الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حداثة الحروفية.. و«بابل» الأساليب

حداثة الحروفية.. و«بابل» الأساليب
25 أغسطس 2011 01:13
إذ تُطرح، على بساط البحث والنقاش، مسألة “حداثة” اللوحة الحروفية العربية لجهة علاقتها باللوحة المعاصرة أو لجهة البحث عن هويتها ومرجعيتها، فإن منطقة عتْمٍ واسعة سوف تمتد. منطقة العتم تلك هي المسافة الفاصلة بين ما يجري الآن إنجازه في هذه اللوحة، وما يمور فيها من خلط تقني وأسلوبي خاصة مع الانفتاح على إمكانات تتيحها برامج متخصصة في الكمبيوتر من قِبَل الخطاطين تختزل في الوقت والمهارات، وذلك بدرجة أدنى، ثم محاولة خوض الجدل الخاص بها في سياق أنها تمثل جانبا من ما يُنجز في الفن التشكيلي العربي المعاصر بدرجة أهمّ، وهذا كله من جهة، أما من الجهة الأخرى فتبرز تلك اللحظة النقدية العربية وما يعتورها من حال الشلل تجاه التأسيس لخطاب نقدي موازٍ أو على الأقل يشهد جدلا شبيها بالجدل الذي تخوضه الحروفية العربية مع ذاتها في نزوعها نحو الإجابة على أسئلتها الخاصة بها. بالتأكيد فإن منطقة العتم هذه ما كان من الممكن طرح أمرها هنا لولا ذلك الإصرار لدى جمعية الإمارات للفنون التشكيلية على إقامة الدورة الثلاثين من معرض “الخط العربي” وما يشتمل عليه من مسابقة وعرض لأعمال متنافسة على جوائز المسابقة، حيث من المتوقع لأيٍ منا أن يشعر بقَدْر من الارتباك أمام هذا ال”بابل” من الأساليب والأشكال التي تطرحها الحروفية العربية راهنا وكذلك ما تطرحه من إشكاليات تخصها في ذاتها إلى حدّ يدفع بمتلقٍ عادي إلى التساؤل عن مستقبلها وكذلك هو الأمر في ما يتصل بالوعي النقدي التشكيلي العربي الذي ما زال يدور في أفق من “كلام” نقدي “مكرور” على منجز الحروفية العربية هو في مجمله، أو في زبدته بالأحرى، يرقى إلى ما طرحه النقد ذاته في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في أحسن الأحوال. العنصر والمركز ربما يكون سعي الحروفية العربية إلى الاقتراب من اللوحة المعاصرة يتمثل، في هذا المعرض، بالعديد من الأعمال التي تفرض على المتلقي التعامل معها بوصفها عملا تشكيليا تجريديا بالمعنى المدرسي للكلمة، وما يميز هذه الأعمال هو حضور الحرف العربي ضمن هذا الإطار التجريدي ليصبح الخط عنصراً من عناصر العمل وليس مركزه، أي أن العنصر الأبرز الذي تتحدد من خلاله هوية العمل ومرجعيته الثقافية قد تراجعت لصالح حضور “حداثة الشكل”، ووفقا للمعنى التقني فإن مركز العمل قد انتقل إلى الخلفية التي يستند إليها اللون بوصفه الرافعة الأساسية في خلق التوازن ومجمل التناغمات اللونية على السطح التصويري، ليصل المرء بالمجمل إلى أن ما يراه وينظر إليه هو أن الشاغل الأساسي للوحة ليس هويتها بل هو حداثتها غالبا وميلها إلى الذهاب بعيدا عن القِيَم الروحية التي أصّلتها اللوحات الكلاسيكية العربية خلال السنوات الثلاثين الأولى من النصف الثاني من القرن الماضي، ما يعني أيضا أن الحروفية العربية في مثل هذه اللوحات لم تتخفف