يكن لنا غيرها، فلم أُفلح، بحجّة أنّ قرّاء الشعر سوادُهم قليل!!... ولعل الذي دعّم من صداقتنا أنّه كان يقيم مع حليلته الدكتورة ملِكة أبيض، أمّ معْن، في صنعاء، فكنت كلّما زرت صنعاءَ، نتلاقى، ونقضّي أوقاتاً أدبيّة كانت من الروعة بمكان. وكان يدعوني إلى بيته أثناء إقامتي، عدّة مرّات، لأتناول الطعام على مائدته، سواء كان ذلك في صنعاء، أو حين انتقل إلى تَعِزَّ. وقد ذهبت يوماً إلى تعِزَّ من صنعاء، لإلقاء محاضرات على طلاّب جامعتها، وكان سليمان في زيارة لصنعاء والحال أنّ إقامته يومئذ كانت بتعزّ، فخصّصوا لنا سيّارة فخمةً أقلّتْنا إلى مدينة تعزّ، معاً... وفي بعض الطريق وَقَفَ رجال الأمنِ سيّارتَنا في حاجز، وقبل أن يسألوا السائق: مَن نحن؟ وإلى أين ذاهبان، أطلّ رجلُ أمْنٍ يمنيّ من خارج نافذة السيارة علينا، ولاحظَ قليلاً قبل أن يقول لزميله: ? سُيّاحٌ أجانب! والكلمة تعني أنّني، أنا، إذا كنت أبيض البشرة، فإنّ سليمان العيسى كان أشقرَها، فضحِكْنا لذلك، وصرْنا نذكر ذلك الموقف كلّما الْتَقَيْنا. وممّا حدّثني صديقي المرحوم سليمان من أطرف ما اتّفق له أنّ سفير فرنسا بصنعاء، دعاه يوماً من بين الشخصيّات التي دعاها، لحضور عيد وطنيّ فرنسيّ... وذهب سليمان في الساعة المحدّدة، وكان موظّف فرنسيّ يستقبل الناس ويُجلسهم مجالسَهم، وفجأةً جاء إليه ذلك الموظّف الذي كان يستقبل الضيوف، وجلس بجانبه، وبدأ يحادثه، فما كان من الشاعر سليمان العيسى، إلاّ أن سأله في فضول، باللغة الفرنسيّة، أو التماساً للياقة في مثل هذه المواقف: ? أنت تفعل، هنا، ماذا في السفارة، يا سيّدي؟! فأجابه الشخص: ? أنا... أنا أفعل سفيراً! (Je fais ambassadeur). وزرت يوماً صنعاءَ، فوصلتها الساعة الخامسة صباحاً، فنِمت بعد أن قطعت قريباً من ثمانية آلاف كيلو متر، بالطائرة طبعاً، واستغرقت في النوم، وما فاجأني إلاّ صوت سليمان العيسى يُوقظني في الساعة التاسعة صباحاً، تقريباً، وهو يطرق عليّ الباب بلطف، ويُنشد من شعر الخيام: هُبّوا امْلؤُوا كأس المنى قبل أن يملأ كأسَ العمر كفُّ القدَرْ فما أطال النومُ عمراً ولا قصّر في الأعمار طولُ السّهَرْ! ? انهض يا عبد الملك! ونهضت وتعانقْنا، ثمّ ذهبْنا إلى كوكبان، التي تبعد عن صنعاء بزهاء خمسة وعشرين كيلو متراً، في سيّارة خاصّة أقلّتنا، فقد كان الدكتور عبد العزيز المقالح رتّب لنا يوماً يشبه يوم دارة جلجل!... فقد ذهبْنا إلى بيتٍ معلّقٍ في الهواء، يجري بجواره الماء، ويُشرف على سهول شاسعة خضراء، ثمّ أُطعِمْنا طَلْياً مشويّاً، وتناشدْنا الأشعار، وتذاكرْنا الأخبار، وقد طاب لنا الأُنس وعمّ السرور، ودام ذلك إلى آخر ساعةٍ من النهار... قصيدة الوحدة وكنت في اليمن لدى إعلان الوحدة بين الشمال والجنوب، وكنت بتعز، أنا وسليمان، أنا زائر وهو مقيم، وبينا أنا جالس في مقهى الشرفة ذات مساء، إذا الصديق الدكتور عبد العزيز المقالح يسلّم عليّ، وكان لا يسافر أبداً... ولكنّ المناسبة العظيمة اقتضتْ أنّه يذهب إلى عدن مع وجوه القوم، ثمّ يعود منها فيقضّي ليله بتعز التي تقع وسَطاً بين عدن وصنعاءَ... وقد عزم علينا أن نصعد معه إلى صنعاء في صباح الغد الباكر، في سيارة واحدة: هو، وسليمان، وكاتب هذه الأسطار. ولَمّا بلغْنا مدينة إبّ التي تشبه طبيعتُها، طبيعة زيوريخ، اصطبَحْنا بأكباد الخِراف وقلوبها المشويّة، وما كان ألذَّها! وذلك قبل أن نُمْعِن السيرَ إلى صنعاء معاً، في طريق وعْر لا يسلكه إلاّ أُولو العزْم من الناس... وكان لا بدّ للشاعر العربيّ من أن يخلّد مناسبة إعلان الوحدة اليمنيّة، فكتب قصيدة بالمناسبة عنوانها: «املأ بها التاريخ»، ثم طلب إليّ الدكتور عبد العزيز المقالح أن أحلّلها على عجَل، ففعلت، ونُشِرت في صحيفة «سبتمبر» بتقديم المقالح على أساس أنّ المناسبة يمنيّة، والشاعر سوري، والناقد جزائريّ، فاجتمعت في العمل ثلاثة أطراف... وقد عثرت على نصّ ما كتبت مخطوطاً بين أوراقي المبعثرة، ويسرّني إثبات فقرتين منه: «لا نريد في هذه الكلمة التي ندبّجها إسهاماً صغيراً منّا في تخليد هذه المناسبة العظيمة أن نعرض لقصيدة سليمان العيسى بالتحليل والتشريح؛ فذلك مسعىً قد يحين حِينُه؛ وإنما نبغي التوقّف فقط على هامشها لنذكر بعض الآثار التي تركتْها في نفوس اليمنيّين: قرّاء «سبتمبر»، ومُشاهدي التلفاز، من أثر كريم، ثمّ ما تركتْه في نفْس صاحبِها ذاته، ثمّ نعوج لنكشف، على عجَل، عن بناه... لقد كنت قُبَيْلَ إعلان الوحدة اليمنيّة، رسميّاً، في تعزَّ، مدينةِ الجمال والتاريخ. وقد كنت جالساً مع الشاعر على الشرفة (التي يجب أن تدخل التاريخ الأدبيّ من بابه العريضِ فتُذكر، حين تذكر، بجنب المربد، والجسر، والرصافة، ودارة جلجل، والدَّخول، وحومَل، وسِقْط اللوى، والتَّوباد... بعد أن أخذ كلّ الأدباء والنّقّاد العرب الذين يتوافدون، بكثرة، على اليمن، مهْدِ أجدادِهم، فيزورون تعزّ ليجلسوا في شرفتها كلّ أصيلٍ، وليشاهدوا جبل «صبْر» الأشمّ المطلّ على مدينة تعزّ التي تراها تغرق، أثناء الليل في سمائها فلا تدري أهي مدينة أرضيّة أم سماويّة؟ ولا تدري، أهي، أيضاً، أضواءُ مدينةٍ حقّاً، أم نجوم مجرّة عظيمة متلألئة؟) وهو يحدّثني في انتشاء روحيّ غامر عن آخر قصيدة أبدعها عن الوحدة اليمنيّة (...). ولِما كنت أعلم من صدْق عواطف سليمان العيسى ورهافة إحساسه بالقضايا القوميّة، وهو أحدُ أكبر شعراء الثورة الجزائريّة، فإنّي كنت أتطلّع إلى قراءة نصّ القصيدة، أو سماعه من صوته. ولأمرٍ ما لم ألتمسْ منه أن يقرأها لي، مع ما كان يقرأ لي من آخر قصائده التي كتب بعضها عن الشرفة العجيبة، وبعضَها الآخر عن وادي الضباب... لأنّها قد لا تطيب إلاّ إذا قُرئتْ في مناسبتها العظمى، وفي موقف حافل يليق بجلال الحدث الذي تتناوله، إلى أن كان يوم الخميس الماضي (24 مايو 1990) في مَقِيلٍ جمع طائفةً من ألمَعِ النّقّاد العربِ بطائفةٍ من كبار الأدباء المنيّيتذن ومفكّريهم، فأصبح الظرف ملائماً لإنشادها، وقد تحقّقت المعجزة، معجزة