الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ميسون صقر.. ابنة زمن لا يخصها

ميسون صقر.. ابنة زمن لا يخصها
25 أغسطس 2011 01:08
الاهتمامات المتنوعة للشاعرة الإماراتية ميسون صقر (1958-) تثير شهية أية قراءة نقدية لتجربتها كي تراجع التنافذ المفترض بين الوسائل التي تعبر بها عن تفاعلها مع الحياة، وانفعالها بالعالم، وتمثلها لواقعها ومحيطها، ومعاينة لغتها الشعرية بالضرورة وفق تلك الاهتمامات المتجاورة في تطور وعيها، والتي تقترض من بعضها أدوات ووسائط تظل اللغة وسيلة عرضها وتقريبها. عُرفت الشاعرة ميسون صقر بكتابة قصيدة نثر ذات مناخ رومانسي بغنائيته الشفيفة وتناوله المبسط والمباشر، وانشغالها بقضية الإنسان عامة والمرأة خاصة، لكنها تقدمت للقراءة برسومها، ومن بعد بتجارب سردية في الرواية خاصة، وبين ذلك كتبت شعراً بالعامية المصرية التي كانت تمثل السياق الثقافي الأصغر في تجربتها، حيث يشكل المكان المصري مجال استمداد متنوع للثقافة وقضاياها كالحداثة، واستيعاب التحولات في القصيدة العربية، وتداخل الأنواع الأدبية والفنون. وهذا ما يمكن أن يكون سياقاً لقراءة تجربتها الشعرية التي يسجل لها في تقييمها أنها كانت من الأصوات المبكرة الواضحة في الخليج بانحيازها للتقدم والتحديث على مستويي الكتابة الشعرية النسوية، والتحديث غير المحدد بلوازم في القصيدة العربية. فكان أفق تجربتها ونصوصها وحضورها ممتدة عربياً ومتداولة بسبب التنوع المكاني والثقافي والفني الذي حكم سيرورة تجربتها. تواصل ميسون صقر منذ ديوانها الأول “هكذا أسمي الأشياء” 1983 تقديم مناخ مختلف لحداثة مشروطة بحضور الموضوع كمهيمنة دلالية في قصيدة الشعر الحر أو قصيدة النثر من بعد. وتضاف له عنايتها بالتعيينات المكانية والتحيينات الزمنية والحوار بأنواعه، كمخاطبات خارجية لآخر مفترض، أو تداعيات مونولوجية تستحضر الذات وتسمح بالبوح عن داخلها. وبعد تبلور مهاراتها التشكيلية كرسامة، والسردية ككاتبة رواية صار واضحاً ما يمكن أن ينسل من فن لآخر على مستوى الخطاب نفسه، وليس النصوص وحدها، فكانت رؤيتها للمكان ـ كمثال ـ وكما جسّده ديوانها “البيت” ينطوي على معالجة سردية واضحة التأثر بالمساحة المتاحة في قصيدة النثر للتمثيل المكاني. امرأة غريبة في ديوان “رجل مجنون لا يحبني” 2001، الذي حمل عنوان قصيدة طويلة تقدم ميسون صقر نموذجاً لوعي الشاعرة بالعلاقة بالرجل كطرف في ثنائية حب لا تتم الا بوجوده، كما لا ينجز الا بوجودها. لكن المرأة هنا تأخذ دور الطرف العاشق؛ فتقدم غنائيات متواصلة على مدى القصيدة الطويلة لتصوير موقف ثابت سينكشف بعد أبيات قليلة، وربما كان مرجع ذلك هو حرص الشاعرة على الوضوح وحضور الموضوع، كما افترضنا في استهلال هذه الاستطرادات، لذا أوقفت المخاطَب امامها في النص كشخصية يتوجه إليها الخطاب، وكنموذج لرجل تناجيه المرأة التي لايحبها. ربما كان هذا البوح على مستوى الموضوع يعكس جرأة الشاعرة على الكشف