الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجــدار العـازل

الجــدار العـازل
11 سبتمبر 2014 21:40
كانت وفاة أبي حداً فاصلاً في حياة الجميع التي انقلبت رأساً على عقب، فقد كنا أسرة مستقرة مثل كل خلق الله، مكونة من زوج وزوجة وأربع بنات، أبي يعمل في التجارة، محبوب من كل الذين يتعاملون معه، فهو يُنظر المعسر ويستجيب لكل مطلب، العاملون عنده يحافظون على أمواله ويراعونها؛ لأنه يعتبرهم جميعاً أهله وأسرته الثانية، يشاركهم كل المناسبات في الأفراح والأتراح، يتكاتفون ويتكافلون وانتشر ذلك بينهم وكان له تأثيره الإيجابي عليهم في عملهم فكانوا مخلصين مجتهدين، أبي يتناول معهم الغداء كل يوم يأكل مما يأكلون منه، أما نحن فنعيش بحمد الله في رغد من العيش؛ لأن تجارة أبي رائجة وعائدها ممتاز، ونظراً لحسن تعاملاته يأتي المتعاملون إليه من الأماكن البعيدة والقريبة. قدرات فطرية كان أبي نصف متعلم أي لم يحصل على شهادة تعليمية لكنه يجيد القراءة والكتابة والحساب بإتقان شديد، بل لديه قدرات لا يستطيع الحاصلون على بكالوريوس المحاسبة أن يسايرونه فيها، فقد كان يدهشني كثيراً عندما يملي على أحد بعض الأرقام، وبينما يقوم باستخراج النتائج على الحاسوب يكون أبي أسرع منه بحسابها وإعطاء الناتج قبله معتمداً على مهارته الخاصة، ومن ناحية أقاربنا فهو بار بالجميع ويصل أرحامه، ويتزاور معهم بمناسبة ودون مناسبة، ولذا كانت علاقاتنا العائلية جيدة جداً، وبما أن مجتمعنا يهتم بالأولاد ويهمل البنات فقد كان ذلك معدوماً عندنا وكان أبي يخالف هذه المفاهيم كلها ويتعامل معنا بثقة ولا يجعلنا نشعر بأننا نحتاج إلى ولد شقيق ليقضي لنا بعض المصالح، كنا أسرة سعيدة بمعنى الكلمة وهذا الأب الرائع لا يقصر تجاهنا، ولم تكن تجارته تلهيه عنا ولا تشغله عن أحوالنا، إنما كان يوظف هذا كله من أجلنا ومن اجل سعادتنا. بداية، كان تعليمنا في أفضل المدارس هو الاهتمام الأول بنا فالتحقنا بمدارس خاصة بمصروفات عالية، ويرى أبونا أن تعليمنا هو سلاحنا في مواجهة الحياة وظروفها كلها، حتى عندما وجه إليه البعض اللوم على المبالغ الكبيرة التي يتم إنفاقها على تعليمنا كانت وجهة نظره أن الاستثمار في الإنسان هو أفضل استثمار على الإطلاق وأن تتعلم الفتاة وتحصل على شهادة متميزة افضل بكثير من أن يترك لها مبالغ ضخمة من المال حتى لو كانت الملايين، فكان يرى أن الإنسان المتعلم يستطيع أن يجمع الملايين ولكن الجاهل يبددها فيما لا يفيد، ليس هذا فقط بل إن شقيقتي الكبرى حصلت على بكالوريوس الصيدلة وتمت خطبتها وهي في منتصف المشوار الدراسي وتزوجت قبل أن تحصل على المؤهل بسنة، لكن العجيب أن أبي زوجها لشاب ليس في مستوانا فوالده عامل أجير في شركة أبي التجارية، ومع ذلك وافق على تلك الزيجة باعتبار أنه لا فروق بين البشر إلا بالتقوى، والمهم عنده أن يحافظ الشاب عليها ويحترمها، وقد واجهت أسرتنا كلها حينها انتقادات كبيرة ومعارضة شرسة في محاولة لإفشال الخطبة، لكن صلابة أبي حالت دون ذلك خاصة أن أختي لا تمانع وتقبل بالشاب الذي تقدم لها. وأختي الثانية أيضاً تمت خطبتها لزميل لها، كان من أسرة طيبة ومحترمة ومعظم أفرادها في مستويات