الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فن الإنسان للإنسان

فن الإنسان للإنسان
25 أغسطس 2011 01:13
استنفذت قضية البحث في مسائل تأصيل المسرح العربي وتحديد هويته من قبل الباحثين وخبراء المسرح وقتاً وجهداً كبيرين، لدرجة أن مثل هذا الاهتمام لو اقترن بإيجاد حلول لتطوير المسرح العربي وأشكاله لخرجنا اليوم بصيغة المسرح العربي المستقلة شكلا ومضمونا، نستطيع أن ندحض معها كل الادعاءات التي تشكك في صلة العرب بفن المسرح. والدارس بعمق لهذه الإشكالية يجد أن صلتنا بالمسرح ومنذ بداياته الأولى لم يكن مقطوع الصلة بالتراث أو التاريخ العربي، بل وجدنا أن مارون النقاش والقباني يؤسسان مسرحهما على أسس وقواعد تراثية وتاريخية عربية. لكن المسألة في النهاية تتمحور في سؤال: كيف ننقل روح الحدث في إطار مسرحي؟ وكيف نصوغها للمسرح دون أن نفقد تلك الروح والجماليات والفكر والفرجة، والعناصر الأخرى التي تتكون منها العملية المسرحية وإدخال الجمهور فيها، على النحو الذي ابتدعه المسرحي الراحل الدكتور يوسف إدريس من خلال تحقيقه لفكرة (مسرحة المسرح) كلعبة فنية تجعل من المتفرج جزءا رئيسيا منها. يرى الناقد الانجليزي ت. اس. اليوت إن هناك ضرورة في أن تكون صلة للكاتب المسرحي بالتراث الإنساني حتى يستطيع تعميق تجربته، شريطة أن يفيد من هذا التراث بأصالة فنية، ففي مقالة له بعنوان: “الموروث والموهبة الفردية” من الغابة المقدسة يشرح “اليوت” وجهة نظره من هذه المسألة بقوله: “يمكن للكاتب أن يفيد من تراث الأدب الماضي، فخير إنتاج للكاتب هو ما يظهر فيه جلاء أن الأقدمين من نوابغ الأسلاف لم يموتوا”. إن كل ما في هذا الأمر أن هناك حاجة إلى (قوة التخيل) من جانب الكاتب لكي يصنع ذلك الامتداد الجميل الخلاّق للحدث أو الحكاية القديمة أو الموضوع التاريخي، فقد يأخذ منه جانبا من الصراع، أو عاطفة إنسانية، أو أسطرا قلائل من أحد كتب التاريخ: لقد قيل أن المصدر الكامل لمسرحية الكاتب الفرنسي جان راسين “بريتانيكوس” كان سطرا واحدا من اللغة اللاتينية. هذا التخيل المبدع هو الذي يصنع لنا المسرحية الجيدة التي تحمل معنى أصيلا وجوهريا له أثره في حياة ووجدان المتلقي ليفصح عن مشاعره الحقيقية التي يصادرها الواقع في كثير من الأحيان. مشروع عربي في هذا السياق وفي عام 1963 دعا الدكتور يوسف إدريس إلى ضرورة خلق مشروع عربي نصا وروحا وشكلا ومضمونا من خلال مفهوم (كسر الإيهام المسرحي) أو ما اسماه وقتها بـ (مسرحة المسرح)، حيث يشترك الممثل والجمهور في تشكيل النص المسرحي والتمثيل معا. إن مشكلتنا الحقيقية في المسرح هي أننا نعزله عما هو كائن في حياتنا. يذكر الدكتور الناقد علي الراعي في آخر أحاديثه حول هذا الموضوع: “المسرح فن سياسي من حيث انه لا يتحقق بدون جمهور، فبدون جمهور مجتمع لا يأخذ المسرح شكله، ولا يمكن أن يقوم فن مسرحي، أما إذا ازدحمت القاعة واشتعلت الصالة بين الجمهور والمنصة يأخذ المسرح شكله الحقيقي ويصبح أشبه بالإجتماع السياسي. وهنا نقول: المسرح سياسي منذ ولد، لأن السياسة معناها الانشغال بمصير العالم في بعض الأعمال ذات الطبيعة الكونية أو المصير العربي أو القومي، وهذا هو الدور التنويري للمسرح. ومن باب الكلمة الأصيلة (النص المسرحي) وهي