عن مشاعرها وأحاسيسها وحقها في ذلك، والمبادرة العشقية التي تقلب معادلة الحب التقليدي في الشعر العربي، حيث المرأة طرف مستلم للواعج الحب والتعبير عن الرغبة بها والغائبة على مستوى التبادل ورد الفعل. ينطوي نص “رجل مجنون لا يحبني” على حمولة دلالية متعددة الملامح، فهو على مستوى الانفعال بالتجربة يعكس التكافؤ الذي تحسه الشاعرة مع الرجل ـ وهذا نتاج وعيها النوعي بدور المرأة في الحياة وموقعها في حركتها ـ ما يتيح لها ان تكون هي الطرف الذي يبث شكوى الصد والهجر من الرجل، وذلك ما اعتاد خطاب العشق الموروث أن يجعله حكراً على الرجل، بينما المرأة هي الهاجرة والمبتعدة والرافضة والمشكو لها والمتمنعة.. وليس هذا في التفسير الثقافي والتأويل العلمي دليل مكانة المرأة المعشوقة، بل دليل الترفع عليها وحصر مكانتها في تسلّم مشاعر الحب لا مبادلتها مع الرجل، فضلاً عن مُبادأتها أو مبادرتها لهذا الحب، فذلك يخرق الصورة النمطية التي صنعها الرجل لها ككائن يجب أن يمنعه حياؤه وتربيته ورمزية الشرف المتصلة به من أن يكون (= تكون) عاشقة تبوح بشكواها من الحبيب. فهل كانت ميسون صقر بهذا البوح تشيد عالماً رمزياً تريد أن تعيد من خلاله توازن العلاقة بالرجل وإمكان أن يصبح معشوقا يتمنع ولا يحب ويسبب الألم لشريكه؟ تبدأ القصيدة بالبوح الذي سيكون مفتاحاً لفهم العلاقة، كما أنه استهلال للنص نفسه، (أنا منك) وبهذا يتعرف المتلقي على موقع المخاطب الموصوف بالجنون، والمعرَّف بأنه لا يحب المتكلمة في النص. إنه بالنسبة للمتكلمة مرجع تنتمي إليه. أنا منك. بمعنى انها تقاسمه حبه وحياته وجنونه. بل سنتشكك بالبوح الذي تقول الشاعرة إنها تخشاه كي لا تتبعثر الأشواق في الأفق. ولعل رمزية هذه الرغبة بعدم البوح عما يخص المخاطب هو جزء من تعمية المسكوت عنه، وتغييبه في ثنايا الشكوى من صدود الرجل، وحذف ما لايراد له ان يقال في مقام العشق، كما كان يفعل الشعراء العشاق ـ الذكور حين يغيّبون أسماء حبيباتهم، ويكنّون عنهن بسواهن، أو يلغون الخصوصية المفترضة، وحميمية العلاقة العشقية. لكن على المتلقي أن يتعقب ملفوظات النص، ويضع لها سياقا خارجيا تعاقبيا ليتعرف على المشهد كله، مرسوماً عبر جدلية العشق ورفض المعشوق، لتتجمع لديه أخيرا الصورة المكتملة لما يراد توصيله في النص. الظل والتوأم لا تدّعي الشاعرة تطابقها مع المعشوق كما هو مألوف تقليدياً، بل تؤكد انتباذها وعزلتها ووحدتها، هي ابنة زمن لا يخصها، وليل سيضاعف غربتها عن الرجل الذي تكتم أسراره في ظلام ذلك الليل الرمزي كالزمن نفسه، وبذلك تحقق ذاتها غير مغرقة في ميوعة عاطفية تذيب شخصية العاشق في معشوقه وتلغيه. الشاعرة حاضرة في أسباب التباعد مع الرجل، فهي ايضا لها عالمها الذي تتوحد فيه، ويهبها الظل فرصة أو حرية البحث عن توأم لم تجده في رجل مجنون لا يحبها، وهذا يفسر حضور ذاتها في النص؛ فنقرأ عن حالاتها ما يكمل صورة المرأة التي قد لا تجد حتى في المحبوب ما