الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قوة تدميرية.. بناءة

قوة تدميرية.. بناءة
16 أغسطس 2012
بعد كتبه القيمة، الفردية والجماعية ومنها “الذات والآخر”، “الكتابة والموت”، “خرائطية الكتابة”، “نسيج الصداقة”، “في الفكر والشعر”، “فوكو والسياسة”، “كتابات للأحياء”، “هذيان الأعضاء”.. يطل علينا الكاتب والمترجم والمفكر المغربي مصطفى الحسناوي بكتابه الجديد “نيتشه: وجوه الفيلسوف”، وقد صدر عن منشورات دار التوحيدي ـ الرباط، في 186 صفحة من الحجم المتوسط. يغوص هذا الكتاب في فلسفة الفيلسوف الألماني الشهير فريديريك نيتشه، ويقربها من القارئ العربي عبر أبواب الكتاب: “نيتشه والركح الفلسفي”، “نيتشه ونحن”، “بصدد نيتشه”، “قراءة نيتشه”، “الكتابة كمسألة فلسفية”، “وجه نيتشه”، “نيتشه وأقنعة الذات”، “نيتشه ومسالة الحرب”، “انزياحات انطلاقا من نيتشه”، “نيتشه أمام هايدغر”، “نيتشه ما بعد الوفاة”. وكما هو معروف منذ قرون، كل ثقافة تواجه نيتشه تجعله يدفع ثمنا متعدد الأوجه، “لأن فكره يجسد حركة نقدية عنيفة تنتج ثمارها إيجابا أساسه الكشف عن كل أوهام العقل وأصنامه. فكيف لثقافة لاتزال في حاجة “لتمجيد العقل” أن تنتقد وتكشف عن جبروته وطغيانه؟. وكيف لثقافة لاتزال تنهل في جميع مستوياتها من “ميتافيزيقا إسلامية معممة” أن تواجه فكرا قام على أنقاض الميتافيزيقا ونهاية مرجعها الأعلى؟. ثم كيف لثقافة فكر هذا الفيلسوف في بعدها التنويري المتجسد في الماركسية، أن تعود إليه، وهي لا تعرف كيف سيكون وقع هذا الفكر على ذلك الإرث الذي أسس لبعض المسارات النقدية الهامة والضرورية آنذاك والآن وفي المستقبل؟”. ضبط وقياس وبرأي مقدم الكتاب محمد الهلالي، فمن الصعب على من يحاور نيتشه ألا يندهش لهذه القوة التدميرية البناءة والايجابية، ففكر هذا الفيلسوف الألماني “فكر يمجد” يمجد فيض الحياة، والسكر الناتج عن اللذة، البعد الخلاّق للحياة كقوة وهذا مايرمز له ديونيزوس. وهو فكر يضع العقل موضع مساءلة جذرية وكل ما يرمز له من تحكم وضبط وقياس، وصفاء ذهني وهذا ما يرمز له أبولون وسقراط. عكس ما يقال عن رمزية سقراط الإيجابية، فإن نيتشه يرى في الفكر السقراطي انتصارا للانحطاط، وخيانة للحياة وتمجيد كل ما هو معاد لغرائز الحياة وسموها. وسوف يتعمق الانحطاط أكثر فأكثر مع المسيحية التي سوف تشهد تجسد الخضوع التام والعبودية (المصلوب، أي المسيح، يجسد رمز الانحطاط والعبودية). ولقد اشر نيتشه إلى جيوب مقاومة الانحطاط، كما هو الشأن مع موسيقى فاغنر. وهذا يعني أن ديونيزوس إيجابي ومتعدد ومثبت لغرائز الحياة. هذا التصور الايجابي الذي يعكس صميم الحياة سوف يعبر عنه نيتشه بالرمز واللغز والاعتماد على إنتاجية الفن وخصوبته (مقارنة بقحولة المفهوم وجفاف الخطاب). أي أن الكشف عن الوحدة الحقيقية للوجود لا تتم إلا عبر الفن (علاقة التعارض ما بين ديونيزوس وأريان: أي التعارض بين عالم “لا يمكن تحديده أو ضبطه بالعقل”، لا يمكن حصره في مفهوم أو عبارة، عالم القوى الفعالة الغامضة مثل الجنس والسكر والهباء والطفح واللاتمايز واللاختلاف والعمق والعتمة والعنف والإفراط...