الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إدريس الخضراوي: لدينا مقاومة أدبية

إدريس الخضراوي: لدينا مقاومة أدبية
16 أغسطس 2012
يرى الباحث والناقد المغربي إدريس الخضراوي، إن الرواية العربية تطورت تطورا كبيرا منذ نشأتها المترددة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ويبدي الخضراوي تقييما إيجابيا للرواية الإماراتية التي يجد إنها عرفت امتدادها وتطورها من خلال كُتّاب وكاتبات لم يكفوا عن الاجتهاد في التعاطي مع الكتابة مفهوما أو ممارسة. ويقول إن النقّاد والمتابعين ينظرون بجدية إلى الآفاق التي تفترعها التجربة الروائية الإماراتية سواء على مستوى طرائق الكتابة وأساليب السرد أو على مستوى إدراج التجربة في بعديها الفردي والمجتمعي في الزمان والمكان ووصلها بهموم وانشغالات المجتمع الإماراتي نحو التقدم والانفتاح على ثقافات العالم. بمناسبة صدور كتابه الجديد “الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار” كان هذا الحوار مع الدكتور إدريس الخضراوي للحديث عن مؤلفه القيّم وعن قضايا الرواية العربية بشكل عام. ? نريد منك أن تعرف القارئ عن الفكرة والهدف الأساس الذي دفعك إلى تأليف كتابك الصادر مؤخرا بعنوان: “الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار”. ? أتصور أن “كتاب الروية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار” الصادر هذا العام 2012، يشكل امتدادا لكتاب: “الأدب موضوعا للدراسات الثقافية” الصادر عام 2007 الذي انشغلت فيه بالاقتراب من ذلك الفضاء الثري الذي تجترحه الدراسات الثقافية في التفكير في الأدب من خلال إعادة الاعتبار لما تم إقصاؤه أو تهميشه باسم العلم. وأنت تعرف أن هذا الاهتمام تميز عربيا بالحداثة زمنيا، ذلك أن كتاب النقد الثقافي للناقد السعودي عبد الله الغذامي الصادر سنة 2000 شكل لحظة أساسية في سياق إعادة التفكير في النص من منطلقات أوسع تهتم بالكشف عن الأنساق الثقافية الكامنة في الخطابات المختلفة ومنها الخطاب الأدبي بدل الارتهان للتصورات التي استحكمت بالتفكير في الأدبية منذ العشرينيات من القرن الماضي. أما كتابي الصادر حديثا فيتكرس للتفكير في أحد الانشغالات الأساسية التي تهيمن على السرد المعاصر، خاصة الرواية، وتتمثل في أسئلة ما بعد الاستعمار، أسئلة التمثيل والهوية والمنفى وكتابة التواريخ المضادة للسرديات التي تبلورت في إطار مرضيات القوة والسيطرة. وإذا علمنا أن الفيلسوف والمفكر العظيم بول ريكور يعلمنا أن السرد هو الفعل الوحيد الذي تأخذ فيه التجربة الإنسانية بعدها الزمني أدركنا مدى الأهمية التي يكتسيها هذا المنظور في قراءة السرد والرواية قراءة جديدة لا تلغي القراءات السابقة وإنما تتموضع إلى جانبها في إطار الإضافة التي تعني الإقامة في منطقة الاختلاف بدل التصلب، وهي المنظورية التي تقع في القلب من التحليل الثقافي. إذن لا يتعلق الأمر في الدراسات الثقافية بتياراتها المتعددة ومنها تيار ما بعد الاستعمار بفتح قارة جديدة أو بالتموضع بعيدا عن التأويلات المتحققة كما يمكن أن يفهم من الانتقادات التي توجه إلى هذا النوع من الاهتمام. فالتأويلات التي تندرج ضمن الحداثة تكتسب جاذبيتها وأهميتها التي كانت