السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشيطان الصغير

الشيطان الصغير
25 أغسطس 2011 23:18
وقف قضاة المحكمة المتخصصة في نظر القضايا المتهم فيها الصغار الذين تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً حائرين أمام هذه القضية ولم يجدوا مخرجاً لتخفيف العقوبة عن المتهم، رغم أن المحكمة لا تعامل المتهمين أمامها كمجرمين مثل الكبار وإنما تتعامل معهم بروح القانون وتفتش عن مواده المخففة لتطبيقها حفاظاً على مستقبل الصغار الذين لم يتحملوا المسؤوليات بعد ولم يصلوا إلى مرحلة الرشد والتمييز، ووجد القضاة أنفسهم مدفوعين إلى ألا يأخذوا المتهم بأي نوع من الرأفة أو التخفيف في الحكم، فالأوراق تعج بمعلومات غير مسبوقة تثير الفزع والرعب ولا بد أن يتوقف أمامها أي شخص حائراً متعجباً ومشدوهاً، وقد لا يصدق ما يسمع وما يرى لأنه إلى الخيال أقرب. الطفل لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، في الصف الرابع من المرحلة الابتدائية، ينجح بالكاد كل سنة، ولو تم التدقيق في الدرجات التي يحصل عليها ربما لا يتخطى أي سنة دراسية، ولكن لأن الجميع يتعاملون معه أيضاً من باب الطفولة والحرص على مستقبله من الضياع، كانوا يرفعونه في المواد التي لا يحصل فيها على درجات النجاح، ولأنه ينجح وينتقل من سنة إلى التي تليها اعتقد أنه ينجح بمجهوده، وإن كان في قرارة نفسه لا يهمه النجاح ولا التعليم ويذهب إلى المدرسة من قبيل الترفيه والنزهة، وفي الغالب هو كثير الغياب وإذا حضر لا يهتم بالدروس. اشتكى المعلمون منه كثيراً وحضر أبوه إلى المدرسة مرات لا تعد ولا تحصى، وأبلغوه بتجاوزاته وتصرفاته الخارجة عن الأدب والأخلاق، لا يكف عن التشاجر مع زملائه الذي يؤثرون السلامة ولا يواجهونه بطريقته نفسها، لكن كل النتائج جاءت مخيبة للآمال ولم تنجح في تقويم الصغير ولا حتى جعله يبتعد عن أذى كل من حوله. والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فهو يتطاول على الكبار ولا يعرف إلا الكلمات البذيئة والمخجلة، أسرته لم تجد وسيلة لإصلاحه، يلقي بالنصائح والإرشادات خلف ظهره، ولا تؤثر فيه قيد أنملة ولا تحرك عنده ساكناً، والضرب المبرح لا يزيده إلا عناداً، والحنو عليه وتوجيهه بلا فائدة، أبوه وأمه ضاقا به ذرعاً وإخوته كرهوا وجوده بينهم، لأنهم لا يسلمون من أذاه ويحبون غيابه، لكن كل هؤلاء جميعاً بين المطرقة والسندان غير قادرين على طرده من البيت وغير قادرين على جعله طفلاً مستقيماً، يعيشون ويتعاملون معه مضطرين، لكن الآخرين ليسوا مضطرين لتحمل رذائله وسخافاته وتجاوزاته المستمرة. لم يعد أحد يرغب حتى في مجرد رؤية «عادل» التي تثير الغثيان، فالطفل خارج كل مألوف ومعتاد، لا فرق عنده بين قريب وبعيد ولا أخ ولا عدو ولا صديق كلهم سواء ويبدو أنه يكره حتى نفسه ولا يبالي ولا يعرف الخوف ولم تجد معه كل سبل ووسائل التهذيب، وتخطت تصرفاته الكلام المجرد والشتائم والسباب وسوء الأخلاق إلى أن تعدى على شقيقه الأصغر بقطعة من الخشب على رأسه أفقدته الوعي، وهرولوا به إلى المستشفى بين الحياة والموت، قال الأطباء إنه أصيب بارتجاج في المخ، وظل في العناية المركزة والإفاقة ساعات طويلة، ولم تمر الواقعة مر الكرام وتحرر محضر بها وألقي القبض على «عادل» وبعد شفاء أخيه تم إخلاء سبيله وحفظ التحقيق ورأت النيابة عدم إحالة الصغير إلى محكمة جنايات الأحداث حرصاً على تماسك الأسرة ومستقبل الطفل المتهم، ولكنه لم يرتدع ولم يع الدرس وما كان ذلك إلا حدثاً عابراً، استطاع أن يحوله إلى عمل بطولي أو وسيلة لتهديد من حوله ويجعل منه أيضاً وسيلة للضغط والابتزاز، ومن حوله يتجنبونه لأنهم رأوا فيه استعداداً للتمادي ولا يتورع عن أن يفعل أي شيء، وبعض زملائه وأقرانه في الشارع يتوددون إليه لنيل رضاه أو لتجنب أذاه. هذه المعاملة لم تكن كافية لوقف مشاكل «عادل»، فلا يكاد يمر يوم أو حتى ساعة من غير أن يختلق مشكلة أو يفتعل أزمة أو يثير زوبعة إما في البيت أو الشارع أو المدرسة، وبسبب ذلك أصبح من المشاهير في محيطه ومعروفاً للجميع، وفوق هذا وذاك وجد له معجبين يثنون عليه ويؤيدون