الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الوعي الزائف... ووهم المؤامرة

16 أغسطس 2012
لا يعني رفض ما يسمى بنظرية المؤامرة أن كوكبنا الأرضي نظيف وخال من المؤامرات والمكر والدسائس، ولا يعني أنه لا توجد مؤامرات ومخططات بين الدول والمجتمعات والأفراد والأحزاب، نعم، توجد مؤامرات وصراعات دولية وأطماع واستراتيجيات مصلحية لهذه الدولة أو تلك القوة الكبرى، ولكن ذلك يكون محكوماً بمنطق المصالح المتبادلة، وخاصة في عالم اليوم الذي لا تحترم فيه الدول والقوى إلا بمقدار ما تنتجه وتقدمه وتتفوق به على غيرها من الدول، فلا مكانة ولا احترام للمتخلفين والمتقاعسين من الدول والحضارات حتى لو كانت لها في يوم ما سيادة وألق كبير. كما أن هناك فرقاً بين أن تلغي أمة بأكملها دورها وفعلها التاريخي المطلوب بناء على احتلال الفكر والعقلية المؤامراتية لكل مواقعها وأدوارها، وبين أن تعمل الأمة -من خلال ما تختزنه من إمكانات وطاقات هائلة- على مواجهة تلك الدسائس والمؤامرات بالعقل النقدي الخلاق المنفتح، القادر على بناء منهجية نقدية واضحة المعالم والرؤى والأهداف، بما يحتم مراجعة الأوضاع دائماً على مستوى الذات والموضوع. ولعل أكثر الدول قناعة بهذه الفكرة، أي فكرة "المؤامرة"، وشكوى منها، أكثرها تخلفاً وفقراً وفساداً واستبداداً.. وهي لا تجهز مجتمعها لمواجهة مؤامرات الخارج من خلال إعطاء الناس حقوقهم، وبناء مجتمعات تنموية قوية، وإشعار الناس بوجود كرامة حقيقية لهم. وكثيراً ما نجد أن دعاة التيار الإسلامي بالذات يتعيشون على تلك الفكرة، إلى جانب دعاة القومية العربية، حيث نجد أن هؤلاء لا يزالون يصارعون الغرب، ويتهمونه بأنه مسؤول مباشرة عن فساد ودمار وتأخر هذه الأمة العربية والإسلامية، وأنه (أي الغرب) هو العقبة الكأداء الباقية أمام تطورها وعودتها لإسلامها ومجدها العظيم، ومنع أي محاولة واعية للنهوض والتقدم والنمو، ومواجهة أية إمكانية لإقامة وحدة عربية أو إسلامية فيما بين شعوب المنطقة. ويزداد غضب الدعاة الإسلاميين على الغرب وكل ما أفرزه وأبدعه خاصة العولمة ويصفها كثير من هؤلاء بأنها مؤامرة خبيثة يراد منها غزو شبابنا وشعوبنا وإلهاؤهم عن دينهم وثقافتهم والتزاماتهم وواجباتهم. وهذا الخطاب الديني المتوتر والمتشنج يحاول بهذه الطريقة كسب المؤيدين له، واستمداد شرعيته من زرع مثل هذه الأفكار الوهمية في عقول الناشئة الباحثة عن معنى لوجودها في ساحة الحياة خاصة بعد فشل العديد من السلطات القائمة في بعض الدول العربية في إيجاد حلول عملية لمشاكلها من بطالة وعطالة.. وغيرها.. وهذا الخطاب للأسف يعيش على الفوضى ومنطق الأزمات، ومناخات التناقض، ويقتات على فكرة المؤامرة ونظرية التآمر الخارجي مثل نظيره التيار القومي (العلماني!)، يتقوى بها ليشد من عضده في مواجهة ضعفه وعدم قدرته على تقديم حلول عملية لمشاكل الشباب العربي المعاصر. ولا يلاحظ -إلا فيما ندر- من أتباع هذا الخط ومن داخل هذه التيارات الدينية بالذات، وجود عقلية نقدية تهتم بدراسة حالة الذات والداخل قبل تحليل حالة الموضوع والخارج.. بحيث تعترف -تلك العقلية النقدية في حال وجدت- بوجود أخطاء وقصور، وتحاول أن تحمّل جزءاً من مسؤولية الفشل في إدارة وتدبير شؤون الناس والشباب على عاتق الفكر الديني ذاته قبل تحميل الغرب المسؤولية عنه. وربطاً بفكرة المؤامرة هناك فكرة أخرى لا تزال تهيمن على ساحتنا الثقافية والسياسية وهي أننا كعرب ومسلمين أصحاب ماضٍ حضاري زاهر لابد من العودة إليه، ومحاولة نقله إلى الحاضر، أو على الأقل إبرازه دوماً والتغني به، بما يعطينا فكرة عن أن هناك قسماً كبيراً من أبناء مجتمعاتنا لا يزال أسيراً لهذا النمط التفكيري من الوعي الزائف القائم على وجود فكرة تقول بإمكانية العيش في الماضي أو نقل تجربة الماضي -بعد تنقيحها!- إلى الزمن المعاصر. ولا شك أن هذه الفكرة -التي لها جذورها ودعاتها والمدافعون عنها حالياً خاصة من أبناء وأتباع التيارات الإسلامية- نتجت عن هيمنة الثقافة التاريخية الموروثة منذ زمن الحكم والخلافة الإسلامية الأولى، من خلال وجود عادات وتقاليد وقيم ومفاهيم وتصورات فكرية متوارثة لم يتم تجديدها أو نقدها، لا تزال قطاعات واسعة من شعوبنا تتبناها وتتشربها وتشربها لأجيالنا اللاحقة، بما يفضي إلى هيمنتها علينا وعليهم، ويجعلها تتحكم بمساراتنا ومحدداتنا وممارساتنا العملية في الحياة. ولهذا يمكننا أن نقرر هنا بأن الثورات لن تنجح في بناء دول ديمقراطية حديثة تُتَداول فيها السلطة بصورة سلمية دورية، ما دامت القناعة بتلك الأوهام أو الأفكار الوهمية معششة في العقول والسلوكيات، وخاصة القناعة الراسخة بفكرة المؤامرة كنظرية ثابتة للأسف في عمق تفكير مجتمعاتنا. وبالتالي فلا أمل كبير في حدوث نهضة أو تنمية حقيقية، ما دام الفكر المؤامراتي يحظى بهذه المكانة العالية لدى تيارات عريضة على مستوى النخب والأحزاب (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار)، حيث يمكن أن نرى كثيراً من هؤلاء لا يزالون يستغرقون في حديثهم السلبي عن تلك النظرية من على المنابر الفكرية والعلمية والتعليمية، على رغم أن تلك الثورات ذاتها -عندما انفجرت- قد أصابت فكرة المؤامرة في مقتل، وكانت -في أحد معانيها وتعبيراتها- رداً حاسماً على تلك الفكرة، وإعلاناً مدوياً على تهافتها وبالتالي سقوطها. نبيل علي صالح كاتب من سوريا ينشر بترتيب مع مشروع «منبر الحرية»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©