أصل مشكلة المسرح العربي يمكن أن نعبر إلى الكثير من القضايا التي تقودنا إلى إشكالية التعامل مع المادة الفنية وتحويلها إلى إطار درامي مقنع! من خلال وسائل وحرفية ودلالات المسرح التي تتطور بسرعة مذهلة تبعا لتطور لغة العصر ومنطقه وظروفه. لقد دوّن كاتب واحد هو وليم شكسبير تاريخ انجلترا في مرحلة تجاوزت الثمانين عاما من خلال روائع مسرحية مجدَت الملوك والأبطال والتاريخ بروح شاعرية لا مثيل لها. فهل يعجز مئات الكتاب في عالمنا العربي عن تسجيل تاريخ الأمة في سياق مسرحي يتمتع بالتجديد ويحمل سمات وأشكال وهوية المسرح؟ هل هنا عجز عن خلق مسرحيات يصب فيها المضمون العربي ضمن صياغة سليمة ومعافاة، صياغة تحمل في جنباتها الأصالة والمعاصرة؟ وهي المعادلة الوحيدة القادرة على تصدير (مسرحية عربية) ليست هجينة ما بين الشكل الغربي وملامح الشخصية الغربية، وما بين الحوار الذي يكتب باللغة العربية. ونقول حوارا ولم نقل مضمونا، لأن هناك العديد من المسرحيين يعتقدون إن أي حوار بين شخصيتين أو أكثر يكفي لإقامة عرض مسرحي، وعلى هذا الأساس ضخ لنا المسرح التجاري في معظم المسارح العربية مئات المسرحيات الاستهلاكية الهامشية التي لا تعبر إلا عن ثقافة سطحية تتخذ من عناوين مثل: كوميديا سياسية ستارا واقيا كي تقتحم من خلاله وجدان الفرد العربي الذي أوقعه المترفعون والمتعالون على التراث والتاريخ في فراغ ثقافي لا يحسد عليه. وبالمقابل فقد وجدنا كتابا ومخرجين أولوا التراث أهمية بالغة ، فقد قدم يوسف إدريس مسرحية “الفرافير” مستوحيا مفردات وعناصر من فن السيرك، وقدم الكاتب الفرد فرج مسرحية “حلاق بغداد” ومسرحية “علي جناح التبريزي وتابعه قفّه” مستلهما من ألف ليلة وليلة، ووضع محمود دياب مسرحية “ليالي الحصاد” في قالب مسرحي جمع ما بين فن السامر والمسرح المرتجل، وكتب سعد الله ونوس في قالب المرتجل مسرحية “حفلة من أجل 5 حزيران”، وفي قالب الحكواتي “مغامرة رأس المملوك جابر”. وغاص الطيب الصديقي في المغرب حتى وصل إلى مسرح الحلقة ومسرح الرواية المقلد في “ديوان سيدي عبد الرحمن”، معتمدا في ذلك على المقامات شكلا ومضمونا في مقامات بديع الزمان الهمذاني. ونضيف إلى كل ذلك احتفالية المسرحي عبد الكريم برشيد في المسرح التونسي كما وجدنا استدعاء الشخصيات التاريخية على نحو مسرحية “الشحاذين” نص وإخراج جميل عواد واستدعى من خلالها شخصيات مثل: عطيل، ماري أنطوانيت، طارق بن زياد، وغيرها من الشخصيات ذات التأثير في وجدان المتفرج، وقد استخدم في صياغتها أسلوب لعبة المسرح داخل مسرح وتوفير أجواء من الفرجة بغرض السخرية من بعض الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها رجل الشارع العربي. كما نضيف هنا المحاولات الطموحة التي قدمها الكاتب الإماراتي الراحل سالم الحتاوي وكذلك كل من عز الدين المدني ويسري الجندي وأبو العلا السلاموني وشوقي عبد الحكيم وقاسم محمد ويوسف العاني وفاروق خورشيد وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي وأمين شنَار وجمال أبو حمدان وغيرهم كثيرون من المبدعين الذين اهتموا أيضا بالموضوعات السياسية التي اتخذت من التاريخ مصدرا لها، وقد أسهم هذا الاتجاه إلى حد ما في إكساب أعمالهم المسرحية ملمحا عربيا، كما