الوحدة، وسُقط في في أيدي الحاسدين والمتوجسين خيفةً من هذه الوحدة... وبدأ سليمان العيسى يُنشد هذه القصيدة وأدباءُ المقيل يقاطعونه بالتصفيق من لوحةٍ إلى أخرى. وقد الْتهبتْ أَكُفُّهم بهذا التصفيق حين لم يستطع الشاعرُ كبْحَ جماح عواطفه العارمة فأجهش بالبكاء وهو ينشد إحدى لوحاتها الأربعِ...». (2) «ثمالات» العيسى ولكنّ الذي كتبته عن ثُمالاته لم يضِعْ منّي، وها أنا ذا أعيد نشره لقراء ملحق «الاتحاد الثقافي» لتخليد هذه المناسبة الحزينة، ولتعزيز أواصر الذكرى. «إلى سليمان العيسى... كان سبق لنا أن قدّمنا، منذ زهاء عامين اثنين، ديواناً لسليمان العيسى بعنوان «ثُمالات». وكانت تلك المقالة بعنوان: «حِواريّة الشّعراء في «ثمالات» سليمان العيسى». وفي آخر زيارة لي لمدينة صنعاء (حيث يقيم هناك منذ أكثر من عشرة أعوام) فوجئت بأنّ الصّديق سليمان العيسى أصدر ديواناً ثانياً بعنوان: «ثمالات 2». وقد أهداه إليّ بعبارات رقيقة نصُّها: «إلى أديبنا العربيّ الجزائريّ الكبير، أخي وصديقي القديم... الجديد، الدّكتور عبد الملك مرتاض. ما أمْلَتْه الفترة الأخيرة على ريشتي من ثمالات... مع خالص محبّتي. سليمان العيسى صنعاء في 21/4/2000». ولقد كنت نوّهت بما بذل هذا الشّاعر العربيّ الكبير من جهد استثنائيّ في سبيل نشر الوعي الوطنيّ والحضاريّ والسّياسيّ والتّربويّ، والخلقيّ أيضاً، جميعاً، بواسطة الكتابات الشّعريّة السّخيّة، غيرِ العصيّة، التي ظلّ عطاؤها يَهْمِي غزيراً كالسَّحاب الهاطل، ويجري رقراقاً كالجدول الشّارد؛ لم يتوقّف له عطاء، ولم يَنضُبْ له غَرْب، ولم يخْفُتْ له صوت، ولم يَكْلِلْ له عزم. فسليمان العيسى ظاهرة شعريّة عربيّة امتدّت على مدى خمسين خريفاً ولا تبرح، كما كانت لدى منطلقها، نابضةً بالعنفوان، طافحةً بالجمال؛ كأنّها لم تطفُرْ إلاّ منذ لحظات: لقوّة عُنفوانها، ولنضارة شبابها. فالعقود السّبعة التي انسلخت من عمر شيخ الشّعراء العرب المعاصرين كأنّها لم تنسلخ عنه إلاّ بمقدار؛ أو كأنّها انسلخت على الجسم فعلاً فنالت شيئاً من ظهره، وأضعفت قليلاً من بصره، وجعّدت، على نحو ما، من ملامح وجهه؛ لكنّ قريحته الشّعريّة لم تزدَدْ، أثناء ذلك، إلاّ تضْريَةً وحِدّة، وقُوّة ونَضْرَة. وكأنّ ما كان قاله حكيم شعراء الجاهليّة وكريمُهم، زهير بن أبي سُلْمى: سئِمتُ تكاليفَ الحياةِ ومَن يَعِشْ ثمانين عاماً، لا أبَا لكَ، يَسْـــأمِ لا يعنيه هو في شيء. ذلك بأنّ هذا الزّمن الذي كانت الشّعراء العرب لا تزال تشكو منه، ولا تبرح تنزعج له؛ لم يعُد يعني سليمان العيسى الشّيخَ/ الفتى: الشّيخَ في السّنّ، والفتى في الشّعر، إلاّ على هَوْنٍ ما. الشّيخ الجليل، ماضٍ في دربه الشّعريّ الطّويل، لا يلوي على شيء، ولا يأبَه لكرّ السّنين: يقول الشّعر اليوم كما كان يقوله منذ خمسين عاماً: جِدّةً ونضارةً، وعطاءً وأريحيّةً. وكلّ ما في الأمر أنّ شعر اليوم يختلف عن شعر الأمس في تطوّر نسجه، وفي تجديد مضامينه، وفي ابتكار