تبحث عنه في الظل، حيث تسكن روحها ويترعرع جسدها وتنمو ذاتها. وكذلك تتسلسل مقاطع الوحدة ممثلة بمهارة الرسامة التي ينتج خيالها صورا للوحدة ستترك أثرها في القراءة، ففي المقطع الذي يبدأ بقولها (أفرغ في النهار من تعاسة الوحدة) نتلقى مثلا صورة الإبرة داخلة في العظم، مقابل الكلام المتكور ليرمى من ثقب.. وصولاً إلى صورة مرسومة للرجل تبين عدم رؤيته لما تنطوي عليه دواخلها؛ فكأنه أعمى يتفرج على سواد، وربما كان ذلك تبريرا لعدم حبه لها، لكنه ينقل الصورة البصرية إلى أفق لغوي فيتضاعف أثرها. المرأة هنا شجرة يراد لها أن تغدو مختصرة في ثمرة: (أنا الشجرة/ لست الثمرة) وبينهما ينقسم عالم كامل بين عطاء وافر تمثله الشجرة، ولذة عابرة تمنحها الثمرة. ويتضاعف الألم حين يكون الرجل بلا بصيرة، فينخدع بالعابر ولا يرى الأصل. رجل كهذا لن تتقدمه الشاعرة فرحة تحمل الشموع. لقد اختزلت النهاية بحركة واحدة؛ وكأنها تنهي سرداً مطولًا خشينا أن يتوقف عند لقطة واحدة: امرأة لا تستحق هذا الجحود والهجر: لكنها أنقذت النص باستثمار إيقاعات النثر وممكناته، والسرد الذي أتاح أن نرى مساحة للخطاب والتداعيات الذاتية التي لم تتطلب من الشاعرة إغراقاً في الترميز، ولا غرقا في طوفان من هيجانات لغوية، غالبا ما صادفتها القراءة في نصوص العشق المتداولة. رجل مجنون لا يحبني انا منك ترفعني بأسبابك وحدها؟ روحي لا تزال في محبتها لأجلها أظل مستمسكة بأوهام وفي الظل باحثة عن توأم يؤاخي ما استتب في العمق الذي أراده الجسد أنا ابنة الزمن الذي لا يخصني وابنة هذا الليل الذي يكتم اسرارك التي تخصني كي لا تبوح بها إن بحت تبعثرت الأشواق في الأفق لا أفق ينجي من هذا الشرود ولا موت بعد موت قد ألم بقلبينا فكيف نختصر البلاد والتاريخ فينا غريبة أنا عنك، أعلم لكنني أقرب من هذا الدم الذي يضخ في الوريد. أفرغ في النهار من تعاسة الوحدة في الليل، أطير بأجنحة أحلامي أملا في عدم وجود نهاية أنا التي يحلو لها أن تفقد سريعا أحيانا تهزني الحُمّى لأصحو كي لا أنهزم كي لا أنام مصابة بالوهم خائفة من لفتة تتكسر فيها عظامي وبضلوع محبتي أصنع حبالا لأصعد كما لو أنني أكور كلاما وأحذفه من ثقب. وكإبرة في العظم تدخل بثقب نافذ بجراحة عاجلة في العاطفة تجر سقوطي، وتذهب قلتَ: أنتِ لستِ لي وأنتَ رجلٌ وحيدٌ رجل للمصادفة متفرج لهذا السيرك متفرج أعمى للسواد. لا أُبدلُ جسدي بظل يطأ سماء قريبة لا أغادر المكان المكان جوهرةُ الألم حين تمر أمامي يرشح ظلي عليكَ أنعكس بجناني فوق غبطتك لكنك لا تحبني كل يوم فَراشةٌ وحيدةٌ بجناح مهيض يمكنها كسر أشواقك سريعا ويمكنني أن أبدل الروح بخيط رائق تماما عن حافة النوم. في مهبط ساذج وسماء تمطر بلا رأفة على جسدي جسدي المهيَّأ. كي تسقط سحابة كل هذه المياه رجل مجنون لا يحبني لا يأبه لذوباني أنا الشجرة لست الثمرة وهو لا يفتح بصيرته لن أتقدمه بالشموع
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©