عالية من التعليم والوظائف والمراكز الاجتماعية، وقد كانت المقارنة بين هذه الأسرة وأسرة زوج شقيقتي الكبرى هي سيدة الموقف والسائدة في كل الحوارات، واستنكارات وخلافات وشد وجذب لا نشارك فيها، وإنما تفرض علينا ونحاول أن نمنعها ولا نجعل له مكانا بيننا وحتى لا تؤثر على علاقاتنا، ونحن لا نهتم بهذه الفروق، ولكن ما يهمنا أو بالأحرى ما كان يسيطر على فكر أبي هو سعادة كل واحدة مع زوجها وفي حياتها، وكان يضرب مثالاً بعلاقته مع أمي ويردد دائماً وفي كل وقت كيف أنه تزوجها وهما فقيران ووقفت بجانبه، وساندته وعمل ليل نهار إلى أن صار ووصل إلى ما نحن عليه والنعم التي ننعم بها الآن، وقد جعلتنا حكاياته هذه نفخر بهذين الأبوين. فقيد عزيز فجأة رحل أبي عن دنيانا بعد أيام قليلة من المرض لم تتعد أسبوعاً، كانت الصدمة شديدة علينا جميعاً وكان حزننا عليه أشد، لسنا وحدنا ولكن كل من كان يعرفه من قبل وتعامل معه، كثيرون واسونا ووقفوا إلى جانبنا وخففوا آلامنا وعرضوا خدماتهم وكل جهودهم من أجل الراحل وأفضاله عليهم، ولكن -بحمد الله- لم نكن في حاجة إلى أي مساعدة من أي نوع، خاصة أن أبي قد ترك لنا بجانب هذا الرصيد من الحب رصيداً كبيراً من المال بجانب أنه عودنا الاعتماد عل أنفسنا، لكنه ترك فراغاً لا يمكن لأحد كائناً من كان أن يملأه، انتظره فلا يأتي، مقعده شاغر على مائدة الطعام، افتقدت صوته عندما كان يستيقظ من النوم ويتجه للوضوء ويصلي الفجر في البيت أو يرتدي جلبابه الأبيض ويتجه إلى المسجد، فقدت سعادتي وأنا في انتظاره كل يوم حينما يعود من عمله في الثامنة مساء، أزعم أنني أكثر من تأثر بفراقه. الموت حق على كل كائن حي، ونؤمن أنه نهايتنا جميعاً، وليس هذا الذي قلب حياتنا، ولكن ما فعلته أمي هو السبب فيما حدث بعد ذلك، في البداية اعتبرناه نوعاً من التضحية ومواصلة مشوار أبي، فأنا في السنة الثالثة بالجامعة وأختي الصغرى في الثانوية العامة، عندما خرجت أمي لتباشر أعمال أبي في شركته التجارية التي بالفعل تحتاج إلى واحدة منا على الأقل إن لم تكن تحتاج إلينا جميعاً، إلى أن تستقر الأمور ونعرف ما لنا وما علينا، لكن لأن كل واحدة منا مشغولة بحياتها فلم يبق إلا أمي التي تصدت لهذه المهمة وتحملتها وهي في بداية فترة الحداد، وبدأت العمل في الأسبوع الأول بعد رحيل أبي، كانت مثله إلا قليلاً في التغيب عن البيت فتخرج في الصباح ولا تعود إلا بعد أن ينتهي العمل في موعده اليومي، ومع الفارق لم تكن مستمرة في اهتمامها بالبيت وبنا على الإطلاق وتفرغت للعمل كأنها رجل. الطامة الكبرى الطامة الكبرى بعد ستة أشهر من رحيل أبي وبلا مقدمات أعلنت أمي أنها تعتزم الزواج، والمفاجأة أن العريس صديق أبي المقرب الذي كنا نعتبره مثل أبينا، ولم تجد اعتراضاتنا جميعاً ولم تؤخر أو تقدم من الأمر شيئاً، ولم تبال بنا ولا حتى بضياع مستقبلنا، ونفذت مرادها وتزوجت بالفعل خلال شهر من إبلاغنا، حرقت قلوبنا وقد جاء العريس العجوز ليقيم معنا في بيتنا بل في غرفة نوم أبينا، لم نطق ذلك وكان في غاية القسوة على نفوسنا أنا وأختيّ الأصغر والأكبر مني، بينما قاطعت أختي الكبرى بيتنا ولم تعد تزرنا احتجاجاً على هذا الموقف، ولم نجد لذلك