الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«أزمة الثقافة المصرية».. ذاكرة الكتابة

«أزمة الثقافة المصرية».. ذاكرة الكتابة
10 سبتمبر 2014 21:55
عن سلسلة «ذاكرة الكتابة» التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة أُعيدت طباعة كتاب «أزمة الثقافة المصرية» للكاتب الراحل رجاء النقاش، أو كما اعتبرتها الهيئة الطبعة الثانية بعد الطبعة الأولى التي صدرت في حياة الكاتب عن دار الآداب ببيروت العام 1958، وقدم لها آنذاك الدكتور سهيل إدريس صاحب الدار. جاءت الطبعة الجديدة في قطع مختلف، وقدم لها فكري النقاش شقيق الكاتب، والذي أكد على أهمية هذا الكتاب على وجه الخصوص ضمن ما يزيد عن الأربعين كتابا التي كتبها رجاء النقاش، باعتباره كتابه الأول، الذي صدر ولم يكن النقاش قد أتم عامه الرابع والعشرين، موضحاً أن مقالات الكتاب كتبت بين العامين 1955 و1957، وما يثير الدهشة أن معظم القضايا التي أشار إليها النقاش في مقالاته مازالت إلى حد بعيد موضوع جدل ثقافي واجتماعي حتى يومنا هذا، مدركا آنذاك خطورة أن تسقط الأدوات الإعلامية الجديدة وقتها كالصحافة والإذاعة والسينما في السطحية والبعد عن حقائق المشاكل التي يعاني منها المجتمع. في تقديمه للطبعة الأولى أشار سهيل إدريس إلى أن الأوضاع العامة في مصر شبيهة بالأوضاع العامة في سائر البلاد العربية بالنظر إلى حالة الشعب العربي في كل مكان، باشتراكه في عامل «الوعي»، والذي يعّول عليه في إزالة الفروق عاجلا أم آجلا، وتوحيد الاتجاهات الفكرية والمصادر الثقافية، معتبرا بذلك أن الكتاب «أزمة الثقافة المصرية» يتحدث في الوقت نفسه في أزمة الثقافة العربية عموما، مخالفاً بذلك رأي المؤلف الذي عبر عنه في التمهيد بصب جل اهتمامه على الأوضاع والمؤسسات في مصر وحدها. يوضح النقاش أن كتابه هذا هو محاولة لتأريخ الحركة الثقافية المصرية فيما سماه «سنوات الأزمة» الثلاث من 1954 إلى 1957، بعد انهيار الشكل القديم للمجتمع سنة 1952 وعملية التجدد التي تتطلب الاحتشاد والحذر، كما أنه كتاب لا يجمع الحقائق وإنما يفسرها وينتقدها ثم يشير برأي، مقدما إياه إلى الذين يؤمنون بالقومية العربية كحقيقة علمية لا كانفعال غامض، وإلى الذين يؤمنون بضرورة إيجاد إنسان عربي جديد، من خلال النقد الذاتي المستمر وتفضيل مصلحة الجماعة على المصالح الفردية العاجلة. تأثير أميركي يضم الكتاب عشرة مقالات تتابع الأحداث من خلال فكرة رئيسة خضع لها الكاتب وعممها على ما يريد أن يبرزه من تفسير وتشخيص للحالة والدلالة على رأيه وجاءت جميعها مرتبطة بالوضع السياسي وتأثيره على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، وسببها الدائم لديه هو خضوع البلد فترة طويلة لقوى الاستعمار وقوى الإقطاع ومصالحهما المرتبطة بالملك والسراي، وخصّ النقاش تأثير الثقافة الأميركية على مصر في مقالين بدأ بهما كتابه تحت عنوان واحد مرقم «مصر والثقافة الأميركية» واضعا مؤسسة فرانكلين الأميركية في صدارة ظواهر النشاط الثقافي في مصر وانطلاق دورها من مركز القاهرة منذ العام 1955، موضحا أن ما مهد لهذا هو الدور الذي قام به عدد كبير من دور النشر التجارية والصحافية المعروفة كمؤسسات تخدم ما سماه «ثقافات مسمومة» لا