، أي كل ما يحيل مباشرة إلى ما يجعل من الحياة حياة، عالم ديونيزوس. وبين عالم ينتجه العقل وهو مكون مما هو ظاهر ومرئي بفضل النور الذي يضيئه، وبفعل أنه يدرك عبر الشكل والحد والاختلاف والتفرد والوعي والكمال والقياس والانسجام...). يتصور نيتشه الإنسان كعمل فني من صنع الطبيعة التي هي الفنان الأعظم، ولذلك يجب أن يكون من طينتها. وإذا كانت الحضارة الغربية قد قامت على أساس العقل (أفلاطون)، فقد دفع ذلك بنيتشه إلى نقدها وتقويض أسسها العقل، المثال، الكشف جينيالوجيا عن كيفية تشكل القيم الأخلاقية بدءا من التغيير اللغوي والخلط بين الأصل والنتيجة، وبين السبب والفعل وصولا إلى تعميم السبب.. إضافة إلى نقد الميتافيزيقا بدءا من تشكلها مع أفلاطون، وانتشارها مع الثقافة المسيحية وصولا إلى آخر صياغة جديدة لها مع الكانطية: فالميتافيزيقا ترتكز على الثنائية تبدأ في الحوار السقراطي، والذي سوف يتحول مع أفلاطون إلى نظرية، أي من ثنائية المتحاورين إلى ثنائية المحسوس/ المعقول. فآفة الميتافيزيقا هي عملها الدؤوب على إثبات عالمين متعارضين، إلا أن العالم الحقيقي ليس في متناول الجميع (أفلاطون، المسيحية) أن لم يكن متعذرا على الكل إدراكه (كانط). يجسد نيتشه ـ حسب الحسناوي ـ فلسفته عبر زارادشت، وهو نص لم يوجه للمتخصصين، ولكنه ليس موجها أيضا للعامة، وهذا هو معنى انه “كتاب موجه للجميع، وليس لأحد”. وهناك من يعتبر نص زرادشت “إنجيلا خامسا مضادا للمسيحية”. فكيف يمكن إذن لكاتب ينتمي للثقافة الناطقة بالعربية أن يحاور فكرا من هذا القبيل وبهذه القوة التدميرية المنتجة؟ تنتمي كتابة مصطفى الحسناوي لطينة نادرة من الكتابة. فهي كتابة منتجة، تمارس الإزعاج، وتمجد الهامش دون أن تسقط في الهامشية، كتابة بمرجعيات فكرية وحياتية متعددة ومختلفة، كتابة منفتحة على أهم روافد الفكر الحديث التي تميز اليوم التيارات الأساسية في الغرب. فإلى جانب ماركس، الذي نجد آثاره السياسية والنقدية والمفاهيمية في نصوص مصطفى الحسناوي، هناك فوكو محاوراً وناقداً ومعمقاً للفكر الماركسي، ودولوز الذي يعتبر من أفضل من كتبوا عن نيتشه وفوكو، والذي صرح في حوار له مع طوني نيكري انه ظل هو وكاتاري ماركسيين مع مراعاة الاختلاف بين ماركسية كل واحد منهما، وهناك أيضا سبينوزا ونيتشه. هناك تماسك قوي في هذه المرجعية فلسفيا وتاريخيا وتناصيا. وهذه من النقاط القوية والنادرة في الكتابة المشكلة للثقافة الناطقة بالعربية، بحيث أن ما يسود هو الخطاب الإيديولوجي المستعمل لمرجعية فردية أحادية. إن هذه القدرة الشخصية على الانفتاح المنتج على آفاق مختلفة متصارعة دون أن تكون متناقضة هو أحد الأسباب الذي يجعل كتابة مصطفى الحسناوي تبدو مستعصية لأنها معادية للكسل والاجترار، إضافة إلى أنه كاتب يصنع لغته، لأنه لا يمكن توليد