تشكيله. وكذلك ظلّ الشّيخ يقول الشّعر ولا يلتمس شيئاً من الاِزْدِلاف مِن أحد، ولا يتكلّف شيئاً من المدح للحكّام. ولقد كنت حضرت معه أَحَدَ مهرجانات الشّعر بإحدى العواصم المغاربيّة منذ ثلاثِ سنواتٍ فقُدّمَ غيرُهُ في الأُمسيّةِ الافتتاحيّة؛ ولم يبرمج هو فيها، على الحضور في القاعة، إلاّ في إحدى الأُمسيّات المتأخّرة الخاملة؛ فأبدى لي الشّاعر الرّقيق شيئاً كثيراً من الحزن والاِمتعاض، وعدَّ ذلك ضرْباً من الإهانة المقصودة، أو غير المقصودة؛ وأنّه لو كان يدري سلفاً ذلك لكان اعتذر ولم يحضر ليُعفَّرَ مُحيّاه بتلك الإهانة... فقلت له: هوّن عليك، ولا تحزن يا شاعري؛ فإنّ الإهانة يجب أن تلحق الذين أهملوك، أمّا أنت فستظلّ أنتَ، أنت، في كلّ الأحوال والأطوار، كبيراً شامخاً. وظلّ الشيخ صوتاً شعريّاً عربيّاً هادراً كالرّعد الْمُدَمْدِم، وسخيّاً كالشُّؤْبوب الْمُمْرِع: رسالتُه هي بثُّ الجمال والخير، وهِجِّيرَاهُ نشرُ المحبّة والسَّلْم: إلى أن لحِنت له مؤسّسة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشّعريّ فكرّمت مثواه، واعترفت بجهده، وأقرّت بثمرة عطائه الشّعّريّ، الذي على الرّغم من ثقل السّنين، إلاّ أنّه ظلّ سُخَانِيناً كالنّفَس الطّريّ، عَطِراً كالشّذى العبِق، ممتدّاً كالظّلّ الوارف. إنّ مسيرة سليمان العيسى لطُولها وغناها وتنوّعها امتدّت فروعها إلى جملة من القضايا الكبرى فتناولتها في الشّعر، مثل القوميّة، والوحدة العربية، والثورة الجزائريّة، والقضيّة الفلسطينيّة، والطّفل، والمرأة... لكن يبدو أنّ سليمان العيسى بات، في العهد الأخير من حياته، يشخَص ببصره إلى موضوعات صغيرة في ظاهرها، ولكنّها نبيلة في حقيقتها؛ وذلك لأنّها ذات شأن في الحياة الأدبيّة والإنسانيّة والاِجتماعيّة جميعاً كموضوع الإخوانيّات الذي كما كان شغل حيزاً كبيراً في ثمالاته الأولى، فإنّه شغل حيزاً أكبر في ثمالاته الأخرى. فقد ألفيناه يقول كثيراً من المقطّعات القصيرة في أصدقاء، وغير أصدقاء، من الأدباء، الأموات منهم والأحياء، مثل نزار قبّاني، وعبد العزيز المقالح، وعبد اللّه الجفري، وأحلام مستغانمي التي قال في روايتها «ذاكرة الجسد»، وذلك بعد قراءتها: لم تكوني قصّةً مُذهلةً سرقتْ من عبْقرٍ نيرانَ شاعرْ كنتِ ثأراً عربيّاً رائعاً لاِغتيالِ المتنبّي... في الجزائرْ (ثمالات 2، ص.83). اليأس والنحس ويبدو أنّ سليمان العيسى، بعد الذي كان أصابه من اليأس والنّحْس، والقعود والجحود؛ لم يُصبح معتقِداً بجدوى الرّسالة الأدبيّة في المجتمع؛ من أجل ذلك ألفيناه ينعَى على الأدباء الذين لا يزالون يردّدون أنّ «الكتابة تغيير»: ماذا غيّرنا؟ ماذا فجّرنا؟ خلّفنا الكلماتِ ركاماً أضرمنا فيها النّيرانْ كنّا نحن... وكان الحرف... وأشعلْنا البُركانْ خُيِّلَ للحلُم المجنونِ بأنّ الشّعرَ هو الطّوفانْ وهْوَ المعجزةُ الخضراءْ تهدِمُ كيف تشاءْ ثمّ أفقْنا ذات صباحْ والأشياءُ هي الأشياءْ والموتى مازالوا موتى والكلماتُ هباءْ». (م.