أفعاله ويدفعونه إلى الهاوية وإلى مزيد من الغي والضياع بقصد أو بغير قصد وهو يستمرئ ذلك ويشعر بلذة واستمتاع. أحوال الصغير تتطور بسرعة البرق، ومن سيئ إلى أسوأ، أصبح مثل الكلب المسعور أو النمر الشرس يعض كل من يقابله بسبب أو بلا سبب ولا يعدم حيلة في اختلاق الأسباب، وضحيته هذه المرة زميله في الفصل الدراسي، ولمجرد مزاح معه تطور إلى مشاجرة أخرج شفرة موس من جيبه - ولا أحد يعرف لماذا يحتفظ بها - وشج بها وجه زميله، فسالت منه الدماء غزيرة أغرقت وجهه وملابسه وتناثرت على الأرض، والصغير يصرخ بشكل هستيري من رؤية مشهد الدماء، ليس وحده بل كل التلاميذ أصابهم الرعب والفزع، ومنهم من لم يتحمل ذلك وسقط مغشياً عليه، والآخرون سابقوا الريح هرباً من الفصل، وتجمع المدير والمعلمون والتلاميذ، حدث هرج ومرج، والفوضى سيدة الموقف وحضرت سيارة الإسعاف ونقلت المصاب إلى المستشفى وظل به عدة أيام ليخرج بعدها مشوهاً إلى الأبد، فلن يزول أثر الإصابة مع الأيام لأن الجرح كان طولياً غائراً. شهد التلاميذ في محضر الشرطة بما رأت أعينهم، وهم أيضاً ضحايا في الواقعة وليس المصاب وحده، وكان من الطبيعي أن يلقى القبض على «عادل» ويحال إلى النيابة بتهمة الإصابة العمد، واستخدام آلة حادة، وهذه من الجرائم التي تقلق رجال الشرطة والنيابة وتسمى عندهم وحسب التعريف القانوني «جرح نافذ» وللمرة الثانية وللأسباب السابقة نفسها وهي الحرص على مستقبل الطفل تم إطلاق سراحه وحفظ القضية. كل ذلك ولم تصل المحكمة إلى القضية الأساسية التي تنظرها لمحاكمة المتهم الصغير، وإذا بها تفوق كل أفعاله بشاعة ولا يكاد العقل يصدق أنه فعل وارتكب كل هذه الجرائم وهو في هذه السن، كانت الجريمة هذه المرة في الشارع الذي يسكنه مع أسرته، توجه كعادته ليلعب «الأتاري» و«البلاي ستيشن» في محل الكمبيوتر، وأثناء اللعب وقع خلاف بينه و«عاصم»، وهو طفل في عمره نفسه، وعلى شاكلته فقد كانا يلعبان القمار والرهان على من يكسب، أمسك كل منهما بتلابيب الآخر، وأخذت «عادل» العزة بالإثم ووجدها كبيرة أن يجرؤ على الإمساك به فدفعه بقوة أسقطه على الأرض، وجال بصره فوقعت عيناه على زجاجة المياه الغازية التي انتهى من شربها قبل قليل، وعلى طريقه المجرمين العتاة ضربها في الحائط لتتحول إلى سكين لها عدة شعب ويغرسها في رقبة غريمة فيتدفق الدم منه بقوة وينزف بشدة ويسقط على الأرض، فقد كانت الضربة كافية لقتله ويفارق الحياة في الحال، ويتدخل أخوه الذي يكبره بعامين وقد جن جنونه بعدما رأى شقيقه جثة هامدة، وحاول من قبل أن يدافع عنه لكن المجرم لم يتح له الفرصة، وكان نصيبه هو الآخر ضربة مماثلة، لكن في يده إلا أنها أصابت الوريد فتدفق الدم أيضاً بغزارة وكادت تودي بحياته لولا أن تم إسعافه وما زال في عمره بقية. وأُلقي القبض على «عادل» الذي لم يراوغ ولم يناور ولم ينكر الاتهام واعترف تفصيلياً بجريمته، والغريب أنه خلال كل هذه الأحداث كان ثابتاً كأنه لم يفعل شيئاً وأن الأمر لا يعنيه، أو مجرد مناوشة ستمر مثل سابقاتها، حارت فيه العقول فلا أحد يملك تفسيراً لهذه الظاهرة الشيطانية صغيرة السن كبيرة الجرم، وعلى خلاف ما سبق أمرت النيابة بحبسه وإحالته إلى محكمة جنايات الأحداث لصغر سنه ووجهت إليه تهمتي القتل والإصابة العمد، وأرفقت في ملف القضية كل المعلومات الجنائية والسجل الإجرامي الحافل له. بحثت المحكمة في الأوراق وفحصتها ومحصت فيهاظ لتجد للصغير مخرجاً تخفف به العقوبة عنه فلم تجد، والعقوبة في هذه التهمة هي الإعدام بالنسبة للكبار، ولم يعد أمامها خيار آخر غير إنزال العقوبة القصوى عليه وهي السجن لمدة خمسة عشر عاماً، أو يكون نزيلا للأحداث. وأكدت في حيثيات حكمها، أنها رأت من خلال ملف القضية أنه يستحق هذه العقوبة، لأنه ليس فقط خطراً على المجتمع وعلى من حوله. وإنما أيضاً خطراً على نفسه، ولا يكفي أن تتنازل أسرة الطفلين القتيل والمصاب عن حقهما ولا يكفي تصالحها معه لتخفيف العقوبة لأن مثله يجب أن يؤخذ بالشدة ليكون السجن له إصلاحاً وتهذيباً بعدما فشلت كل الوسائل في تقويمه.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©