الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حبل التاريخ السرّي

حبل التاريخ السرّي
27 ديسمبر 2017 03:20
حين أشفق عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، على المسلمين من ركوب البحر كان يعلم أنّ هذا السطح الذي يمتدّ بعيداً حتى لا تطاله العين، هو حبل الحضارات السرّي ومحطّ الأسرار ومنبت كلّ جديد. وهو الغامض، مختبر الوجود الذي تتمازج فيه الحضارات، وتلتقي الثقافات، وقد ارتاده العرب والمسلمون بحب وجرأة، وأورثوا من جاء بعدهم حبّه وعشقه، وكتبوا على سواحله حكاية الاحتكاك الحضاريّ والتبادل الإنسانيّ الذي لا يحدّه حد. وتُعدّ منطقة الخليج العربي عموماً، والإمارات تحديداً، موئلاً مهمّاً وأنموذجاً حقيقيّاً على منطقة غنيّة بصلات الجوار، ومنافع البشر المتبادلة، وما ذاك إلا لأنّ الله حبا هذه المنطقة موقعها الاستراتيجي وإنسانها الذي بنى أرضيّةً طيّبةً وسمعةً عاليةً وأسس موقعه على خريطة الوجود الإنساني والإنجاز البشري الذي يُذكر كلّ حينٍ وآن.. ولقد أذابت الأنفاس الإماراتيّة والخليجيّة بدفئها جليد الأصقاع البعيدة، وفكوّنت عوالم من التقارب العربيّ الإسلاميّ، وحملت معها إلى هذه الأصقاع جذوة الإنسان الذي يصمم على أن يترك بصمةً في كلّ الأرض، فكيف بتجار حملوا معهم أمانة الخلق العربيّ الكريم ووسطيّة الدين والمعتقد النبيل وسارت تعرّف بهم وبخصوصيّة أنّهم إنّما يعمرون الأرض تنفيذاً لشرع الله الذي أمر بهذا الإعمار ومعاملة الناس بالحسنى، فكان أن تلألأت الشواطئ والسواحل القريبة بأنوار قناديلهم، بل بنور عيونهم وبصائرهم التي أنبتت الزرع في القاحل والبيد، وجرَّتْ المياه، فنبت الزرع وامتلأ الضرع، وأصبحت البلاد مضرباً للأمثال، بل أصبحت ومطمحاً يهاجر إليها المتعبون والباحثون عن الرزق والمصممون على النجاح. والإماراتيّون على وجه التحديد هم أهل بحر ورمل وجبل، وهم أهل همّة عالية وجوار طيّب وخصال حميدة، عرّفت الأمم والشعوب ودول الجوار بهم، فكانوا حرّاس نبل وفروسيّة وعزائم لا تلين في العمل والإنجاز والإفادة، فمثلما انطلق الإماراتيّ الأوّل يمخر عباب الخليج، انطلق الأبناء والأحفاد لتعلو البيارق، وترسو مع السفن على الشواطئ والسواحل سيرة بلدٍ مضياف وكريم اسمه الإمارات. القصّة تغري بالقراءة، والوجوه التي استقبلت شمس النهار بابتسامة العمل، وصمدت أمام الهوج من الرياح، كانت تطالع في أبنائها قامات باسقة للحفاظ على هذا الموروث العظيم، فقد خاضوا غمار البحر، وعلموا أسراره، وأسروا من في جواره بحسن معشرهم، وقوّة شكيمتهم وحيائهم العربيّ الأصيل، حتى لقد قيل إنّ الله كان يبعث مع الرزق الكثير من الأرزاق، إذ ظلّ يفتح لهذه الهمم مجال الطموح، فكانت الرسالة وكان الرسوخ، وكانت البصمة أو «العلامة» التي لا يمكن أن تمحى. وفي كلّ ذلك كانت حبّات البحر اللؤلؤيّة تعرف أصحابها الذين عمّروا بلاداً ذهبوا إليها للتجارة، فكانت مساجدهم وما تزال تضيء على تلك البلاد بوسطيّة وأعراف نبيلة وأخلاق كريمة، فكان أن تعلّق أبناء الأمم والشعوب بهؤلاء الصيد الشجعان الكرماء الذين تركوا أثرهم الذي يدلّ عليهم، وعجنوا رمل السواحل بعرق جباههم، ليثمر كلّ هذا عن وجودٍ فرض موقعه في كلّ أرض. وفي الوقت الذي كانت جوامع تصدح بالدين الوسطيّ القويم، كانت جوامع مشتركة بين الناس، خصوصاً في رحاب الخليج الذي يروي قصّة المجد وصبر الرجال وبلوغ الآمال وطيب المآل، وكانت القصص والحكايا وكانت أواصر