موضع تنويه حتى من أشد خصومها، ما يعني أن الأفق الذي يبتغي التحليل الثقافي فتحه يتجلى على نحو أفضل عندما يُفكّر فيه بمنطق التداخل والتواصل والتفاعل بدل التناظر والتضايف. وإذا كان الباحث في الرواية العربية يقع على الكثير من الدراسات والأبحاث الهامة التي تناولتها بالنقد والتحليل والمساءلة، فإنها مع ذلك لم تدرس من حيث هي نص ثقافي، أي ممارسة خطابية واجتماعية دالة، دراسة مستقلة ومستفيضة، يمكن أن تمكن من فهم حاجة الأفراد والجماعات إلى استعادة الأفق الخيالي، وسرد الهوية والتاريخ ومسألة الأنا والآخر في سياق ما بعد كولونيالي بشكل يتجاوز الأوعاء المرتهنة للحدود إلى ما يؤسس الحوار بين الأنا والعالم. لذلك يحاول هذا الكتاب أن يكون مدخلا لدراسة الرواية في ارتباطها العميق بمحضنها الثقافي، وما تنطوي عليه من تمثيلات ومواقف ورؤى لا يمكن تفسيرها إلا في علاقة بالمغامرة الاجتماعية التي يحياها الفرد، كما يسعى إلى فهم المتخللات التاريخية والثقافية للنص الروائي العربي المعاصر، والتي تشتغل بوصفها شكلا من التفاوض المعقد الذي يعين الهوية ولو بشكل جزئي. ويمكن إجمال إشكاليته في البحث في الكيفية التي تصدت بها الرواية العربية لنسقين ثقافيين هما: النسق الثقافي الأحادي المتمركز حول الذات، بما يحمله من انطباعات وتصورات ذهنية نمطية حول الآخرين. والنسق الثقافي المحلي المكتنز بالسلطة والهيمنة، وهو ما يجعل من كتابة الرواية مطلبا شرعيا يستعيد من خلاله الكاتب حقه في امتلاك تاريخه الخاص كرمز لشرعيته أو لرفض الهيمنة عليه. مركزية الآخر ? هل تتفق معي أن كتابك جاء متأخرا بعض الشيء، خاصة أن أغلب بلدان الوطن العربي حصلت على استقلالها منذ عقود، كيف تدافع عن هذا الطرح؟ ? أعتقد أن الفكرة الموجهة لهذا الكتاب تقع في صميم الانشغالات الكبرى للعالم الراهن. لذلك نعتبر خطاب ما بعد الاستعمار من أهم الخطابات التي يجري الاعتماد عليها في قراءة وفهم سياق ما بعد الكولونيالية علما أن هذه الـ ما بعد لا تقتصر على الدلالة على المرحلة التي أعقبت الاحتلال بل تجاوزها إلى الدلالة على كل أشكال التفكير حول ما يحدث وينجم عن الفعل الاستعماري دون الارتهان لأي تحديد زمني. وكما يقول جروج بالانديي فنحن جميعا، وبأشكال مختلفة، نعيش الوضع ما بعد الكولونيالي. لذلك فما يميز المتن المتنوع من الكتابات التي تندرج ضمن خطاب ما بعد الاستعمار، هو العلائق القوية التي تقيمها مع مفاهيم العرق والأمة والهوية والثقافة الوطنية، إذ تستثمر هذه المقولات بطريقة تردّ بها على مركزية الآخر، وتجابهها بخطاب أكثر التصاقا بالعناصر المحلية التي سعى الاستعمار إلى تفكيكها وتشويهها، كما أنها تقيم علاقات متواشجة مع كثير من المفكرين والتيارات السياسية. ولذلك فتنظيراتها عموما تفصح عن تأثر أعمق بالنظرية الفرنسية (French Theory)، وهي تسمية تطلق على تيار فكري يشمل نخبة من المفكرين الفرنسيين أمثال: جان بول سارتر وميشيل فوكو وجاك دريدا وجيل دولوز، حيث تدخل إسهاماتهم في مشروعها الخاص وتدافع عنها، وإن كان ذلك لا يحول دون أن تبقى على مسافة منها، أو تنتقدها في بعض الأحيان. وعلى هذا الأساس فالبحوث والدراسات التي تتغيا تفكيك المدونة الأنثربولوجية