الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حب عابر للقلوب

حب عابر للقلوب
16 أغسطس 2012
بقدر ما تنشغل رواية الكاتبة الأمريكية نادين غورديمر “بلد آخر” بموضوع الحب الذي ينشأ مصادفة وسريعا (الحب من النظرة الأولى) بين الفتاة الأميركية جولي والميكانيكي المهاجر عبدو، فإنها تطرح مشاكل الهجرة إلى أميركا وما يعانيه المهاجر مع قانون الهجرة الأميركي من خطرالترحيل، إضافة إلى تعرية الواقع الحقيقي للمدينة الأميركية في ظل هيمنة علاقات المجتمع الرأسمالي على الحياة فيها. تلتقي بطلة الرواية جولي نايجل بالشاب المهاجر العربي عبدو في مكان غريب هو ورشة لتصليح السيارات بينما كان يقوم بتصليح سيارتها. وعلى الرغم من هيئته التي يظهر بها إلا أنها تشعر بانجذاب نحوه خاصة بعد ترددها على المكان خلال الفترة التي استغرقها إصلاح سيارتها. تنحدر نايجل من عائلة ثرية لكنها تتخلى عن أسرتها وتعيش وحيدة حيث تعمل في شركات الإعلان والدعاية وترتبط بعلاقات حميمة مع مجموعة من الأصدقاء تلتقي بهم في مقهى آل. أيه. كافيه حتى تحولوا إلى عائلتها الحقيقية. هجرات متواصلة منذ البداية تكشف الرواية عن مشكلة الشباب العربي المهاجر بحثا عن فرصة للعمل وتأمين حياته حيث تنعدم تلك الفرصة في بلده، فيمضي متنقلا من بلد إلى بلد بحثا عن تلك الفرصة حتى ينتهي به المقام في أميركا، إلا أن انتهاء الفترة الممنوحة له تجعله مجددا مطالبا بمغادرة البلاد خلال أيام بعد أن تناسته أجهزة الهجرة هناك أكثر من عام، ما يدفع جولي لاستخدام كل الوسائل القانونية الممكنة من أجل إلغاء هذا القرار والحصول على الإقامة مجددا لكن دون جدوى. عبدو أوعبد الرحمن يحمل شهادة جامعية في الاقتصاد لكنه يفشل في الحصول على وظيفة في بلده فتكون الهجرة هي وسيلته للبحث عن تلك الفرصة، وعند قدومه إلى الولايات المتحدة لا يجد سوى فرصة العمل كميكانيكي في إحدى الورش الصغيرة، حيث يتخذ من مكان صغير ومتواضع جدا بيتا يعيش فيه حتى يلعب القدر لعبته ويتعرف إلى صديقته جولي التي تتحول قضية عبدو إلى قضيتها، بعد أن تطلب منه الانتقال إلى منزلها والإقامة معها (المكيانيكي يحمل شهادة جامعية في الاقتصاد من هناك (من جامعة لم يسمع بها أحد هناك) لكن لا أمل بالنسبة إليه على الإطلاق “ذلك البلد جحيم حقيقي لسبب لا يعلمه إلا الله على الأرجح الانقسامات الدينية والسياسية التي ينتمي أو لا ينتمي إليها أو بسبب افتقاره إلى المال لكي يرشو الأشخاص المناسبين في الحصول على أي وظيفة كانت”. إن مأساة هذه الشخصية التي تمثل مأساة الكثير من الشباب العربي وشباب البلدان النامية ترسم صورة مريرة للمعاناة التي يعيشها هؤلاء الباحثون عن فرصة للحياة بعيدا عن أوطانهم التي تركوها مكرهين ليواجهوا ظروفا صعبة دون أن يستطيعوا الاستقرار أو الحصول على الأمان، وهو ما تحاول الرواية أن تعرضه من خلال معاناة بطل الرواية مع قوانين الهجرة الأميركية ومسيرة انتقاله من بلد إلى آخر بحثا عن العمل والاستقرار. الحب والحلم الأميركي يلعب القدر لعبته مع بطل الرواية من خلال لقاء الصدفة الذي يحدث بينه وبين بطلة الرواية جولي وعلاقة الحب التي تنشأ فجأة بينهما، ما يقود إلى حدوث تحول كبير في حياته تجلى في انفتاحه على حياة المجتمع الأميركي وانخراطه فيه بعد أن تعرّفه إلى