السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تجليات حروفية

تجليات حروفية
16 أغسطس 2012
ما يستوقف المرء عند زيارته المعرض السنوي للخط العربي الذي تنظمه جمعية الإمارات للفنون التشكيلية في مقرها بالشارقة (يختتم نهاية الشهر الجاري)، ليس كثرة الأعمال المعروضة (50 لوحة)، ولا عدد الخطاطين والحروفيين المشاركين أو جنسياتهم المتعددة؛ لكن الإشارة المضمنة في بوستر المعرض والتي تفيد ان الدورة الحالية هي الدورة الحادية والثلاثين، أي ان الجمعية ظلت حريصة على هذا الموعد السنوي منذ تأسيسها سنة 1981، قبل أكثر من ثلاثة عقود. لا نعرف كم عدد الفنانين الذين استضافهم هذا المعرض منذ دورته الأولى، ولا نسبة أو نوعية أعمالهم، لكن ما لا شك فيه ان هذا المعرض هو الأعرق والأكثر استمرارية واستقرارا في الوطن العربي. لا شك انه خلال هذه السنوات أسهم كثيرا في تقديم المزيد من الخطاطين إلى الساحة الفنية المحلية والعربية كما انه كسب مع الوقت المزيد من المتلقين الجدد إلخ.. وبالتالي، يمكن القول، ان هذا المعرض لعب دورا كبيرا في إعادة الاعتبار للخط العربي الذي كان بدأ يفقد موقعه. وفي هذا السياق لا يمكن إغفال الدور الكبير الذي أسهمت به المعارض والندوات التي بذلتها إدارة الفنون في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة وقصدت من خلالها الاحتفاء بهذا “الفن العربي” العريق، ومن تلك الأنشطة نشير إلى “ملتقى الشارقة للخط” الذي لا يكتفي بعرض أعمال الخطاطين القادمين من أنحاء العالم، ولكنه ايضا يحتفي بهم ويكرمهم، هذا إلى جانب انه ينشر كافة البحوث المقدمة عبره ولعل ما نشره من أبحاث وكتب لحد الآن يعتبر من المصادر العربية الحديثة الأكثر أهمية في هذا الجانب. وقد اتصل اهتمام الشارقة بالخط العربي فأسست له مركزاً تعليمياً واستضافت مجموعة من مبدعيه في “بيوت الخطاطين”، ومعظم الأعمال في هذا المعرض الأخير الذي تقيمه الجمعية هي لطلاب المركز وأساتذته. مؤشر ولعل مما له دلالته في هذا السياق ان دورة العام الحالي تشهد مشاركة 20 خطاطا وحروفياً، وتعتبر هذه النسبة أعلى من السنة الماضية كما ان عدد اللوحات المعروضة أكبر بكثير من تلك التي عرضت في الدورة الفائتة، وهذا مؤشر على ان المعرض يزيد إلى رصيده من الفنانين والأعمال سنوياً، ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة كونه يتصل بضرب من الأداء الفني جمهوره هو الأقلّ، فالخط هو فن عربيّ إسلامي، بمعنى انه غير رائج في أوروبا التي ألهمت المشهد الفني العربي بالتجارب والتيارات والنظريات إلخ.. أي انه يتحرك في نطاق ضيق لا يتجاوز الفضاء العربي الاسلامي، كما ان نسبة المشتغلين به عربيا هي الأقل مقارنة بالفنون الأخرى إضافة بالطبع إلى حقيقة ان هؤلاء المشتغلين به واجهوا ظرفاً عصياً في علاقتهم بالسوق وخصوصاً مع ما بات يتيحه الكومبيوتر من إمكانات وحلول بعد استنساخه كل أنواع الخطوط. وفيما ما يتصل باللوحات المعروضة في المعرض الحالي فإنها تبدو متسقة مع روح الشهر الفضيل إذ اشتغل أغلبها على آيات قرآنية وأحاديث نبوية، بخاصة اللوحات الخطية أما الأعمال الحروفية فجاءت ملفتة بجرأتها في الاشتغال على الحرف، هندسة وتلويناً، وتلفت هنا أعمال العراقي زيد أحمد أمين الموسومة بـ “فراغ الحروف”، اذ انها تقدم الحرف، عبر خط الثلث، في حالة تشكيلية موحية بمرونته وسهولته الحركية سواء كان مستغلا أو في علاقته بحروف أخرى، يحدد أمين الفراغات ما بين الحروف باستخدام الفرشاة إذ يطبعها باللونين الأزرق والأحمر بتدرجاتهما المختلفة لتتجلى الحروف في هيئة متداخلة سميكة وكأنها منحوتة! تتشابه الأعمال الثلاثة لأمين بخاصة في ألوانها وكأنها قطعة واحدة في الأساس وهو شاء عرضها بثلاثة مستويات، لعله أراد ان يركزها في انطباع الملتقي.. حتى في حجم إطاراتها تبدو اعمال أمين أكبر قياساً إلى بقية الأعمال الأخرى المعروضة في الصالة، ولكنه يبرر ذلك قائلا “ان العمل الفني يبرز أكثر عندما يحتل فضاء أوسع، هنا تبرز جرأة الفنان وثقته بنفسه”. فضاء وفي “حروفيات” المصري حسام عبد الوهاب والعراقي مصعب الدوري والإيراني محمد مباتي تبدو الحروف في تشكيلاتها الهندسية المختلفة مغموسة في اللون بل هي موزعة في فضاء لوني كثيف يبدو غالبا على اللوحة أكثر من