الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«مكاتيب عراقية» سوداء و.. ساخرة

«مكاتيب عراقية» سوداء و.. ساخرة
10 سبتمبر 2014 21:55
منذ سنوات أتابع كتابات علي السوداني، قصصاً ومقالات صحافية، وهي كتابات لافتة للاهتمام على غير صعيد، سواء لجهة أفكارها وموضوعاتها وعوالمها الغريبة، أو من جهة لغتها «الحوشيّة» على ما يقول أسلافُنا من أعلام الاشتغال في عالم اللغة، وربما أمكن استعمال عبارة «اللغة الوحشية» بحسب بعض نقّاد الحداثة، أو على مستوى أسلوب الكتابة المتميز بالسلاسة والتدفّق في السرد والوصف والمحاورة، أو في التأمل والبحث واستحضار شخصياته من «الشارع» أو من «قاع» المجتمع الآسن. وهنا وقفة مع أحدث إصدارات صاحبنا السوداني، ابن العراق، المقيم في الأردن، في عمّان ومقاهيها وحاناتها، منذ سنوات. يجمع المجلّد الثالث من كتاب علي السوداني «مكاتيب عراقية. . من سِفْر الضحك والوجع»، مجموعة كبيرة من النصوص القصيرة، القصصية والنثرية، إضافة إلى كتابات لكتّاب ونقّاد كتبوا عن تجربة السوداني بعامّة. ويأتي هذا الكتاب الصادر عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع (عمّان، في 322 صفحة من القطع الوسط)، بعد مجلّدين بالعنوان نفسه، كان الأول صدر عن دار أزمنة (عمّان 2007)، والثاني عن دار فضاءات (عمّان 2009)، وعدد من المجموعات القصصية بدءا من «المدفن المائيّ» (بغداد 1993)، ثم «الرجل النازل» (أزمنة 1996)، و«بوككو وموككو» (1997)، و«خمسون حانة وحانة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت 2003). يبدأ الكتاب/ المجلد الجديد بمقدمة هزْليّة، ممزوجة بروح مأسويّة، وبنكهة ساخرة تتميز بها كتابات السوداني عموما، في قصصه كما في كتاباته وزواياه الصحافيّة، التي تجمع روح الأدب الشعبيّ والطرافة المشهودة في التراث الأدبي العربيّ، مستفيدا من كتابات الجاحظ والأصمعيّ، كما من المقامات والمنامات. المقدّمة التي اتخذت صيغة «نص في طريق الإهداء» لا تختلف من حيث روحها عن روح نصوص الكتاب، فهي تتميز بشراسة اللغة التي نجدها في تجربة السوداني الكتابية، إنها، كما يصفها المؤلف «الإهداء التجريبيّ، لأيّام متناثرة من حياتي التي قفزت الآن فوق خيمة الخمسين بسنة. أيام وليال استعدتُها بصورة عشوائيّة غير محكومة بتسلسل زمانيّ أو مكانيّ». مقدّمات المؤلّف الكتابة هنا، وكما يصفها المؤلّف نفسه أيضاً «انثيالات قويّة، فيها لذائذ وسعادات وبهجات – ربما بسبب من هطيل وتراكم السنوات فوقها – وفيها كذلك أوجاع ومناحات، قد تصل حدّ الأحزان المولودة، عن موت سبع أمّهات». فهو كما يكتب هنا يؤمن «بأن الكتابة تستدعي أعلى ذروات الصحو، وأكاد أتقيّأ عندما يخبرني صاحبي الوغدُ بأن ليس بمستطاعه كتابة قصيدة إلا بعد أن يسكر. . »، ويضيف «ربما فاتتني بعض الأيام والصور الجديرة بالإشارة وبالتضمين والتلميح، هذا يحدث بسبب النسيان، أو تدافع الصور والمرائي داخل بيت الدماغ». ويختم بالتنويه «ستجدون «أناي» عالية، متضخّمة، صائحة، مشعّة، لا تنزعجوا». ثم يأتي «الإهداء، في صورة مجموعة من الإهداءات، هي نص حمل النكهة ذاتها التي تميز كتابة السوداني، حيث الإهداء الأول إلى «أول فرجة على بيت الجيران