والسوسيولوجية والأدبية والجغرافية والتاريخية التي أنتجت في الفترات الكولونيالية تتنامى بوتيرة متسارعة، وذلك بهدف تقويض النتائج السابقة ومحاصرتها بالأدوات المعرفية ذاتها من أجل دفع الآخر إلى الوعي بمركزيته واستعلائه ونزعته الاستعمارية التي كانت سببا في الآلام التي تعاني منها الكثير من شعوب العالم التي تعرضت للاحتلال. وهذه الدراسات هي التي تنتظم اليوم في إطار مفهوم ما بعد الكولونيالية الذي يعود الفضل في توضحه وتبلوره على النحو الأفضل إلى المفكر إدوارد سعيد في كتابيه: “الاستشراف” و”الثقافة والإمبريالية”. إن العنصر الأهم الذي يمكن الإلماع إليه في هذا المجال هو تزايد حالات المعارضة والمقاومة لأنساق التمركز سواء عن طريق المعرفة الفكرية التي تستثمر بشكل حاذق المبتكرات الغربية لتدمجها في تحليل فكري وإبستمولوجى يؤسس منطقة جديدة للذات، تختلف عن تلك التي يصممها الآخر، أو عن طريق النصوص الروائية التخييلية التي تقدم معرفة جدالية تمس كل جوانب الآخر: شخصيته النفسية والاجتماعية، كما توجه نقدا لما يعتبر كمالا غربيا مزعوما، لافتة الانتباه إلى أنه ليس بمنأى عن النقد والمساءلة. الرفض والقبول ? حدثنا عن التحول الذي عرفته الرواية العربية، بعد فترة الاستقلال ورؤيتك لنصوص نشرت في السبعينيات من القرن الماضي، وقد قاربت أعمال نجم والي في عمله “تل اللحم”، وأحلام مستغانمي ونصها “ذاكرة الجسد”، وحسونة المصباحي وعمله الروائي “الآخرون”. ? لقد تطورت الرواية العربية تطورا كبيرا منذ نشأتها المترددة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. تشهد على ذلك تشييداتها السردية وتراكم تجاربها وإصرارها، جماليا، على الخروج من النمطية النثرية الموروثة في اللغة والأسلوب، وافتتاح آفاق تجريبية جديدة في الممارسة الكتابية من خلال صيغ واختيارات أسلوبية لا تكف عن التداخل المعقد والمتشعب لخلق فاعلية خيالية جذرية قمينة بتمثيل المضامين الجديدة التي يشكل الإنسان وقلقه في العالم الذي يعيش فيه محورها. وهي بذلك كانت ملتصقة بالثقافة الحديثة من حيث إنها “لا تتحقق إلا في مجتمع يعي أفراده حقهم في الوجود، وحريتهم في الرفض والقبول والمحاكمة، أي في مجتمع جديد ينتقل فيه الناس من وضع أقنعة بشرية متهمة إلى وضع ذوات حرة لها خصائصها المميزة لها عن غيرها”. من هذا المنظور أرى أن الرواية العربية تميزت بظهور حساسيات كتابية وجمالية مختلفة ومغايرات متعددة وسّعت هويتها الأجناسية وأكسبتها مرونة كبيرة في الإضاءة عن الإنسان والعالم، وتعددا في الشكل والخطاب. لذلك فتجاوزها لعوائقها الداخلية مكنها من اختراق البناء الثقافي الأحادي الصوت والمعنى، ومن مواجهة ما يتولد عنه من رتابة وتكرارية والتزام ممل، مؤسسة بذلك رؤية للفعل الروائي بما هو فاعلية إنسانية عابرة للحدود والثقافات والسياقات ملتحمة بالإنسان وبفكره بحثا عن اكتناه وسبر أعمق. وقد أبرز محمد برادة أن الإبداع العربي، والرواية عنوانه الأبرز، سجل على مدى أربعين سنة تحولا نوعيا على مستويين أولهما الحرص على توفير عناصر شكلية وفنية تحقق خصوصية الخطاب الأدبي وتميزه عن الخطاب البلاغي المتخشب، المستخدم في غسل الأدمغة وتسطيح العقول. والثاني ارتياد مجالات