من “الثِقَل” الايديولوجي للفكرة الحروفية وحدها إنما من حضور الحرف ذاته على السطح التصويري للعمل. ينضاف إلى ذلك، أن من ملامح الذهاب عميقاً في الحداثة التشكيلية هو غياب النقوش والتزيينات أو هي في بعض الأحيان شديدة التقشف مع أن هذه النقوش والتزيينات هي عنصر من عناصر العمل الحروفي إجمالا ومثّل لدى البعض من الخطاطين العرب المعروفين مختبرا لإضفاء الحداثة والاشتباك المعرفي والتقني والأسلوبي في العمل الحروفي، وذلك فضلا عن استخدام خلفية للعمل هي على صلة ببرامج الكومبيوتر وما تمنحه من إمكانيات وحلول تشكيلية أكثر من اقترابها من الصنيع اليدوي الذي يجعل من اللوحة الحروفية لوحةً حروفيةً تماما يستغرق بناؤها عاما فأكثر. وبالطبع في البعض من اللوحات وليس كلها بالتأكيد. بين متلقيين يقول الخطاط والرسام السوداني تاج السرّ حسن، الذي يُنظر إليه بوصفه واحدا من الوجوه البارزة في استدخال الحداثة إلى حقل اللوحة الحروفية العربية بالاستفادة من التصوير وتقنياته الحديثة، في صدد ذلك: “لم تعد عناصر اللوحة الحروفية هي المرجعية التي تشكل العتبة الأساس التي من خلالها يلج المتلقي إلى العمل الحروفي فقط، بل ينبغي الآن أن نضيف الفنان بوصفه ذاتا مبدعة لهذا العمل الفني ويعبّر عن انفعالاته الشعورية تماما كما يفعل أي فنان تشكيلي آخر”. ويضيف: “من غير الممكن الآن للتلقي أن يتفاعل مع العمل الفني الحروفي مثلما كان يتلقاه في سبعينيات القرن الماضي، وما يحدث ليس بقطيعة معرفية تقوم بإحداثها اللوحة الحروفية عن ماضيها إنما هي تسعى إلى نوع آخر من التواصل الذي يتم بين “ذات” مبدعة أصيلة و”ذات” أخرى متلقية وأصيلة بدورها، وذلك مع الاعتراف بوجود البعض من الإشكاليات التي تخص إنتاجها وكذلك الإشكاليات التي هي من خارجها وتخص التلقي والنقد معا”. كما يؤكد تاج السرّ حسن، الذي يُعدّ واحدا من خبراء الحروفية العربية، على أنه ما من إجابة راسخة في هذا الأمر وأن الإشكالية المعرفية الراهنة والتساؤلات المحيطة بها لا تتوقف عند اللوحة الحروفية وحدها بل تتجاوز ذلك إلى ما يتم إنتاجه في التشكيل العربي إجمالا. أما عن طريقته في الاستفادة من الحداثة التشكيلية العربية في لوحته الحروفية فيرى تاج السرّ حسن، الذي يشارك بأحد أعماله في معرض “الخط العربي” أنه قد يترك للعبارة أن تأخذه إلى ما يمكن أن تأخذه إليه على صعيد اختيار الخط وكذلك في الاستفادة ما أمكن من تقنيات المزج اللوني بحيث يعبر اللون على السطح التصويري عن مشاعر وانفعالات خاصة به موقنا بأن الصدقية، التي يمكن وصفها بأنها روحية بمعنى ما، هي التي تفتح الباب أمام التلقي لتأويل عمله. زخم تعبيري أما الخطاط المصري خليفة الشيمي، الحائز المركز الثاني في جائزة المسابقة، فيرى أن هذه الإشكالية التي تحيط بالحروفية وباتت مدخلا للهجوم على منجزها الراهن لا يتحمل مسؤوليتها الخطاط العربي إنما “بدأت بدخول الفنانين التشكيليين، وخاصة من الذين تنتمي أعمالهم إلى المدرسة التجريدية، بالدخول على خط “الخط العربي” وذلك على اعتبار أن الحرف العربي يتسم تشكيليا بالقوة والزخم التعبيري والثِقَل فاستخدمه التشكيلي العربي ليضيف إلى لوحته بهاء وجمالا إضافيين، لكن لأن هذا الفنان تشكيلي بالأساس ولا علاقةَ معرفيةً له بالكلاسيكية الحروفية العربية وقواعدها الهندسية فقد شوّه من مسعى الخطاطين إلى طرح حروفية عربية بالمعنى المحترف للكلمة باختزاله الخط العربي بما هو جمالي فقط وليس رؤيوي أيضا”. ولأن النص موضوع اللوحة الحروفية المأخوذ عادة من القرآن الكريم أو الحديث النبوي أو من مأثور القول فإنه يتمتع بشرف ومكانة لا تسمحان بنقلها إلى اللوحة الحروفية هكذا كيفما اتفق لكن ينبغي كتابتها بحسب ما يليق بمكانتها الروحية والمعنوية، بحسب ما أكّد الشيمي الذي زاد على ذلك بالقول: “لكننا كحروفيين وخطاطين نسعى إلى المحافظة على إرث جمالي عبر الالتزام بقواعد الخط العربي”. ووصف الشيمي ما يكتبه من حروف عربية على السطح التصويري لأعماله التي حملت العنوان: ابتهالات، بأنها: “النص الخفي” إذ توحي به الحروف الواضحة لمرأى العين ذلك أنه، بحسب ما شَرَح الشيمي: “لا ينبغي أن تُقرأ اللوحة الحروفية العربية المعاصرة بوصفها كلّا متكاملا على نحو ما تتم قراءة الأعمال الحروفية العربية الكلاسيكية، حيث من الممكن عند إخفاء جانب من النصّ أن يفتح أمام المتلقي باب المشاركة في قراءة العمل الحروفي بوصفه حروفيا وتشكيليا معبما يتضمنه ذلك من محاولة المتلقي الدخول إلى عمق الفنان نفسه بإقامة ما يمكن أن أسميه بـ”الديالوغ” بينه وبين الفنان، وبالتالي فإن النص الخفي ليس خفيّا على الإطلاق إنما هو موجود لصالح المتلقي”. أما تحقيق هذا الأمر على المستوى التقني وكذلك على المستوى الأسلوبي فإن الشيمي يقول عن ذلك في أعماله: “لقد اعتمدت الشفافية في اللون بتقصّد إذ أن الشفافية بمعناها اللوني المحض ليست تنازلا مقابل ضعف بارز في التلقي إنما لأنها فكرة صوفية أصلا أي هي ما يُعرف بـ(جدلية الخفاء والتجلي)”. بالطبع بحسب عنوان أحد أبرز الكتب النقدية للباحث والناقد السوري كمال أبو ديب. يبقى القول أن البعض يرون أن اللوحة الحروفية على ما جاءت عليه في معرض “الخط العربي” الذي يكون قد أقفل أبوابه لهذا العام مع طباعة هذا المقال إلى حدّ أن إزاحة لوحة من مكانها ووضعها إلى الأعلى من اسم أي خطاط فلن يكون هناك فوارق تُذكر. وبالتأكيد فقد لا يخلو هذا الزعم من بعض التطرف أو كله، إلا أنه يطرح المشكلة في جانب منها وهو الجانب الأسلوبي، وحتى يجد النقد العربي التشكيلي أدوات جديدة يتناول من خلالها ما طرأ من تغيرات على اللوحة الحروفية العربية وتعيد النظر في منجزها الراهن ليس بالقياس إلى ماضيها القريب بل إلى حداثتها الراهنة وصلتها بحداثة اللوحة التشكيلية العربية فإن “سمينا” كثيرا سيسيل وعتمة ستطبق أكثر على ما يُعْتد به من إبداع أصيل في هذا الحقل، غير أن فضيلة معرض “الخط العربي” في دورته الثلاثين أنه يعلّق الجرس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©