فكرة وإنتاج مقومات وجودها بدون إنتاج دلالاتها. إن قراءة نيتشه تضعنا ـ كما يقول مصطفى الحسناوي في تمهيد الكتاب ـ أمام متن “فلسفي متعدد ورحال ومخترق بخطوط كثافات لا نهائية، متن ذي طابع شذري غير قار لا تتطلب منا محاورته فقط القدرة على الاضطلاع به، بل أيضا الحذر في التعامل معه لأنه لا يسكن نسقا فلسفيا معلوم الحدود واضح الملامح ولا يستقر داخل مفاهيم من السهل تحديد سلالتها”. المتن النيتشي بالإمكان اعتبار المتن النيتشي الحدث الفلسفي بامتياز داخل تاريخ الفلسفة الغربية. أولا. لأنه اشتغل عند نهايتها محاولا عبر كتاباته قلب الميتافيزيقا وخصوصا قيمها وأطروحاتها الأساسية حتى وإن اعتبر بعض الفلاسفة أمثال هايدغر وأوجين فينك بأنه ظل أسير حقل المشكلات الميتافيزيقية. ثانيا. لأنه دشن وسائل فلسفية جديدة لم تكن مألوفة كالشذرة والقصيدة. لقد ادخل نيتشه للفلسفة وسيلتي تعبير هما: الشذرة والقصيدة. هذان الشكلان يتضمنان تصورا جديدا للفلسفة وصورة جديدة للمفكر والفكر. يعوض نيتشه مثال المعرفة واكتشاف الصحيح بالتأويل والتقويم. الأول يثبت “معنى” الظاهرة الذي يكون دائما جزئيا وشذريا والآخر يحدد “القيمة” المراتبية للمعاني، ويجمع الشذرات دون الحد من تعدديتها أو القضاء عليها. إن الشذرة هي في آن فن التأويل والشيء الواجب تأويله والقصيدة هي في آن فن التقويم والشيء الواجب تأويله هي في آن فن التقويم والشيء الواجب تقويمه، وان المؤول هو الفيزيولوجي، أو الطبيب الذي ينظر للظواهر باعتبارها عوارض ويتكلم عبر الشذرات أما المقوم فهو الفنان الذي يأخذ بعين الاعتبار “المنظورات” ويبدعها متكلما عبر القصيدة. “ان فيلسوف المستقبل فنان وطبيب أي بإيجاز مشرع...” كما يرى دولوز. ثالثا. لأن الاشتغال النيتشي في النهاية تم أيضا داخل الحد الهش بين الصحة والمرض بالشكل الذي جعل منهما تيمتين أو كثافتين فلسفيتين أساسيتين لأن الفكر لم يكن يعبر بالكتابة الفلسفية وحدها، بل والجسد أيضا مشروطا بإملاءات هذا الأخير وفراغاته، بكثافاته وشروخه، الشيء الذي يجعل الكتابة بالجسد لعبة مسرحية شبيه بلعبة الحياة والموت، لعبة ايجابية جدا لأنها تشتغل على قوى تنهكها أحيانا وتمنحها أحيانا أخرى زخما حيويا لا محدودا داخل الحركة نفسها يتم الإنتاج الفلسفي للقوة، ادخل الحركة حيز الفلسفة، واعتبار الحركة نفسها عملا فلسفيا يتجاوز التجريد الذي طال هذه الأخيرة مع المثالية الهجلية. داخل هذه المسرحية الايجابية، لعبة الصحة والمرض، يتم ابتكار الهزات والترحيلات وأنماط الرقص القفز والركض واعتبار الحركة الفلسفية مسالة مسرحية بامتياز. بهذا المعنى يرى دولوز بأن أفكاراً فلسفية كهذه لا يمكنها أن تصدر إلا عن رجل مسرح لأنها فكرة مخرج مسرحي سبق زمنه. بهذا المعنى يعتبر أن شيئا ما جديدا كلية بدأ مع نيتشه لأنه لم يعد يفكر في المسرح على الطريقة الهيجلية، بل ابتكر داخل الفلسفة معادلا للمسرح غير قابل للتصديق وأسس تبعا لذلك مسرح المستقبل ذاك الذي هو في الآن نفسه الفلسفة الجديدة. إن نيتشه أحد أهم الفلاسفة الغربيين الذين اشتغلوا وفكروا عبر شخصيات مفاهيمية، كما يسميها كل من دورلوز وغاتاري في كتابهما “ما هي الفلسفة؟”