جديدة كان العربيّ الإماراتيّ سبّاقاً فيها إلى كل خير. واليوم، يقف الأبناء والأحفاد على قصّة الإنجاز، وينشأون على سير البحر وسواحله، ويغريهم ذلك السّوق الأوّل الذي أصبح أسواقاً تزدهي بكلّ جديد ونفيس ومثير، ولأنّ مداميك هذه العلاقات بين الإماراتيين وجيرانهم على السواحل ظلّت تقوم على العطاء والإنجاز والتصميم، فقد كانت السواحل الإماراتيّة والخليجيّة عناوين اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة أيضاً، ومحلّ تعاون استراتيجيّ طيلة فترة طويلة، لخدمة البشر وإعمار الأرض. لو امتلكت السواحل ناصية البيان لعدّت على أجيالنا فصولاً من البطولات والمآثر والفضائل وحكايا البحر وتلاقي الناس، ولو قدّر للخطوات أن تعلن عن أصحابها لكنّا اليوم أمام سِفرٍ لا تنتهي صفحاته من قصص المعاناة والتعب، ومن رسائل الشوق والحنين والغربة العاصفة لبني البشر الذين حملوا آهاتهم وسافروا بها في عرض البحر وفي مناكبه طلباً للرزق. حياة ضاجّة بالحركة والإبداع التلقائيّ: مراكب وسفن وبشر يملؤون بهمّتهم العالية المكان، وأمم تجتمع على التعاون والتآلف، وبلاد تتسع، وأقوام وصلتهم الأخبار فجاءوا يشاركون وينقلون لبلادهم تصميم الإماراتيّ وحضاريّته في التعامل وتداول الإنسانيّات. صيغ حضاريّة تُبرم، ومنافع تتحد عليها الأيدي، وحياة كاملة تملأ البلاد والعباد، فلا عجب إذن أن تكون السواحل مفاتيح الوصل ولا بدّ أن تكون الأهزوجة الإماراتيّة وأصوات النهّامين لها الحصّة الكبرى في هذا البناء الإنسانيّ، ولا عجب، أيضاً، أن تجتمع الحضارات على احترام الدولة التي كانت للبحر صديقاً وللساحل رفيقاً، وللناس خير معين. اليوم، تأسست الموانئ على فكرة السفن والمراكب الصغيرة، ولو قُدّر لرجلٍ من ذلك الزمان أن يستعيد أمامنا كلّ خيرات الزمن الجميل لأبهرنا بإنساننا الذي اجتمعت على محبته الأطياف، وأصبحت سواحله ملاذاً، وما ذاك إلا لأنّ البصمة الأولى ظلّت وتظلّ عصيّةً على التقليد. السواحل آفاق بعد ساعاتٍ وأيّامٍ طويلة في عرض البحر، والساحل إيذانٌ بالوصول ونجاةٌ من عاتيات الرياح وجنون البحر، الذي تزداد وتائره بجنون العاشقين ودندناتهم الحزينة والتي تسابقهم كلّ لحظةٍ إلى ساحلٍ جديد، السّاحل من المنظور الأدبيّ أولّ اليابسة وانتهاء البحر، بل هو أوّل البحر وانتهاء اليابسة، وبين الحالتين ثمّة مشاعر وأحاسيس ودموع حارّة إمّا للقاء جديد أو لوداعٍ جديد على هذا الساحل. على سواحل الإمارات اليوم عهود ومواثيق ورايات عالية تعلن عن أرض الكرام، وتظهر عمق هذه الدولة التي تعاضدت إماراتها السّبع لترسم أنموذجاً خالداً وعالياً في القوّة والمحبّة واللين والبأس الشديد على من يعادي أوجه الحضارة والبناء والعطاء والاحتفاء بالمنجز والذّات. وكما كانت السواحل منفذاً للبضائع فقد كانت أيضاً طريقاً للتأثير في فنون وآداب ونهج حياة، إذ تقف فنون العمارة وقد أخذت من محيطها بهاءً وأصالةً، مثلما نجد أنّ من اعتاد الساحل يُطبع قلبه على الرقة والعذوبة والإحساس والمزاج العالي في الرومانسيّة وحب الناس. السّواحل مناطق قوّة واستراتيجيّات، وهي متنفس طبيعي للدول والشعوب، بل إنّها المفتتح لكلّ شيء! في هذا الملف سنتعرف على منظومة الثقافة الساحلية، وكيف ساهمت السواحل الإماراتية والخليجية في الانفتاح على الآخر وخلق صيغ حضارية للتفاعل والتعاون والتواصل مع الحضارات والأمم الأخرى؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©