س.، ص.60-61). فلْيظَلَّ صوتُ سليمان العيسى - على رزئنا فيه اليوم - نديّاً رخيّاً، ومتعالياً جهْورِيّاً؛ يصدع بالشّعر العبقريّ، ويبثّ الجمال الطّريّ؛ صابّاً في ملحمة الأصوات الشّعريّة العربيّة التي لم تجعل من الكلمات، في الحقيقة، هباء؛ ولكنّها جعلت منها شَرراً وشظايا، تَزْدَجي بها القَطا والمطايا، ويضُوع لها العَبْهرُ في جبل «التَّوْباد» وهضاب «الحَنايا» (3) فلا تزال شادّةً مشمّرةً، مترنّمةً مغرّدةً، في الأَصباح والعشايا...». لا أحسب أنّ سليمان العيسى مات، فشعره العظيم ستظلّ الأجيال تردّده منشدة إيّاه، متغنيةً به إلى يوم القيامة. والتقيت به آخرَ مرّة في أبوظبي، منذ زهاء أربعِ سنوات، وقد كان يصطنع عربةً تُدفَع به، لعجزه عن المشْي، فتألّمت لذلك، دون أن أبديَ له ذلك. لكنّ عقله كان هو هو، كما عرفته. وكانت الابتسامة ترتسم على وجهه، وكأنّه لم يبالِ بما آل إليه، فرحمك الله يا صديقي الكبير، سليمان... هوامش: 1 - اللفظة مستوحاة من التأخّر الذي طرأ على الملتقى، فمعذرة. 2 - كُتب نصّ هذه المقالة التي نُشرت في جريدة «سبتمبر» الصنعانيّة بتقديم الدكتور عبد العزيز المقالح، بخطّ يدي، لأنّي كنت في صنعاءَ بعيداً عن كلّ الوسائل الحديثة للرقْن، وكان الحاسوب المنقول لمّا تَشِعْ ثقافته بين الناس. وقد كتبتُها، حسب التاريخ المذكور في أسفل الصفحة التاسعة والأخيرة منها، في 26 مايو 1990. 3 - الحنايا: بُليدة بضواحي مدينة تلمسان، وذكرْناها لتوأمة التّوباد معها، سعْياً إلى توثيق العُرَى، وتعزيز صِلات القربى. العروبة والطفولة.. قضيتنان متناوبتان في شعر سليمان العيسى قضيتان شغلتا الشاعر الراحل سليمان العيسى، وتناوبتا على قصائده، خلال مسيرته المديدة: العروبة والطفولة. كأنهما قضيتان متلازمتان. هو غنى للعروبة مادحا ومقرظا، عندما كانت الحركة القومية في مهدها، تهدهد القلوب وتطلق الأحلام. بدت العروبة في قصائده طفلة مدللة، وبقيت كذلك. لم ينل منها العمر. لم تدركها التحولات. لم تأكل من رصيدها العصبيات. ولم تهز صورتها الهزائم. ربما كان التزامه الحزبي يقدح قريحته الشعرية، أكثر من انتسابه القومي. تلك قضية تحتاج إلى استقصاء، خصوصا وأن المرض أرخى بثقله على سليمان العيسى في سنواته الأخيرة، فلم نسمع منه رأيا بما يجري، وأكثره نال محبوبته العروبة في المبتدأ والخبر.. لكن، يبدو أن سليمان العيسى وجد تعويضاً عن العروبة المنكوبة. هي الطفولة، التي ستبقى طفولة مهما هرمت الأعمار وتعاقبت الأجيال. فمنحها كل موهبته، وجل طاقته الشعرية. هل كانت الطفولة عنده اختيارا تعويضياً؟ لا أحد يمكنه الإجابة يقيناً عن هذا السؤال، لكن ما منحه سليمان العيسى من قصائد للطفولة (العربية) يكفيه، ويغنيها.. رحل الشاعر العربي السوري سليمان العيسى بدمشق يوم 9 أغسطس الحالي عن عمر ناهز 92 عاماً، وهو من مواليد النعيرية في أنطاكية من لواء إسكندرون عام 1921، وكان درس صغيراً على أبيه أحمد العيسى في القرية، فحفظ القرآن والمعلقات وديوان المتنبي وآلاف الأبيات من الشعر العربي. بدأ سليمان العيسى كتابة الشعر في التاسعة فكتب أول باقة من شعره في القرية، متحدثاً عن هموم الفلاحين وبؤسهم. كان فتى يانعاً عندما اندلعت ثورة اللواء العربية، وأحس عرب اللواء آنذاك بمؤامرة فصله عن سورية. ومنذ تلك الآونة راح يشارك بقصائده القومية في التظاهرات والنضال القومي الذي خاضه أبناء اللواء ضد الانتداب الفرنسي. غادر لواء إسكندرون بعد سلخه ليتابع مع رفاقه الكفاح ضد الانتداب الفرنسي، وواصل دراسته الثانوية في ثانويات حماة واللاذقية ودمشق. دخل السجن أكثر من مرة بسبب قصائده الغاضبة ومواقفه القومية. شارك في تأسيس حزب البعث منذ البدايات وهو طالب في ثانوية جودة الهاشمي بدمشق مطلع الأربعينات من القرن الماضي. درّس في دار المعلمين ببغداد، وفي مدارس حلب وحلّ موجهاً أول للغة العربية في وزارة التربية السورية. أقام في اليمن أعواماً طويلة، وكُرّم بجوائز واحتفالات. وانصرف بعد نكسة يونيو 1967 إلى كتابة الشعر للأطفال، فأنجز دواوين كثيرة انتشرت عربياً. وهو من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في سورية عام 1969، وانتخب عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق في 1990. يحسن سليمان العيسى الفرنسية والإنكليزية، إلى جانب لغته العربية، ويلم بالتركية. وشارك مع زوجته الدكتورة ملكة أبيض في ترجمة عدد من الآثار الأدبية، أهمها آثار الكتاب الجزائريين الذين كتبوا بالفرنسية. وفي عام 1990 انتخب عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق. وفي عام 2000 م حصل على جائزة الإبداع الشعري، مؤسسة البابطين. اعتمد سليمان على أبعاد تربوية في أشعاره التي كتبها للأطفال والشباب، متأثراً بخلفيته السياسية. من تلك القصائد: مع الفجر، شاعر بين الجدران، أعاصير في السلاسل، ثائر من غفار، أزهار الضياع، أغنية في جزيرة السندباد، أغانٍ بريشة البرق، وغيرها. ومن أبرز دواوينه “ديوان الأطفال” الذي يحفظ كثير من الأطفال العرب بعض قصائده. وفيه حرص على استخدام اللفظة الرشيقة والسهلة، والموحية الخفيفة، ذات الإيقاع السريع الذي جعل من تلك القصائد أناشيد. واهتم سليمان العيسى باليمن، وخصها بكثير من أشعاره التي صدرت في كتاب “اليمن في شعري” الذي يضم نصوصاً شعرية مختارة ومميزة، اختارتها زوجة الشاعر ملكة أبيض، وقامت بنقلها إلى الفرنسية، وطبعت هذا الإصدار باللغتين العربية والفرنسية. وقد احتوى الكتاب على قسمين: يضم الأول قصائد مختارة في 65 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي القسم الثاني على الترجمة الفرنسية لتلك القصائد في 70 صفحة. أما كتاب “يمانيات” فهو ديوان شعري، يضم أحدث ما كتبه سليمان العيسى عن اليمن، ويقع في أكثر من 180 صفحة من القطع المتوسط، تتوزع عل 43 قصيدة، كرسها سليمان العيسى لليمن، أرضاً وإنساناً وتأريخاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©