تعالج مشاكل المجتمع، حيث كانت تهدف إلى الكسب المادي والإثراء على حساب الطبقات المكافحة من أبناء الشعب، إضافة إلى إغراء ذوي المراكز الثقافية الكبرى في مصر للقيام بذلك النشاط المطلوب، ومنهم: طه حسين وعلي ماهر والعقاد وهيكل والسنهوري وأحمد زكي، من خلال جودة لافتة للنظر في شكل الإخراج المطبعي، وجذب القارئ عبر رخص ثمن الكتاب. وأشار النقاش إلى أن أساتذة الجامعات انشغلوا عن دورهم الخطير في الثقافة ليقفوا إلى جانب ثقافات شبيهة بالدخان الذي يثيره الأعداء في وجه المكافحين ليضلوهم عن مصدر الألم، مؤكدا أن العيوب التي تتصل بمضمون ما تخرجه مؤسسة فرانكلين هي مقصودة هادفة، حيث لا تمثل كتبها المترجمة حقيقة الثقافة الأميركية الحية، فهي كتب حيادية لا لون لها، كما تنزع بعض المؤلفات إلى تشويه بعض القيم النفسية للأدب العربي، مع خلق أرض شعورية وذهنية خصبة من الميل والألفة للاتجاهات الأميركية في مجالات السياسة والاجتماع والفكر. ويعتقد النقاش أن تلك الأرض إنما هي عملية تمهيد دائبة لأهداف أخرى، وأن المؤسسة لم تكن وحدها لتستطيع أن تقوم بدورها الخطير إلا من خلال اكتشاف البعض أن الفكر والثقافة من الممكن أن يتحولا إلى «سلع»، وفي ظل تلك الظروف بدأ الوعي عن طريق الثقافة ينتشر بين طبقات الشعب المختلفة، وبهذه الوسيلة خرجت «أخبار اليوم» إلى الحياة، والتي تربى أصحابها في أحضان طبقات استمتعت بكل الخير المصري، ثم خرجوا إلى الحياة يبحثون عن مجال يطبقون فيه الفلسفة التي تأصلت في نفوسهم من الكسب الشخصي دون أي التزام إزاء الآخرين. وتناول النقاش «قضية السودان والفكر السياسي» الذي كتبه في مناسبة الاستفتاء الذي أجري في السودان في أواخر ديسمبر العام 1955، وانتهى بإعلان استقلال السودان في يناير 1956، موضحا أن قضية السودان تشغل شعب وادي النيل على وجه الخصوص، والتي تبرز اليوم على مسرح الفكر والحياة في مرحلة جديدة من مراحل تاريخها، وأن المفكرين قد تخلوا عن معالجتها في الماضي بصورة مخلصة، حيث كان كفاح رجال السياسة في مصر والسودان مرتبطاً بقوة بناء على بدهية ارتباط البلدين في كفاحهما ضد عدو مشترك ومن أجل مصالح ووظيفة إنسانية مشتركة، إلا أن معالجة تلك القضية لم تقم على أسس علمية دقيقة، عارضا لكتاب «عشرة أيام في السودان» لمؤلفه الدكتور محمد حسين هيكل كمثال واضح على طبيعة الوضع الفكري للمواقف السياسية في مصر، خاصة لترؤسه في تلك الفترة لأحد الأحزاب التي اشتركت في حكم البلاد، وهو حزب الأرستقراط والأسر الكبيرة، وكذلك رئاسته لمجلس الشيوخ. وتطرق النقاش لواحدة من أخطر قضايا الحركة الثقافية في مصر وهي ظاهرة الانفصال الثقافي بين الريف والمدن الصغرى من جانب وبين القاهرة كعاصمة للنشاط الفكري العام من جانب آخر، مرجعا السبب إلى مراكز الحركة الثقافية التي تربط بين العاصمة وبين الريف والمدن الصغرى والتي تتمثل في الإذاعة والصحافة ودور النشر والجامعة، إضافة إلى مصدر الانفصال التقليدي وهو انتشار الأمية، ثم يعود إلى ما تصدره مؤسسة فرانكلين من كتب دورية باعتبارها «المخدرات الفكرية» كما يسميها، والمطلوب تحديدها ومنع المتاجرة بها لما لها من أضرار وأخطار تهدم بعنف جذور الحياة والحضارة في المجتمع المصري. الأزهر