حلاً إلا أن نبني جداراً عازلا في منزلنا يفصل بيننا وبين أمي وزوجها واستقل كل طرف بحياته تماماً، كان عاماً أسود أو أكثر الأعوام سواداً في حياتنا، بعده فوجئنا بطلاق أمنا التي مرت بكل المراحل من زوجة إلى أرملة ثم إلى زوجة مرة أخرى ثم مطلقة، وقد جاءت تبدي الندم ليس على خطأ الزواج وإنما على خطأ الاختيار فقد اكتشفت أن زوجها هذا تزوجها فقط طمعاً في أموالنا وحاول أن يستحوذ على كل شيء، لكنها أفاقت وطلبت الطلاق وانتهى الأمر بينهما. سعدنا بعودة أمي لكن الغريب أنها رفضت إزالة الجدار العازل بلا سبب ولم نجد لذلك تفسيراً، إلا أنها تود الاحتفاظ بخصوصيتها واقتنعا بذلك، لكن ما تبعه كان زلزالاً هز حياتنا من جديد، فما كادت فترة العدة تنتهي حتى وجدنا أمنا تكرر الخطأ بصورة أبشع، فقد تزوجت أحد العمال الذين كانوا يعملون عند أبي، هنا تأكدنا أنها لم تقم بإزالة الجدار؛ لأنها تنوي الزواج للمرة الثالثة، وبما أن كلامنا ومواقفنا لا تؤثر فيها ولن تستجيب لأي محاولات فلم نتفوه هذه المرة بكلمة واحدة معها وإن كنا أنا وأخواتي ننام ونستيقظ على هذا الموضوع ولم نجد منه مخرجاً، وبسببها كرهنا الرجال والزواج، ولم يمض إلا ستة أشهر، وجاءت النتيجة مثل سابقتها، فقد ظهرت نواياه أيضاً معها وتم الطلاق الثاني؛ لأنها اكتشفت مطامعه أيضاً، وأنه لم يتزوجها لجمالها وإنما لمالها، وهي ممن يحبون المال حباً جماً، وتم الطلاق. توابع الأزمة لم نفرح كثيراً بهذا الحدث؛ لأننا توقعنا أن تكرر المأساة ولن تتوقف، رغم أنها تقترب من الستين من عمرها وكان هذا هو وجه الاستغراب من الجميع بلا استثناء، فلم تجد من يتعاطف معها على الإطلاق أو يؤيدها فيما ذهبت إليه من تصرفات صبيانية، وبالفعل تزوجت للمرة الرابعة، أي الثالثة بعد أبي، كان رجلاً أرمل يقاربها في السن، وله أبناء وبنات في مثل أعمارنا، كنا مثل المتفرجين من الغرباء، وكأننا لا علاقة بيننا وبينها، إلا بعض النقود التي تلقيها لنا كمصروف ولا نهتم بها ولا ننتظرها، ومع ذلك لم تستمر الزيجة مثل سابقاتها وإن اختلفت الأسباب، فقد رفض الرجل كل تصرفاتها، طالبها بأن تكون زوجة فعلياً وليس على الورق، طالبها بأن تعود إلى البيت وألا تختلط بالرجال وأن تعين في الشركة من يقوم بمهامها، لكنها رفضت بشدة ولم تستجب له، وفي هذه المرة هو الذي قرر تطليقها. التوابع التي ترتبت على تصرفات أمي هي أن أختي الكبرى أصبحت في أزمة ومشاكل مستمرة؛ لأن زوجها وأسرته يعيرونها بأمها، وأصبحوا يتعالون عليها وهم الذين وافق أبي على مصاهرتهم رغم الفوارق الكبرى بين الأسرتين والتي تحدثت عنها في بداية كلامي، بينما أختي الثانية فقد كانت الصدمة بالنسبة لها أكبر فقد قام خطيبها بفسخ الخطبة التي استمرت عامين، بلا تردد بعد أن واجه هو الآخر من عائلته ما واجهه زوج أختي الكبرى، ولأنه مازال على البر فقد فر بجلده من سمعة أسرتنا، أما أنا فلم أكن بمأمن من هذا كله ولست أحسن حظاً، فقد ارتبط بي شاب فيه كل الصفات التي أتمناها وبعدما علم تفاصيل حياتنا اختفى بلا كلمة وداع. رغم هذا كله لاتزال أمي تحتفظ بالجدار العازل أملاً في العريس الخامس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©