سعدية. . . »، والثاني «إلى أول دخلة سينما. . »، ثم «إلى أول رُبع صمّونة طامسة في شيشة عمبة. . »، وصولا إلى «أول قندرة (حذاء) محترمة من مصنع باتا الشهير»، و«أول حانة، حانة عشتار، في صفّ سينما بابل، في بغداد»، و«أول فيلم روسي عشقته – من أيام الاتحاد السوفيتي – كان اسم الفيلم «ديرسو أوزالا. . »، وأخيرا «إلى مقطورة العائلة. . ». وقبل البدء، وفي «استهلال مكرور. . ورقة أولى»، يستعير الكاتب من هيرمان هيسّه «سوف أضطجع على أريكة عريضة وأدخّن/ وأكون كسولا، حسب/ أكسل من أن أخلع ملابسي في الليل/ وأكسل من أن أنهض من فراشي في الصباح». ثم يستعير كلمات من «المعلّقة المذهلة» كما يسميها، من كلمات محمد حمزة، ولحن بليغ حمدي، وغناء عبد الحليم حافظ «مدّاح القمر»، ويدعونا أن ننصت لها «وقوفا»! ومنذ البدء، وفي نص «تعلّمتُ»، الذي كتبه على شكل قصيدة نثرية، يأخذنا السوداني إلى عوالمه وبعض مرجعيّات كتابته «تعلمتُ من الله: أن لا أكلّف صَحبي إلا وِسعهم/ و. . من محمد، وهو في وحشة الغار: لا تحزن يا صاحبي إن الله معنا، إننا معنا/ و. . من عيسى: أن أكلّم الناس وأنا نطفة في مهد/ و. . من موسى: أن لا أتوه ثانية/ و. . من الحسين: أن لا أنخدع بالمكاتيب/ و. . من عليّ: أن تصير رقبتي رقبةَ جمل/ و. . من عثمان: أن لا أنطر المَدد/ و. . من جيفارا: أن أرسم صورتي فوق صدور الصبايا/ و. . من أبي حيّان التوحيديّ: أن لا أحرق حرفي/ و. . من غاندي: أنّ الملح أثمن من الذهب/ و. . من أبي ذرّ: أن لا أترجّل عن سنام دابّتي/ و. . تعلّمتُ منّي: أن أكون مثليْ». بخلاء السوداني في باب «معلّقات على حوائط البخل»، مثلا، الذي يضمّ عشرة نصوص، يتناول السوداني نماذج من هذه الشريحة/ الفئة من البشر، يقول إنهم من الكتّاب والأدباء، وحين نقرأ بعض هذه النماذج، نكتشف أن بعضهم بخلاء، والبعض الآخر هم من الفضوليّين والمتطفّلين، ومنهم الانتهازيّون والوصوليّون والحمقى. لكن الكاتب يجيد التعامل مع هذه النماذج، فيقوم بتشخيصها على نحو شديد الدقّة، فيجعل منها نماذج حيّة وقابلة للمَسْرحة، لا ينقصها سوى مُخرج فذّ وممثّل بإمكانيات عالية، لنراها كما جسّدها المؤلف برؤية نافذة. فهو يسرد «حكايات بخلائه» هذه على الروائي العراقي الراحل «الراوية الأمين عبد الستار بن ناصر بن جدوع الزوبعي»، ويعده بأن يكون أمام صنف من البخل: «لم يره الجاحظ أبو عثمان في المسجديين وفي أهل خراسان، وفي قميص الرفاءة ليلى الناعطية، وقصة أحمد بن خلف، وقصص ومُلَح ونوادر الأصمعي والمدائني والحارثي والحزامي، والمقامات كلّها». كما أنه يعدنا، نحن القُرّاء، أنه سيواصل «الحكي والنسج في هذا الباب»، الذي يقول إنه «الكنز العظيم»، ولكن «إلى حين من الدهر والعافية، نظنّه معلوما منظورا». أمّا البخيل بالنسبة إليه، فيأتي عبر لغة تراثية وقرآنية: «حتى لا تصير فتنة، ويلتبس البخل بالفقر والعوز، الذي جئت عليه ورسمته ونثرته على الملأ من قبل، فهو ذلك الكائن المنفّر، الذي يكنز الذهب والفضة والحجر الكريم والدينار والزيت والرز، ما فاض منه وما نقص، وهو الذي يمنع الماعون، ويقطع الرزق كما لو كان قطع عنق، وليس في أمواله وأطيانه وأكنافه وتجارته، حقّ للسائل والمحروم، وهو لم يبسمل، ولم يعطّر