والثقافة الجديدة وعن علاقة الأزهر والثقافة الجديدة تحدث النقاش في مقاله الذي كتبه قبل قطع المفاوضات بين الحكومة والبنك الدولي بشأن مشروع السد العالي، ويتساءل عن مدى التلاؤم بين وسائل الثقافة العامة وبين اتجاه الشعب نحو التصنيع وتغيير وسائل الزراعة، ويبرز من خلال ذلك مشكلة الصراع بين الثقافة الدينية ممثلة في الأزهر بمعاهده وكلياته والثقافة المدنية ممثلة في الجامعة ومدارس التعليم المدني الأخرى، ووظيفة الدين بين الفلاح المنتج والفلاح المالك المستغل، بين التغطية والتمويه وبين الدعاية لوجوده، وأن ذلك الشعور الديني «الأمي» كان من الدعامات التي اعتمد عليها النظام الملكي في كل انتكاس وطني واجتماعي خطير. ويأتي النقاش بسياق مختلف عما هو معروف عن جماعة الإخوان المسلمين حيث قال: إن هذه الجماعة كانت تعتمد على طبقة خاصة من شباب المثقفين، ولم تكن تعتمد على قوى الفلاحين الشعبية. . لقد كان لهذه الجماعة وضعها الخاص ضمن التنظيمات الحزبية، ولم تكن ذات علاقة أساسية بالشعور الديني العام وإن كانت قد اعتمدت عليه واستفادت منه. ويعيب على التعليم الأزهري دراساته الدينية التي تنعزل بالكامل عن الحياة، وأن علماء الدين قد انصرفوا إلى الدين بما هو سلوك فردي مرتبط بالعبادات وحسب، بينما حقيقة الحضارة الإسلامية في عهدها الأول هي أنها تعتمد على دين يدعو إلى نظام اجتماعي خاص وعدالة اجتماعية شاملة، موضحا أن وجود التعليم الأزهري هو صورة منحرفة من صور استغلاله الدين والاعتماد عليه كأداة لتعطيل التطور، ولم يعد هناك مبرر لبقاء الأزهر سوى دراسة التراث الإسلامي دراسة مستنيرة، مشيرا إلى أن الدين لم يكن يوما ضد حياة الإنسان ومستقبله، وأن رؤوس الحركات الدينية في التاريخ كانوا يمثلون أعظم الانقلابات الإنسانية في الأدوار الحضارية التي انتسبوا إليها. وتظهر موهبة النقاش النقدية وتحليلاته الاجتماعية حين تحدث عن ديوان «كلمة سلام» للشاعر الرسام صلاح جاهين، حيث جاء بدراسة عن الشعر الشعبي إجمالا كمدخل لقراءة الديوان الذي وصفه بالظاهرة الفريدة في واقعنا الفني لارتباطه بالوعي وعنصر التمرس بالتراث الشعبي والتجارب الحياتية. ومن عناوين مقالات الكتاب: «محاولة شكلية، بعد المعركة، في أزمة النقد الأدبي، أخبار اليوم. . أيضا» وفيه طالب بتأميم الدار وتحويلها إلى مؤسسة وطنية يشرف عليها كتاب ومفكرون مخلصون لقضية الوطن، وهو الأمر الذي تحقق بعد ذلك بسنوات قليلة. . ولكن الجدير بالإشارة هو شفافيته في العرض حين قال: «نحن متخلفون حقا، ولكن هذا التخلف ليس عنصرا جوهريا لا يمكن تغييره من طبيعتنا، ولكنها ظروف فرضت علينا حينا من الزمن واستسلمنا لها مرغمين في كثير من الأحيان». كذلك تأكيده على أن القومية العربية ظاهرة يمكن أن تتلاشى لو استسلمنا للجهود الخطرة التي تبذل في سبيل القضاء عليها وعلى رأس هذه الجهود تلك النزعة اللاإنسانية التي تتمثل في «إسرائيل» وأنها الخطر المباشر الذي يعمل للقضاء على شخصيتنا العربية، ويطالبنا بمزيد من الاتحاد والتماسك وإبراز خصائصنا المشتركة وتنميتها بحيث نستعصي على الفناء، بل وحتى تستطيع أن تكون العامل الرئيس في توجيه مستقبل إسرائيل نفسها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©