قلل من تأثرها بالمسرح الأوروبي والمسرح المستورد، ولم يفسد بعض هذه التجارب الأصيلة سوى اللهاث وراء التقنية الغربية من خلال بعض المخرجين الذين رفعوا قبعاتهم أمام تمثال النموذج الأوروبي المستور في محاولة منهم لإبعاد المؤلف المسرحي عن قضية وخشبة المسرح العربي بحجة أن هؤلاء المخرجين يستخدمون لغة ومفردات تختلف عما يستخدمه المؤلفون. وهنا تبرز لنا إشكالية أخرى تضاف إلى هموم النص المسرحي العربي وتتمثل في محاولة متعمدة لاغتيال النص والكاتب لمصلحة التقنية والإبهار البصري في الشكل المسرحي، وهو ما عرف اصطلاحا بظاهرة (مسرح المخرج) الذي يتحول فيه الكاتب إلى مجرد رقم وعنصر صغير من عناصر العملية المسرحية المعقدة. إعادة اعتبار يقول الكاتب والناقد الأردني الدكتور وليد سيف “أنا أتحيز للكتابة وللكلمة ولدور المؤلف ولا بد من إعادة الاعتبار للنص المسرحي الحقيقي. والعمل المسرحي كما هو معروف لا ينتهي إلا بوعي الجمهور، والعمل الذي لا يرتقي إلى مستوى هذا الجمهور هو إنتاج سلبي، وحتى نحقق معادلة الأصالة والمعاصرة والصورة المسرحية المتكاملة علينا العمل لخلق نص مسرحي ينبع مضمونه من روح ووجدان الناس”. وهنا نتساءل: هذا النص المسرحي الذي يطالب به الدكتور وليد سيف هل هو موجود؟ مثل هذا النص لا يمكن تحقيقه بغير المؤلف المسرحي المحترف، فهل هذا الآخر موجود؟ إن تقصيرنا في عملية التأليف المسرحي الخاص هو أول واخطر عثراتنا في خلق بنية مسرحية أصيلة. ونسأل ثانية: هل راقبنا حياتنا الشعبية وما تختزنه من مظاهر احتفالية متنوعة وأحداث بسيطة قد تصلح لتجارب مسرحية مؤثرة؟ في بعض أعمال المسرح العربي تجد الكثير من التجارب الناجحة التي اعتمد كتابها على مصادر تاريخية أو تراثية أو أحداث يومية نابعة من بيئة وحياة الشعب. في هذا المجال التقط الكاتب جبريل الشيخ، وهو واحد من المهتمين بتوظيف الموروث الشعبي في المسرح، حدثا جرى في إحدى القرى الشعبية العربية وطوّر منه عملا دراميا معاصرا سمّاه “البغل”، والحدث يصور مزارعا بسيطا ساذجا وسعيدا بحرث أرضه، معتمدا كلية على بغله الذي لا يكلفه الكثير، لكنه وبفعل الإعلام (الراديو) الذي لا يكفّ عن بثّ الإعلانات حول مساعدة المزارعين في تغيير أسلوبهم القديم في حراثة أرضهم لجني أموال أكثر، فانه يقرر شراء (جرّار) لحراثة أرضه بدلا من بغله الذي أحيل على التقاعد، حتى يتسنى له تحقيق أحلامه بالثراء السريع، لكن كل أحلامه تتبدد بعد أن تراكمت عليه ديون البنك الذي اقرضه المال لشراء الجرار. من هذا النص أسقط الكاتب على بعض صور الانهيار الاقتصادي في الوطن العربي، نتيجة الوهم الذي أغرقه فيه الغرب بتحويله من عالم زراعي إلى عالم صناعي تجاري وكانت النتيجة أن حصد الأجانب ثمار عشرات المصانع الضخمة التي أديرت بعقول وإياد أجنبية، وبقي عالمنا العربي معلقا ما بين وهم عالم الصناعة والإنتاج والتقنية وعالم الزراعة وما زالت فكرة (الانتظار) تتكرر فنيا في مثل هذا العمل وأعمال مسرحية كثيرة شهدناها عبر السنوات الماضية في المسرح العربي. أما عن قالب نص جبريل الشيخ فهو يمثل الانطلاقة الحقيقية للمؤلف كونه نجح فعليا في استثمار (فن المسخرة) المنبثق من البيئة العربية وهو فن ناضج يقوم على الرسم الكاريكاتوري في