الحرف، وهو يستحوذ نظرة الرائي بقوته وعمقه منذ الوهلة الأولى. لا تقدم اللوحة الحروفية معنى محددا ولكنها تفتح ذهن المتلقي على احتمالات تأويلية شتى عبر خياراتها اللونية بخاصة إذ كان الملتقي عاديا أي ليس فنانا متخصصاً، فالفنان المتخصص ينظر إلى المقادير التي اعتمدها الخطاط في خطه، وزنا وسمكاً وميلاً واستقامة، وعلى ضوء ذلك يقيس المسافة بين التجويد القائم على محاكاة السابقين، والإبداع المتجاوز لخبرة الماضي. ومن القطع الملفتة ايضا في هذا الاتجاه أعمال المصرية سمية علي إذ بدت أقرب إلى الرسم منها إلى الخط، ففي لوحتها “للقمر ضياء” تحفر على اللوحة دائرة قمرية بين السطوع والخفوت وتحيطها بدكنة متدرجة ومن أعلى يتدلى خيط ملون من الحروف الملونة لا يحيط بالقمر مثل غلالة ما ولكن يتدلى بجانبه. أما الأعمال الثلاثة التي انجزها الخطاط السوري محمد فاروق الحداد فتقدم نموذجاً ساطعاً على الإجادة، فرهانها هو تمثل وتمثيل القواعد الكلاسيكية للخط، فهي تستند على آيات قرانية مثل “وإن تعدوا نعمة الله” و”أقرأ” و”إن ربي رحيم ودود” وتعرضها عبر خط الديواني الجلي في تكوينات جمالية تبدو بسيطة اذ تعتمد تشكيلاتها هيئة الوردة أو غصن الشجرة، ولكن ربما هذا أقصى ما يمكن ان يكون ممكناً في حال شاء الخطاط ان يكون وفياً للقواعد، فأي إفراط في التشكيل يمكن ان يطمس الآية أو الجملة أو العبارة، ومن وهنا وجب العمل في هذه الحدود البسيطة لكن الملهمة ايضا؛ فحين تنظر إلى لوحته المستندة على الآية “إن ربي رحيم ودود” تراها في هيئة زهرة “خط الثلث الجلي” فكانت الأوراق بداية الآية الكريمة “إن ربي رحيم” وجاءت كلمة “ودود” على هيئة زهرة بالأحمر فبدا العمل في نهاية الأمر متشكلا من اللونين الأحمر والأخضر متكونا من قاعدة ورأس أو من غصن ووردة اما الغصن فضمّ في اوراقه “ان ربي رحيم” وصعدت كلمة “ودود” في هيئة وردة. حيلة مماثلة استخدمها العراقي عدي الأعرجي إذ خط الآية “وفوق كل ذي علم عليم” عبر الخط “الديواني الجلي” في هيئة ورقة شجر فجعل “عليم” في الجزء الأعلى من الورقة دلالة على الارتفاع أو العلو فيما جعل توزع بقية الاية وسط وأدنى الورقة. زخارف اما أعمال الخطاط الإماراتي علي الأميري فضمت لفظ الجلالة “الله” على ورق البردي وهي بالخط المغربي الحديث وعلى شكلين يجمع بين الخط الجلي الديواني والخط المغربي الحديث، وبلون أسود يعطي اللوحة جمالية الخط وبأرضية ورق البردي الحليبية، إضافة إلى لوحة تحمل اسم المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان متوسطاً دائرة زخرفية ذات تفاصيل دقيقة، وطبع الأميري الاسم بألوان العلم الإماراتي وهي بخط الجلي الديواني وقد وضع الاسم في حلية زخرفية إسلامية دائرية، والالوان ذاتها استخدمها في خطه اسم “دبي” وقد نفذها على شكل قلب بخط بين خط الثلث والحر، مما يعطي حرية التعبير، ولم يدخل فيها الزخارف حيث كانت الدال والباء على شكل قلب، أما الياء فقد كتبها بخط الثلث على شكل بساط أخضر من الحشيش دلالة على الاستقرار والنمو من خلال رمز العشب الأخضر. وجاءت لوحته الرابعة على شكل هلال بالخط الديواني والجلي الديواني، ونفذها على ورق مقوى وبها حلية مزخرفة على شكل هلال. “الحلية الشريفة” هو أحد أعمال الخطاطة الإماراتية جميلة خالد وهي عبارة عن لوحة تحمل صفات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد تشكلت من مربعات ودوائر هندسية كما ضمت أنواعا مختلفة من الخطوط. ولجميلة عمل آخر وهو عبارة عن سطر ديواني وخطت عبره “انما يريد الله....” الآية. وفي عملي فاطمة جوري من الإمارات يلفت شغلها على “البسملة” إذ خطتها بالخط الكوفي في شكلين هندسين متناظرين، ويبدو اللون الازرق المتدرج لافتاً في عمل المصري خليفة الشيمي “شغلت قلبي عن الدنيا” على رغم من انه نثر المقطع الشعري في ترددات عديدة في فضاء اللوحة؛ وللخطاط المصري عمل آخر بعنوان “ابتهال”. ثمة ايضا اعمال حاكم غنام وخالد نفيسي وعبدالرزاق المحمود علي الحمادي وندى الباقر وهيا الكتبي ومنيب أحمد وفاطمة محمد ومؤمن الشرقاوي واميد رباني، وهي تقدم الخط العربي بصيغ خطية وتشكيلية ولونية متنوعة وعلى نحو يدل على ان هذا الفن يعيش افضل أيامه في الوقت الراهن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©