السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هندسة العالم بين السياسي والأدبي

هندسة العالم بين السياسي والأدبي
10 سبتمبر 2014 21:40
* كل دول العالم تعادي «القاعدة» فكيف تعجز عن إيقاف تقدمه؟ * قول الأدب: السياسة لعبة بهلوانية لا تعرف غير المصالح الذاتية * قول السياسة: الأدب حرفة الفاشلين في الحياة الإنسانية ---------- الصراع بين السياسي والأدبي أبدي، فالسياسي هدف سهل للأدبي، حتى لو كان السياسي ديمقراطياً. الأدبي يلاحق السياسي ملاحقة أبدية بحجة الحرية والعدالة. وفي ظروف تتوافر فيها الحرية والعدالة تشتد أكثر فأكثر حملات النقد والملاحقة طلباً للمزيد من الحرية والعدالة. فهما في خصومة الهرّ والفأرة، مع أنهما ينطلقان من نظرية كبرى واحدة غرضها هندسة العالم للوصول به إلى العدالة الضامنة للحرية. ----- هندسة العالم نحو الأفضل هي النظرية الكبرى للسياسي والأدبي، وعندما لقب ستالين الأدباء بـ «مهندسي النفوس البشرية» لم يقصد الفصل بين العملي والنظري، بل بالعكس، كما قال لإيليا أهرنبورغ المتذرع بظروف الحرب، عندما توقف عن نشر فصول روياته «العاصفة»: «عندما تهندس النفس تهندس العالم». لا أحد يخالف جوهر السياسة: توجيه الخلق نحو العالم الأمثل، أي عالم السعادة، كما يقول الفلاسفة. فالسياسة في كلمتها اليونانية تعني الاهتمام بالمدينة، أي الوطن، مثلما أن الاقتصاد يعني إدارة المنزل، فيكون الاقتصاد السياسي إدارة موارد المدينة. والمدينة صارت دولة، والدولة اندمجت مع دول أخرى في العولمة، ولم يتغيّر شيء من مفهوم السياسة، لكن السياسة عملياً شيء آخر، تغرق في المصالح الخاصة، ومن هنا مطعن الأدبي على السياسي. كل ما يقوله السياسي في هذا المجال صحيح، ولكن الأدبي يتهمه بأنه يستغل النظرية شعاراً بينما يعمل لمصلحته. ومنذ العصور الوسطى طرح مكيافيلي، ومن قبله ابن المقفع، مسألة السياسة طرحاً عملياً بعيداً عن الانتهازية. وقد اتضح من التطبيق أن النظرية السياسية ليست أكثر من عنوان كبير بلا مضمون مطابق للشعارات. وهكذا صارت الشعارات السياسية أشبه بالضباب الكثيف الذي يخفي الممارسات المريبة والمضرة بمصلحة الناس، وبمصلحة الحاكم قبل غيره، فلم يثبت أن السياسة الخاطئة عادت على الحاكم بخير. نماذج من الممارسة أهم البنود في الميدان السياسي تكاد تنحصر في العدالة والحرية: كيف تحدد العدالة سقفاً للحرية. كيف يحقق السياسي العدالة من دون اختراق الحريات العامة والخاصة؟ السياسي العملي، أو الحاكم، لا يعرف شيئاً اسمه عدالة أو حرية سوى ما يعود عليه وعلى طبقته بالمنفعة حسب مفهومه. وهذه هي المفارقة الكبرى بين النظرية والتطبيق. منذ القديم والبيانات تصدر من السياسي العملي بأنه يعمل من أجل مصلحة المجتمع والشعب، وأنه يضحي بمصالحه من أجل ذلك في حين تكون النتيجة على النقيض من هذا الزعم. وحتى نكون واضحين نأتي بأمثلة تاريخية. نار العصور الوسطى نأخذ المثال الأول من العصور الوسطى، فقد كان مقياس العدالة - إذا ضاعت الأدلة والبراهين الواقعية الحاسمة - السير فوق نار ملتهبة. فإن نجا المتهم كان بريئاً، وإلا نال جزاءه. هذا المقياس جاء من العصور القديمة جداً، وقد حرّمه الإغريق والرومان، لكنه عاد في العصور الوسطى واستمر مدة طويلة، وقد دعي سافونارولا إلى هذه العدالة، فوافق بشرط أن يمشي فوق النار خصمه قبله. وعرف الخصم حيلة سافونارولا فرفض. وأشاعت محاكم التفتيش أن نار المحرقة لا تنال من البريء. وبعد إلغاء نابليون لمحاكم أسبانيا تبين أن المحكومين بالموت «دون إراقة دماء» كانوا أبرياء. منجل الشرعية الثورية المثال الثاني نقف فيه عند الملك الفرنسي لويس السادس عشر، فقد أنفق هذا الرجل ما في خزينة الدولة لدعم الثورة الأميركية. ولم يكن هذا قراره بل قرار الحكومة بكامل أعضائها. فلما أفلست الخزينة باع أملاكه ودعم بعض جوانب العجز. وحدثت ثورة بعد تردي الأوضاع، ومثل الملك أمام المحكمة فلم تجد سبباً لإصدار حكم عليه سوى البراءة. لكن روبسبيير صرخ بوجوب محاكمته حسب «الشرعية الثورية» فحوكم في الجمعية العمومية التي كثر فيها اليعاقبة، فطرحوا مفهوم الحرية والعدالة طرحاً جديداً حسب «الشرعية الثورية»، أي شرعية مبادئهم، التي يعتبرونها الطريق الأوحد لتحقيق العدالة والحرية. وهذه أول مرة يسمع العالم بـ «الشرعية الثورية». لكن إذا حق لهذه الشرعية أن تدين رجلاً راشداً، فهل يحق لها الحكم بالإعدام على وريث العرش الذي لم يبلغ الرابعة من عمره؟ وهل خرق هذا الطفل تلك الشرعية؟ وهل خرقت ماري أنطوانيت الشرعية الثورية لإنفاقها على المسرحيات التي كانت أحياناً تمثل فيها؟ أو حتى في حال ثبتت تهمة العقد المزعوم، الذي لم يجدوه لديها؟ كما صارت «الشرعية الثورية» منجل حصاد الخصوم، بيد لينين بعد قرنين من الثورة الفرنسية، وباتت أساس سياسة الانقلابات العسكرية التي حدثت في القرن العشرين. شعارات الإنسانية البراقة المثال الثالث ننتقل فيه من هذا النوع من الأمثلة إلى أمثلة من السياسة العالمية، التي تعلن شعاراتها الإنسانية البراقة في العدالة والحرية، تحت عناوين عديدة من أمثال حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل، ولا ندري لماذا كل هذا التنويع ما دامت الحقوق واحدة للجميع دون تمييز بين رجل وامرأة وراشد وقاصر. وليكن المثال مما يجري في الحرب الدائرة، وليكن تنظيم القاعدة مثالنا العملي. إنه تنظيم تعاديه وترفضه كل دول العالم، من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا وإيران وأندونيسيا والصين وباكستان وبنغلادش. . . والعراق والسعودية وسورية ولبنان والأردن وقبرص وجزر القمر ومونت كارلو. . . ولكن التنظيم يحقق انتصارات كبرى في الميدان الحربي، فكيف نفسر ذلك ونقتنع أن كل دول العالم لا تستطيع وقف تقدم هذا التنظيم ولا تجفيف تمويله؟ كيف يقول مسؤول كبير في إحدى الدول إنها مؤامرة أميركية صهيونية، فتقدم له أميركا وحلفاؤها الطائرات الحديثة والأسلحة والخبراء؟ إن السياسة العالمية متهمة في الصميم. إقرار ولكن حتى خصوم السياسة والسياسيين يقرون أن الممارسة السياسية، مهما اكتنفها من خطأ، ومهما كانت عائداتها خاصة بطبقة أو فئة أو فرد ستفضي في النهاية إلى إحراز نوع من التقدم نحو العدالة والحرية. والملاحظ أن الممارسة السياسية بالمفهوم الذي عرضناه كانت غائبة في العصور الوسطى، بسبب سيادة الأيديولوجيا الدينية. وعودة النشاط السياسي في النهضة والعصر الحديث أدى إلى تراجع الأنظمة القمعية بالتدريج، بعد تحقيق العديد من المكتسبات والحقوق الاجتماعية والفردية، على الرغم من غياب الوسائل الصارمة لتحقيق قرارات المنظمات العالمية بحق المخالفين والمسيئين. وعلى سبيل المثال كانت آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مليئة بالحكام الدكتاتوريين العسكريين حتى الربع الثالث من القرن العشرين، في حين تقتصر هذه الأنظمة اليوم على بلدان معدودة جداً في القارات الثلاث، وقد حققت أمريكا اللاتينية تقدماً في هذا المجال، وتعتبر الأرجنتين مثالاً بارزاً. وعلى الرغم من جدول فوكوياما الخاص بالدول التي انتقلت إلى نوع من الديمقراطية، فإنه لم يفسر ماذا عدا مما بدا، ولماذا حصل الانتقال في هذه الأيام، مع أن الإغريق عرفوا الديمقراطية قبل أكثر من عشرين قرناً؟ وهل هذه الديمقراطية من صنع السياسة أم من صنع ظروف أخرى؟. الموقف الأدبي يعترف الأدبي أن الأدب غير منفصل عن السياسة النظرية، أي السير نحو المثل العليا. فعلى هذا تكون السياسة في رأيه موجودة في كل نشاط بشري وهو ما يسميه «الموقف الأدبي» الذي يعني السموّ في كل شيء: في التربية والتعليم والفلسفة وعلم النفس والأدب والشعر والأخلاق وعلم الاجتماع. . . ولكن الأدبي يرى السياسة في ميدان الممارسة عبارة عن لعبة بهلوانية لتحقيق مآرب تكون خاصة ومتدنية في معظم الأحيان. أو هي تعكير الجوّ ليغدو صالحاً لتحقيق المآرب الخاصة. وتتكاثر بنود المناظرة وتنهال التهم من الطرفين على الطرفين، فكم سمعنا أن الأدب حرفة الفشل في الحياة، حيث يدور الشعراء متكسبين بشعرهم لفشلهم في الحياة العملية، فهم أضعف من أن يدخلوا السياسة، إنهم طفيليون يوزعون أنفسهم على الأطراف السياسية. وبالمقابل كم سمعنا من الأدباء أن الأدب عالم خاص لا يكتب الخلود إلا له. أسماء وأسماء من السياسيين تسقط في ثقب النسيان الأسود غبّ رحيلها عن العالم، بينما يخلد الشاعر، ويخلد معه شعره، بل تخلد معه حتى الشتائم التي كالها لخصومه. وإذا ذكر اسم سياسي بعد رحيله فإنه يذكر لأن الشعر أتى على اسمه فقط وليس لأي سبب آخر. وآل مديتشي كانوا سفاكين، لكنهم يذكرون لأنهم أولوا عناية كبرى للأدب والأدباء. مقارنة من المناظرة الكبرى بين السياسي والأدبي يمكن استخلاص ما يلي: أولاً: السياسة ذات بدائل، ولا بدائل في الأدب. ففي أي ميدان تمتلك السياسة بدائل كثيرة، كسياسة الوفرة أو الندرة أو العرض والطلب، أو التجارة الحرة أو التجارة الاحتكارية، أو سياسة الابتزاز. . . في حين لا يملك الأدب أي بدائل، فهناك الملحمة والتراجيديا والكوميديا والشعر الغنائي. . . الخ، وحتى الآن لم يجد العالم بديلاً لأي فن من هذه الفنون الأدبية. . . ثانياً: تلجأ السياسة إلى الكذب لتحقيق أهدافها، فتتضخم مراكز الإعلام بصورة لا مثيل لها مما يدل أن السياسة استبدلت اليد الباطشة باليد الإعلامية الناعمة التي تلبي طلبتها بتكلفة أرخص. أما الكذب في الأدب فهو خيال وذوق وترميز للواقع وتجميل للصورة حتى تكون مستساغة. ومن هنا سميت السياسة فن الكذب، وسمي الأدب فن الخيال. ثالثاً: لا أحد يؤمن بكلام السياسة حتى يصبح واقعاً مجسداً، بينما لا أحد يطالب الأدب بتنفيذ ما يقول، ولا يطلب منه سوى مناجزة السياسي والتصدي له. وفي روسيا السوفيتية اشتهر أدب الساميزدات والتاميزدات لأنه يناجز السلطة السياسية القائمة. رابعاً: السياسة تتقلب بلا قوانين تضبطها، وليس الأدب كذلك، فحتى لو انتقل الشاعر من مديح شخصية إلى مديح شخصية مناقضة تماماً، فإنه ملزم بالصفات والتقاليد التي يفرضها فن المديح، فمهما كان الشخص بخيلاً فإن الشعر يخلو من أي كلمة تدل على البخل، التزاماً بقوانين هذا الفن. ولكل فن شعري خصوصيته. خامساً- لا يوجد للسياسي عالم معين له قوانينه، بينما الأدبي يعمل في عالم محدد، وحتى الخيال عنده له عالمه المحدد، فهو لا يستطيع أن يتخطى العالم العلوي، ولا أن يخرق العالم السفلي، فهو يعمل ضمن قوانين صارمة جداً. فلا توجد تلك الظروف التي يتذرع بها السياسي عندما يغيّر مبادئ سياسته. دائماً يقول «إن الظروف الجديدة تقتضي. . . » ثم يعمل كما تقتضي مصلحته. سادساً: السياسة فن المراوغة في عرف الأدبي، والأدب طاحونة هواء في عرف السياسي، ولكن لا مانع من أن يستغل الأدبي السياسي لمنافعه، ولا مانع من أن يستغل السياسي الأدبي لمآربه. سابعاً: في عالم السياسة يمكن أن ينقلب الحق إلى باطل والعكس صحيح، أما في الأدب فلم يسمع عن أديب دافع عن قضية باطلة، ولا عدّل أو بدّل أو غيّر قيمة من القيم الإيجابية. ويتجلى ذلك في أدب المرافعة، فالسياسة لا تتوانى عن تغيير كل شيء في أدب المرافعة لتحصيل مصلحة ما، أما الأدب فلم يعرف عنه أنه فعل في المرافعة ما يناوئ حقاً أو خيراً أو جمالاً. ثامناً: الأدب عمل تراكمي وتقليد عريق، فقصيدة الغزل- مثلاً- عمل تراكمي منذ آلاف السنين، لم تتغيّر في أصولها وتقاليدها، ولا يؤدي التراكم إلى أي تغيير أو تبديل. أما السياسة فكل عهد له وجهة والتماس وليس من الضروري أن يرتبط بما قبله، إلا في الدول البالغة التطور. تاسعاً: لا يوجد عمل تخريبي للأدب، بينما بمقدور السياسة أن تدمر مدناً وتقتل شعباً وتنهب موارد. . . البنود كثيرة والمناظرة طويلة بين هذين الخصمين المتصارعين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©