وفضاءات كانت شبه محرمة، وإعادة بناء عوالم شعرية وسردية تبعث وعيا نقديا عميقا وجريئا. وبتكثيف القيم الجمالية والخيارات الأسلوبية واكتشاف سحر التعبير بالتعدد اللغوي ما يسهم في تعميق الاحتمالات المتعددة للمعنى من خلال الانفتاح على سياقات الموروث الأدبي والكتابة من مخزون التجارب الإبداعية ومن فيضها، تبدو الرواية العربية في حاضرها منذورة للغور في فضاء التعددية والاختلاف وتمجيد الحوارية الصادحة بصوت المجتمع، وبما يتفاعل في العوالم النفسية لأفراده. وقد أكسبها هذا كله صفة الحدث الأدبي الجدير بإعادة رسم تاريخه وتأويله وإخصاب التفكير فيه. وجدير بالذكر أن النقاد والباحثين في شعريتها والمتابعين لأسئلتها المتعددة، خاصة ما تعلق منها بالأشكال والأنماط السردية الأساسية، يتحدثون عن تصنيفات واتجاهات متنوعة داخل حقلها بخلفيات جمالية وكتابية لها منظوراتها الخاصة للمتخيل واللغة ومنعرجات الذاكرة ومجهولات الذات. وسواء تعلق الأمر بالتصنيف على أساس الثيمات التي عني بها الكتاب، وهو تصنيف يقسم الرواية إلى تاريخية أو بوليسية أو عجائبية أو عاطفية، أو رواية حرب أو مقاومة، أو التصنيف على أساس استراتيجية الكتابة وعلاقتها بالواقعي أو الخيالي، وما يستتبع ذلك من تمييز بين رواية يستند التمثيل فيها إلى المحاكاة وتكثيف الإحالة المرجعية، ورواية تعطي الأسبقية للكتابة باعتبارها رهانا وأفقا، حيث يحظى السرد والتخييل واللغة فيها باهتمام خاص، فإن التجارب السردية المتقدمة فيها سواء على مستوى المتخيل والارتباط بالواقع أو التحرر منه بالتأكيد على جوهره ككتابة والعكوف على التأمل في مقتضياتها، أو على مستوى تشييد اللغات المتعددة التي تشخص الحوارية الاجتماعية برؤياتها وتناقضاتها المختلفة، لا تضع موضع السؤال المقولة الأجناسية ومدى قدرتها على التصنيف، لكأن الأشكال والأجناس لم يعد لها معنى حقيقي أمام هذا الهدم والتوسيع المطرد للتمايزات والحدود فحسب، بل تؤكد أن الارتهان في قراءتها إلى المنظورات الجاهزة هو تضحية بالرواية ذاتها بما هي ممارسة تخييلية خلاقة وكاشفة. لذلك أتصور أن النصوص الروائية العربية التي اشتغلنا عليها في هذا الكتاب بالإضافة إلى تجارب ونصوص أخرى لا يتسع بالمجال للإشارة إليها، كل ذلك يؤكد خلاصة مفادها أن النص الروائي العربي المعاصر يشهد تحولا واضحا على جميع المستويات: الوصفية والسردية واللغوية والجمالية، كما يؤدي فيه التمثيل السردي أدوارا شديدة الأهمية في تركيب المادة التخييلية وتجذيرها في المرجعيات الثقافية الحاضنة. فالمخاضات التي تعرفها المجتمعات العربية، والأفكار المختلفة التي تعتمل في داخلها، والإكراهات التي يفرضها عليها احتكاكها بالغرب، كلها عوامل ومتغيرات لم يكن الروائي العربي بمنجاة من التأثر بها والتفاعل معها، واللجوء إلى محاورتها عبر التخييل، باعتباره الوسيط الذي يمكّن من إعادة تقديم الأشياء من عالم إلى عالم، من عالم الواقع إلى عالم الكلمة والصورة. وهذه الصور من الخيال الأنثربولوجي التي تتحقق في الرواية لا تطمس مغامرتها الجمالية، أو تلغي الإمكانيات المختلفة التي تستبطنها الكتابة باعتبارها اشتغالا على اللغة. فإذا كان الروائي المعاصر لا يكفّ عن جعل الرواية قريبة من