تصوير المشكلة المطروحة. وفن المسخرة كما هو معروف هو الفن الأقرب إلى عروض (المحبظين) التي اشتهرت في مطلع القرن العاشر وكانت بحسب الرحالة بلزوني تقدمها فرقة شعبية مصرية عرفت باسم (المحبظين) التي سعت من خلال هذه العروض إلى إضحاك الناس والسخرية من أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية ومن مساوئ حياتهم السياسية المضطربة تحت الحكم العثماني. يصف الدكتور احمد صقر شخصيات هذه الفرقة التي تتقابل مع مفردات وأسلوب وشخصيات كوميديا ديلارتي الايطالية بقوله: “كانت شخصيات المحبظين ثابتة وكاريكاتورية، مبالغ في رسمها حتى تنجح في التأثير على المتفرجين، فمثلا وجدنا في كوميديا ديلارتي شخصيات المحبظين مثل، الحاكم المستبد والفلاح البسيط الفقير”. في اتجاهات أخرى قريبة من هذا المعنى نجد أن هناك محاولات مسرحية عربية لامست إلى حد كبير الطموح الذي نبحث عنه في هذا السياق. فعلى مستوى الأشكال المسرحية نجد أن الفرد فرج قد استثمر الكثير من الملامح الشعبية في أعماله المسرحية. ففي مسرحية “جواز على ورقة طلاق”، أفاد من عناصر فن الارتجال والنكتة الشعبية المرحلة التي تمزج روح الواقع بالخيال البديع. وفي “حلاق بغداد” نجده يستفيد من الطابع الاحتفالي وإظهار اللعبة المسرحية أمام الجمهور. كما نجد أن ممدوح عدوان في مسرحية “ليل العبيد” استثمر شكل السيرة والرواية إلى جانب عنصر التغريب في المسرح الملحمي في مزاوجة فريدة أسهمت في تقديم عروض مسرحية حيّة متلفعة بثوب معاصر. نقول أن كل هذه التقنيات هي فنون مفتوحة ومتاحة أمام كل المبدعين في المسرح، فالاحتفالية التي يدعو إلى تكريسها عبد الكريم برشيد، نراها تستخدم في المسرح الأميركي تحت مسمى (المسرح الحي) بعروضه ذات الطابع الاحتفالي الطقسي، على أن هذا المسرح يؤكد على ضرورة إشراك الجمهور في العملية المسرحية كذلك يفعل مسرح الحوادث. نخلص من ذلك كله إلى أن مسألة تطوير الشكل المسرحي هي ضرورة لازمة للوصول إلى الشكل المعاصر للمسرح القادر على التوجه بقوة إلى وجدان الناس، وفي هذا الإطار من أحاديث وروايات ومسامرات نجد أن فرقة مسرح الحكواتي في لبنان قد جمعت مادة مسرحيتها (من حكايات 1936) من أحاديث وروايات ومسامرات استمعوا إليها من الفلاحين والعمال والرعاة حول مواجهة الاستعمار وإفساد خططه لتمزيق الوطن العربي. يقول المخرج الراحل سعد اردش حول مضمون هذه المسرحية: “العمل انطلق من قصة شعبية واقعية جرت حوادثها في منطقة بنت جبيل سنة 1036، عندما هاجمت الجماهير سراي جبيل للإفراج عن زعمائها الوطنيين الذين اعتقلتهم سلطات الانتداب الفرنسي في الوقت الذي كانت تجري فيه أضخم وأعنف الانتفاضات الشعبية المحلية التي شملت سورية ولبنان وفلسطين”. يمكن القول في نهاية المطاف إن تحقيق خطاب مسرحي عربي أصيل ليس بمعجزة لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع، فان بعض التجارب المسرحية العربية الممتازة المتناثرة بين مشرق الوطن ومغربه تبشر بالخير ليس فقط من خلال التقنية والصورة والمشهدية وعنصر الإدهاش والفرجة وغيرها من مهمات مسرحية، ولكنها تعاملت مع الإنسان العربي على اعتبار أن فن المسرح هو فن الإنسان للإنسان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©