، أمثال (زرادشت، الإنسان المتفوق، ديونيزوس، المسيح الدجال،... إلخ) وعبر حيوانات مثل (الثعبان، النسر، الجمل، الحمار... إلخ)، وفي مناطق متعددة قصوى (أعالي الجبال، الكهوف، المتاهة)، المناطق التي تبزغ فيها الحقائق الراقية والعميقة مناطق الفكر الاستوائية المسكونة بالإنسان الاستوائي لا تلك المعتدلة التي يسكنها الإنسان الأخلاقي المنهجي والمعتدل وفي أزمنة تخومية قصوى أيضا (منتصف الليل، الزوال... إلخ). إن الأهم في هذا المسرح النيتشي وعبر التعدد المميز لمكوناته، هو صهر الأفكار في بوتقة فكرية ومنحها قوة مرعبة وإدخالها حيز اختلافات مذهلة تجعلها تمارس القفز والرقص الديونيزوسيين. إن المسرح بالنسبة لنيتشه هو الحركة الفعلية والفلسفة بالذات وليس الفيلسوف أكثر من مخرج مسرحي. يرى دولوز في هذا السياق بأن “هكذا تكلم زرادشت” مركب كلية داخل الفلسفة، لكنه مركب أيضا من جل الركح المسرحي لأنه مليء كله بالأصوات والرؤى ومخترق بحركات متعددة سائرة وراقصة، إذ كيف يمكن قراءته دون البحث عن النبرة الصحيحة لصرخة الإنسان السامي، وكيف يمكن قراءة المقدمة دون إخراج البهلوان الذي يفتتح الحكاية كلها اخرجا مسرحيا؟. ضمن هذا السياق أيضا يمكن إدخال اهتمام نيتشه بالأقنعة قبل الوجوه وبالأطياف والأشباح قبل الشخصيات وبالحركات التي تتبلور قبل الأجساد. إن مسرح نيتشه الفلسفي يشتغل بلا وسائط كالتمثلات المتعالية وبلا مفاهيم مجردة كما هو الحال عند هيجل بل عبر قوى خالصة وخطوط تم رسمها في الفضاء كخطوط دينامية زلزالية تفتح الفكر مباشرة على الطبيعة والتاريخ. لذا يسميه أوجين فينك الفيلسوف المقنع الذي يجبرنا على اتخاذ قرارات نهائية مادام هو نفسه علامة استفهام كبرى ومرعبة مرسومة على الطريق. إن اسمه مرتبط بنقد جذري للدين والفلسفة والعلم والأخلاق، كما أن معركته تأخذ شكل النقد الواسع للثقافة”. ويضيف الأستاذ مصطفى الحسناوي “إن عمل نيتشه الفلسفي شأن الأعمال الكبرى تظل إلى حد ما غير مفهومة دوما ومثيرة للكثير من التأويلات المشوهة أو الخاطئة ومن سوء الفهم، ذلك لأن من الصعب أمام نيتشه وفلسفته مقاومة ذلك النزوع المزدوج المتمثل إما في البحث عن ذرائع للقضاء على الأسئلة المرعبة التي يطرحها، وإما في إخضاع كتاباته لأحكام قيمة مسبقة ذات بعد مذهبي إيديولوجي أو متعلقة بفانتازمات شخصية. لكن ما يهمنا هنا، عبر الاشتغال على تأويل بعض كتابات نيتشه الفلسفية هو أساس محاولة الإمساك بالدينامية التي ينهض عليها فكره انطلاقاً من الكتابات ومعها، وعبر الإنصات لبعض التأويلات الأساسية لها وخصوصا عبر الإنصات للفيلسوف الذي سبر غور القمم كلها. إن كتاباته، ومهما كانت فاعلية التأويل، ستظل بانتظارنا”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©