الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كازانوفا.. رامبو الشعر الإسباني

كازانوفا.. رامبو الشعر الإسباني
10 فبراير 2010 19:18
بعض المواهب الأدبية والفنية تصيب النقاد والجماهير بدهشة وحيرة على السواء، خاصة عندما يكون الإبداع الذي تقدمه تلك المواهب سابقا لعمر من أبدعها وفي الوقت ذاته سابقة للعصر الذي جاءت فيه، وكلنا نذكر مواهب فذة مثل الشاعر الفرنسي “رامبو” الذي كتب الشعر مبكراً ورحل مبكراً ليترك من خلفه من يتكهن بأن رحيله ربما كان نتيجة لإبداعه المتميز مبكراً، لقد قدم ما أمكنه أن يقدمه ورحل مبكراً ولو بقي ما قدم جديداً، وأيضا الفرنسي الآخر “بودلير” الذي كتب مبكراً ولكنه توقف مبكراً ليترك الموهبة جانبا ويعمل في أعمال مناقضة تماما لما برع فيه، فقد أضاف إلى الشعر العالمي عبر اللغة الفرنسية ما لم تقدمه أجيال كاملة، وتوقف مبكراً كما لو كان يعلن أنه جاء ليترك بصماته على طريق الإبداع الإنساني وعلى النقاد والجماهير أن يتعاملوا مع ما أبدع وليتركوا ما لم يبدعه بعيداً عن أي تكهنات. يكفي انه قدم الجديد ومن خلال لحظات خاطفة كالبرق يلمع في السماء فجأة ثم يختفي تاركا دويه الصوتي لمجرد لفت الانتباه إلى انه كان هنا ومضى. سياق عبقري كالبرق اللامع في سماء الإبداع الفني في اللغة الإسبانية مرت أسماء كثيرة على هذا النحو، وتركت في سنوات قليلة إبداعاً بقي دويه حتى بعد عقود من رحيلها، ومنها ما يدوي إبداعه من وقت لآخر مذكرا بأنه مر من هنا ولكنه باق ولن تمحى آثاره بسهولة. وإذا كان الشاعر الغرناطي “فيدريكو جارثيا لوركا” يعد من أبرز من تنطبق عليهم هذه الأوصاف، ولا يزال دوي برقه يرعد من وقت لآخر رغم مرور أكثر من سبعين عاما على رحيله المأساوي، فإن إسبانيا تتذكر هذه الأيام عبقرية أدبية أخرى، وان كان إبداعها قليل، مجرد مجموعة من الأشعار، ورواية واحدة “موهبة فوراثي” إلا إنها من تلك المواهب التي يقول بعض النقاد إنها برق يضيء وسرعان ما يختفي تاركا وراءه رعودا لا تنتهي بخفوت الضوء، وتتجسد تلك الموهبة في الشاعر الطفل “فيلكس فرانثيسكو كازانوفا” المولود في العام 1956 بجزيرة “لا بالما” إحدى جزر أرخبيل الكناري الشهيرة، ورحل عام 1976 أي في التاسعة عشرة من عمره، وكان رحيله مأساوياً بكل المقاييس، الموت اختناقاً بالغاز تحت مياه الدش المندفعة على جسده بحمّام بيت الأسرة، وهناك من رأى أن هذا الرحيل “انتحار” وهناك من وصفه بأنه مجرد “حادث مأساوي”. وأيا كانت الحقيقة فإن هذا المبدع كان يجب أن يرحل مبكراً، كما علق أحد النقاد الذين اطلعوا على ما خلفه من قليل الإبداع، لأن مولده وتربيته وأسرته كانت تشي بهذا النبوغ المبكر والرحيل المبكر أيضا. فقد كان “فيلكس فرانثيسكو كازانوفا” ابن لأب يعمل طبيباً للأسنان ولكنه في الوقت نفسه كان شاعراً معروفاً بغرابته، وأي أمر غير عادي ينبع من الشاعر الطفل ما كان يمكن أن يقابل بالدهشة، فهو الطبيب والشاعر الغريب الذي