مجموعة أصدقائها في المقهى، وتطلب منه الانتقال للعيش معها في منزلها. “تشعر بأنها تعرفه (الرجل الغريب عنها) الذي خرج إليها ذات يوم من تحت أحشاء سيارة بائسا بابتسامته الرائعة، مبجلا بطريقة تعلمها في حياة تجهلها، مثل اسمه. شلتها، أصدقاؤها، أخواتها، وإخوتها، إنهم الغرباء وهو المألوف”. لكن هذا التحول المفاجئ في حياته سرعان ما يصطدم بانكشاف أمر إقامته المخالف ومواجهة خطر الترحيل خلال أيام، الأمرالذي يجعل جولي تستبسل في البحث عن مخرج قانوني لمشكلته بعد أن أصبح من المتعذر عليها الحياة دونه، لكنها تفشل في جميع محاولاتها ما يضطرها للسفر معه والإقامة معه في بلده الأصلي حتى تستطيع الحصول له على موافقة للإقامة له مجددا في أميركا فتعود معه ليبدآ حياتهما هناك من جديد. لقد استطاع الحب أن يحقق له حلمه بعد أن عجز عن تحقيقه عبر محاولات سفر متعددة إلى بلدان كثيرة كانت تنتهي دائما بالخيبة والرحيل عنه مجددا. لم يكن هذا الحب الغريب الذي نشأ مصادفة يحتاج إلى مقدمات أو تمهيد إذ لعب القدر دوره الحاسم في توطيده على الرغم من التباينات الاجتماعية والثقافية بينهما، حتى إن جولي تسافرمعه إلى بلده وتقيم معه هناك حتى يحصل على موافقة جديدة للإقامة في أميركا، الأمرالذي يجعل من الحب بوابته لتحقيق حلمه والاستقرار في العالم الأميركي المثير. تتميزالرواية ببنيتها السردية الواقعية التي تظهر عبر جملة الاستهلال أو العتبة المكانية وحركة السرد الصاعدة والمترابطة، حيث تكشف جملة الاستهلال عن الانشغال بالوصف الدقيق للمكان من خلال استخدام التصوير المشهدي الذي تتحرك فيه عين السارد أشبه ما تكون بحركة الكاميرا التي تعنى بتصوير طبيعة الحياة التي يعجُّ بها المكان بكل تفاصيلها بغية إعطاء القارئ صورة عن طبيعة الحياة في هذا المكان الذي ستجري فيه أحداث الرواية، لا سيما على مستوى الحياة الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية التي تسم حياة الناس فيها. وإذا كان خطر الترحيل الذي يواجهه بطل الرواية يسهم في تصعيد الخط الدرامي لأحداث الرواية، فإن البحث عن مخرج من هذا المأزق يكشف عن عالم المدينة الغريب الذي ينقسم إلى عالمين بحكم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تحكم المجتمع الرأسمالي، هما العالم الظاهر الذي تجري فيه الحياة الطبيعية، وعالم القاع الذي يعيش فيه المشردون والجريمة والهاربون من القانون وذلك عندما تقترح عليه شخصية الشاعر الفوضوي اللجوء إلى هذا المكان والاختباء فيه أثناء مناقشة مجموعة المقهى لمشكلته وبحثها عن حل لها. يلعب الحوار الذي يجري بين شخصيات الرواية دورا مهما في الكشف عن الجوانب المختلفة من الحياة السياسية والاجتماعية في المجتمعات التي وفدت منها تلك الشخصيات، إضافة إلى الإضاءة على واقع الحياة وتبايناتها الكبيرة بين عالم الضواحي والأحياء الفقيرة، في حين تتميز لغة الرواية بالرشاقة والشاعرية والتكثيف الذي يسهم في تسريع حركة السرد وتعزيز جمالياته عند المتلقي خاصة وأنها تتناول موضوع الحب والعلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة خارج إطار كل الموانع التي يمكن أن تخلق مسافات فاصلة بين البشر بسبب تباين ثقافاتهم وهوياتهم الاجتماعية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©