هويتها الإبداعية، لصيقة بمغامرة كتابتها فلأنه أكثر وعيا بأهمية هذا الزاد الذي يغترف منه، ويهبه القدرة التكلمية والتعبير عن الإنسان والعالم الذي يعيش فيه. بهذا المعنى، فهذه الدائرة التي تتحرك في داخلها أغلب النصوص التي تمثل متن هذا الكتاب، لا يمكن قراءة إسهامها في هذه التحولات من غير استبصار عميق لجوانب مختلفة من خطابها السردي الذي ينسفُ القواعد التمثيلية السابقة، ويؤسس لتمثيل مضاد يبدو فيه السرد، شكلا من المقاومـة الثقافية، ونمطا من الرد بالكتابة. الرواية الإماراتية ? أنت متابع للحراك الثقافي الذي تعرفه دولة الإمارات العربية المتحدة، كيف ترى مشهدها الروائي ؟ومن أبرز الأصوات التي تشدك هناك؟ ? لا شك في أن المتابع للمشهد الثقافي بدولة الإمارات يلمس ذلك الغنى والتنوع الذي يطبع جوانب متعددة منه في طليعتها الإنتاج الأدبي بأنواعه المختلفة ومنها الرواية. ورغم أن النصوص الروائية الأولى ظهرت خلال السبعينيات من القرن الماضي، وهذا دليل على حداثة الكتابة السردية، فإن النقاد والمتابعين للتجربة الروائية ككل يؤكدون الآفاق التي تفترعها الكثير من النصوص سواء على مستوى طرائق الكتابة وأساليب السرد أو على مستوى إدراج التجربة في بعديها الفردي والمجتمعي في الزمان والمكان ووصلها بهموم وانشغالات المجتمع الإماراتي نحو التقدم والانفتاح على ثقافات العالم. وإذا كانت رواية “شاهندة” لراشد عبد الله النعيمي تبرز على مستوى التلقي لحظة البداية أو التكون المطبوعة بالكثير من العناصر اللافتة للنظر على مستوى الشكل والخطاب، فإن الحقل الروائي الإماراتي عرف امتداده وتطوره من خلال كتاب وكاتبات لم يكفوا عن الاجتهاد في التعاطي مع الكتابة مفهوما أو ممارسة، بما يعكس الرغبة في التجديد والتحديث وارتياد أفق السرد المتحرر من أسار ثقل البلاغة واللغة المكرسة. لذلك تصدر الرواية الإماراتية عن تصور للكتابة يتسم بالكثير من الدينامية إذ نجد من خلال تحققاتها الكتابة المسكونة بالتاريخ والكتابة الواقعية، كما نجد كذلك الكتابة التي تعانق الخيال الجموح وتلوذ به في مشاكسة واقعها ومراودة مستحيله. أعتقد أن النصوص التي يكتبها علي أبو الريش أو ميسون صقر تتعين نماذج دالة على ما تتضمنه الرواية الإماراتية من تجديد وقطيعة قياسا إلى النصوص السابقة عليها في الزمن. لذلك أتصور أن قراءة نصوص وتجارب متعددة من متن هذه الرواية يكشف بالملموس عن العديد من العناصر والمكونات الشكلية والدلالية التي تبرز عمق النزوع التجديدي لدى الكاتب الإماراتي، سواء في بنائه لعوالم خاصة بشخوصها وأحداثها، أو على مستوى إرادة القول والتحدث عن هذه العوالم. أسماء عربية ? كيف ترى وضع الرواية العربية اليوم وما هي الأسماء التي تشدك؟ ? إن متابعة للرواية العربية في تنوع تحققاتها وتعدد اتجاهاتها، تمكننا من الوقوف على تجارب جديدة تتقاطع فيها كتابة الرواية مع البعد الأنثربولوجي والفلسفي، وهو ما يتجلى من كثرة المتخللات النصية والثقافية والرمزية لنسيج الرواية. والروائي ينجز ذلك من أجل تركيب الحكاية التي تستطيع أن تكون نوعا من الفهم المغاير، ليس فقط للمجتمع والإنسان، وإنما لمراحل تشكل المجتمع وقيمه بمستوياتها المختلفة. ووظيفة الرواية هي الانغمار