يسير في شوارع مدينته الصغيرة مرتدياً حلته الكاملة الأنيقة، ويضع في جيب سترته “جوربا” بدلا من المنديل التقليدي الذي يتزين به معظم المتأنقين، وكانت أمه شهيرة بجمالها اللافت وعشقها للموسيقى، كانت تقضي الساعات الطوال تعزف على البيانو بلا توقف، ويتجمهر الناس بالقرب من بيتها للاستمتاع بعزفها والأمل في تكحيل عيونهم بالجمال الأسطوري الذي ورث ابنها الشاعر الطفل شيئا منه. قصائد أولى مبكراً بدأ الشاعر الطفل “فيلكس فرانثيسكو كازانوفا” يراسل العديد من المجلات بقصائد مدهشة للنشر، أو مبدياً ملحوظات حول نوع معين من الموسيقى، ولم يكن أحد يلتفت إلى حداثة السن، ومؤخراً قررت إحدى دور النشر المعروفة أن تعيد نشر روايته الوحيدة “موهبة السيد فوراثو” في ذكرى رحيله المبكر والمأساوي، لتعيد صوت الرعد الذي خلفه البرق قبل أربعة وثلاثين عاما، خاصة أن الرواية لها دلالة تشير إلى المؤلف العبقري، فقد كتبها خلال أربعة وأربعين يوما فقط، وتتناول النهاية المأساوية لبطلها الذي فشل في الانتحار عدة مرات لأسباب مختلفة فاعتقد أنه مخلد في الحياة وبدأ يمارس حياته تحت هذا التأثير، والمدهش أن الرواية تنتهي نهاية مفتوحة تدعو إلى التأمل، ومن يعيد اليوم تأملها كأنه يكتشف أنه أمام حياة المؤلف التي انتهت بإحدى محاولات بطلها في الانتحار. ومن يطالع ما تركه “فيلكس فرانثيسكو كازانوفا” من شعر يجد نفسه أمام موهبة فذة غريبة تبدع في كل شطرة ما يضيف إلى الشعر ولا يمكن الرجوع بها إلى أي مرجعية في أي إبداع، وكان إبداعه جديدا ويصف ملامح جديدة من الحياة لم يلتفت إليها احد من قبله، وما نشره من إشعار مبكرا كان له تأثيره السحري حتى أن جماعة موسيقية من بلاد الباسك بشمال إسبانيا كانت تستلهم قصائده وتضع لها الموسيقى دون أن تعرف عنه سوى تلك القصائد. جائزة مرفوضة ومن ابرز قصائده التي تغنت بها مجموعات غنائية عديدة في إسبانيا وخارجها تلك التي نشرتها دار نشر “هيبريون” تحت عنوان “الذكرى المنسية” والتي يقول فيها: “أحيانا، عندما يهبط الليل بظلامه الكابوسي اجلس أمام كابينة تليفون عام أتأمل الأفواه التي تتحدث، إلى آذان بعيدة في الطرف الآخر وعندما يذوب جليد الوحدة ويأتي الكناسون لتنظيف الشوارع في حزن وتأخذ النجوم أماكنها في السماء امسح على سماعة التليفون وأهمس فيها دون أن ضع نقودا” ومن مواقفه الغريبة في الحياة انه عندما كان في السادسة عشرة من عمره قررت لجنة أدبية مستقلة أن تمنحه جائزة “خوليو توفار” التي تعتبر من أهم الجوائز في تلك الجزيرة التي يقيم فيها بعد نشره لقصيدة “الصوبة الشتوية” بدلا من الفرح الطفولي بتلك الجائزة التي يطمح إليها كبار الشعراء، أعلن عن رفضه وتخليه عن كل ما كتب من أشعاره المنشور منها في الصحف وغير المنشور، ولم يمكن إنقاذ سوى بعض القصائد التي تم جمعها في كتيب صغير بالتعاون مع والده طبيب الأسنان والشاعر غريب الأطوار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©