فمه النائح الشاكي أبداَ، بشريف الكلام وطيّبه وجميله، فما قال يوماَ، وتوكل عليه وفعل »إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا«. ونقرأ مثلا في »باب حبة الرمان«: ». . . ولقد انتهيت، اليوم الجمعة القدسية، من خلق المشهد السابع في باب البخل وعلاماته وناسه وأساسه، وكنت فيها – جلّها – أقرب إلى منهج الرحمة منه إلى نهج الغلظة والجلد والذمّ«، كما أنه وجد كما يقول: »جمعا من القارئين والناقدين والفاهمين، قد أحبّوا بخلائي واستعذبوهم واستأنسوهم وسوّغوا واستساغوا بضاعتهم، لما بثثتُه بين توصيفاتها وتأويلاتها وشروحها وهوامشها، من أساليب، رأيناها مبتكرة، في التضحيك وفي التنكيت وفي التشويق وفي التظريف وفي التليين، وكنت في هذا الباب، أنام على خشية من تحبيب تلك الخصلة للعامّة، فتُشاع وتنقل وتقصّ، حتى إذا صارت سنّة مسنونة، قام حكماء الناس وعلماؤها ومفكروها، بشتمي وسبّي ورجمي وتسقيط وتتفيه مجلسي وجُلاسي». هذا نموذج من كتابات السوداني عن بخلائه، لكن في كتابه نماذج مختلفة، يتناول فيها تجارب وشخصيات أدبية، شعرية ونثرية، فنجده يتوقف مع الرصافي والسياب والبياتي وجمعة اللامي وطالب السوداني وجان دمّو وصالح الجيزاني، ويكتب عن جمانة حداد، وعن مقهى حسن عجمي في بغداد، وعن حانات عمان ومقاهيها، ومن عناوينه «إني أقطر حرفا»، و«إني أراني أحصد حزنا»، مثلما يكتب عن الغناء والسينما وسواها من قضايا الثقافة والأدب. فالكتاب إذا، يمكن اعتباره كتابا ذا مرجعية «موسوعية»، من جهة الموضوعات والقضايا التي يعالجها، ومن جهة أساليب الكتابة التي ينتهجها، فهو يكتب عن «راجي كابور الهندي»، ولكن لنكتشف أن يكتب عن شاب عراقي «راجي، الهندي الطيب، كان غادر العراق، بعد إتمام واقعة مجاري الثورة. انقطعت أخباره عني تماماً، لكنَّ قادمين من بغداد إلى عمَان، رفضوا الكشف عن أسمائهم، حلفوا بأغلظ الأيمان، أن الولد راجي، شوهد وهو يقاتل في الشطر الباكستاني من كشمير، بغية تطهيرها من نمور ونمرات التأميل. راجي لم يحلم أبدا بموسوعة غينيس. حدوسي تنبئُني بأنني سأعثر على صديقي راجي الحميم، الأسبوع الجاي. باي باي». وأختم بما كتبه بعض نقّاد وكتّاب عن عليّ السوداني وتجربته، وبعضه طريف طرافة كتابات السوداني نفسه، وخصوصا ما جاء بعنوان «اللمعة البغدادية في شرح الأرجوزة السودانية»، بقلم محمد غازي الأخرس، الذي كتب: «وُجِدت هذه الأرجوزة في بغداد العامرة، ولا يعلم عن ناظمها شيء سوى أنه من شعراء القرن الرابع عشر للهجرة، وأنه عمل في بعض الجرائد والفضائيات». ويكتب خالد أبو الخير: «لا يعرف علي السوداني إلا من يكابده!. في رقّة الناي إلا أنه أزيد خفة ونأيا عن قطعان لا أمل في هدايتها. بسيط، مثخن بالحزن والطفر والشجن وما قرأه من أدب، نسيه لكثرة ما لاكه، فصار أسيره وأسير الطرقات التي تتناسل من طرقات. . »، ويضيف: «يبقّ نفسه على الطاولة في مرعى «الأوبرج» أو «كوكب الشرق»، فتخال أن الظلمة حلت أو أن ثورا مجنحا يوشك على الهبوط ببراشوت. . «لطالما حذرتك يا صديقي من الباتريوت». تقول سيدوري الآتية من مقبل الجرح، قبل أن تعيد: سحقا. . فالثيران المجنحة لا تقبل النصيحة».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©