في داخله والكشف عن الجوانب المضمرة فيه، وإعادة الاعتبار لدلالات وأنساق أو لفئات اجتماعية أو ممارسات ثقافية أصبحت تقع لأسباب مختلفة في إطار ما يسمى بالهامش. إن نصوصا مثل “الناجون” 2012 للكاتبة المغربية الزهرة رميج، و”تغريدة البجعة” 2008 للمصري سعيد مكاوي، و”أصل وفصل” 2009 للفلسطينية سحر خليفة، و”حارس التبغ” 2008 للعراقي علي بدر، و”نزهة الدلفين” 2005 للسعودي يوسف المحيميد، ونصوص أخرى كثيرة تنتمي للألفية الجديدة، تبرز الدور الذي تنهض به الرواية المعاصرة في تمثيل موضوعات وقضايا مغايرة، مستفيدة في ذلك من متخيل جموح، نزّاع إلى التساؤل عن أنساق متراكبة ومعقدة تتصل بالهوية والسلطة والهيمنة وثنائية الأنا والآخر، مما يولد الارتباط بالمصير فرديا وجماعيا، ويقوي النزوع إلى استملاك التاريخ الخاص كاستراتيجية لبناء الهوية والتموضع إزاء العالم، ذلك أن هذا المنحى الثقافي والجمالي الذي ترتاده الرواية، هو ما يجعل منها بحق عين وجود الذات والجماعة. على هذا الأساس أرى أن الرواية العربية تقدم تجربة في المقاومة الثقافية جديرة بالتحليل والدراسة. فالحبكات السردية التي يخصصها الكتاب لتمثيل ضروب الاقتلاع والإحساس بالضياع، وتَفتُّتِ الهويات في العوالم التي تتحرك فيها الشخصيات تمثل أحد الموضوعات الرئيسة التي يتعذر فهمها دون الاستناد إلى خلفية ثقافية قمينة باجتراح الأدوات الملائمة لتأويل اشتباك الرواية بالتواريخ والهويات والأحداث والمواقف. فالرواية العربية المعاصرة تحتفي بالمتخيل بوصفه خطابا لا يقل قوة في التكلّم والتعبير عن الخطابات الأخرى، حيث يحضر السرد باعتباره ممارسة دالة، تستعيد الذات عبره الهوية المغيبة أو المقهورة، وتُشيد من خلاله رؤية جديدة مضادّة لسردية السلطة، ومتمردة على احتكاراتها. وهذا الفهم يُثبِتُ على مستوى التلقي بأن المعرفة الروائية حتى وإن كان الخيال مصدرها الأساس، فإنها منغرزة في أرض الواقعي: إنها ثمرة الخبرة الوجودية. بهذا الشكل الذي لا تكفّ فيه الرواية عن مجابهة الأنساق المبتذلة وتحطيمها، يتأكد دورها بوصفها ممارسة إبداعية تتكامل مع المجهود الثقافي الذي به يؤسس المجتمع لوجوده. يمكن أن نلاحظ ذلك من خلال النصوص الروائية التي تستعيد التاريخ وفق رؤية جديدة، وهي بذلك تؤسس لفهم مختلف بهذا التاريخ، إذ تضيء كل ما طاوله من أشكال الزيف والتحريف. لذلك نجد الرواية العربية تدخل في صراع مع السّردية المنجزة للسلطة. فما غيبته هذه السردية أو عملت على تشويهه أو تحريفه، يستعاد عبر سردية مغايرة تؤكد الحاجة إلى الرواية في التعبير عن الوجود. وكما تتوجه هذه السردية المضادّة إلى الآخر، بهدف مقاومته واستعادة ما عمل على تغييره أو تشويهه كالتاريخ والأمكنة، تتوجه كذلك إلى داخل حدود الذات من أجل تفكيك بنى الهيمنة وأنساقها وآثارها على الفرد والمجتمع. إن مساهمتها تدخل في إطار العمل على تحقيق ما دعاه علي حرب تحويل الفضاء الجغرافي إلى أرض لانزراع الأفكار الخصبة أو لولادة المفاهيم الخارقة. وهي تنجز ذلك من خلال الإفصاح عن هوية جديدة قوامها التلاقح والانفتاح والاعتماد المتبادل. عن الكتاب: تبدلات السرد في رصد الواقع الاستعماري يتألف كتاب الباحث والناقد المغربي الدكتور إدريس الخضراوي “الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار”، الصادر عن دار رؤية للنشر في القاهرة، ضمن سلسلة “السرد العربي” التي يشرف عليها الناقد والأكاديمي المغربي سعيد يقطين، من مقدمة وثلاثة فصول، اختص الفصل الأول الذي حمل عنوان “السرد والتمثيل الثقافي”، بالاهتمام ببناء المعرفة بمفهوم التمثيل، وتتبع حضوره المثري والمخصب في النظرية الثقافية عند إدوارد سعيد. وفي الفصل الثاني الذي حمل عنوان “الرواية وأسئلة ما بعد الاستعمار”، تفرد بتناول بلاغة الآخر الخارجي بين التوتر والتقارب من خلال رواية “كتاب الأمير” للكاتب الجزائري واسيني الأعرج، وهي تمثل الرد الكتابي على رواية الاستعمار والإمبريالية حول المناطق التي كانت مستعمرة. كما اشتغل فيه الخضراوي على رواية “تغريبة أحمد الحجري” للكاتب التونسي عبد الواحد إبراهيم، وهي الرواية التي جسدت معاناة الموريسكيين من محاكم التفتيش خلال القرن السادس عشر. وأنهى هذا الفصل بالاشتغال على رواية “الربيع والخريف” للكاتب السوري حنا مينة، وأبرز كيف تنطلق في تمثيلها للآخر من سردية مغايرة قوامها التقارب والتعايش والاعتماد المتبادل. واعتمادا على التأويل الذي قدمه إدوارد سعيد ونادر كاظم، يتبين أن التمثيل الثقافي يفيد في فهم حركة الثقافة خارج حدود الذات، ويمكن من استيعاب تأثير تضافر الثقافة مع القوة داخل حدود الذات وخارجها. وهذا ما تجسده معاناة الموريسكيين من شتى ضروب الاستبعاد، وما تعرضوا له من طرد واقتلاع. وتميز الفصل الثالث الذي حمل عنوان: مرجعيات السرد بدراسة أنماط تمثيل الرواية العربية الجديدة للتاريخ والهوية والواقع خاصة خلال فترة ما بعد الاستقلال. ورغم أن الرواية العربية اتجهت خلال السبعينيات إلى معاودة التأمل والتفكير في مراحل الاستقلال العربي، ببناء سردي متماسك يطفح بالصور المضادة، وباللجوء إلى تكثيف النقد والسخرية من الحاضر، فإن النصوص الروائية الجديدة التي كتبت في العقد الأخير من القرن العشرين، وبداية هذا القرن، تقدم عبر السرد تأويلا جديدا لذلك الماضي، ينهض على سردية مغايرة. وهذا ما تبينه من خلال ثلاثة أعمال روائية هي: “تل اللحم” للكاتب العراقي نجم والي، و”ذاكرة الجسد” للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، و”الآخرون” للروائي التونسي حسونة المصباحي. وأما الخاتمة، فقد ضمنها الخلاصات الأساسية التي استحصلها في هذه الفصول، سواء منها الخلاصات النظرية المتعلقة ببناء الموضوع نظريا، وبما يتصل به من مرجعيات وإبدالات علمية، فضلا عن إدراجها ضمن رؤية جامعة تمكن من توسيع الفهم بالرواية ليشمل عناصر أخرى غير لغوية، وعلى رأسها عنصر الثقافة باعتبارها مكونا يسهم في تشييد تداولية النص، كما يؤثر في تلقيه. ويرى المؤلف أن “الحرص على مواجهة النص الروائي من موقع النص الثقافي، والانفتاح على مرجعيات حديثة التبلور في الحقل النقدي العربي بهدف إعادة بناء الفهم به، وعلى أسس مغايرة، لم يكن بغرض الاختلاف عما هو متحقق من مقاربات في حقل السرديات وحسب، وإنما بهدف الإلحاح على ضرورة التفكير في اجتراح فهم جديد بالرواية من حيث هي ممارسة تخييلية وثقافية”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©