الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

كتابةُ الشعرِ فعلُ مقاومة.. ورفض العدوان موقف إبداعي

كتابةُ الشعرِ فعلُ مقاومة.. ورفض العدوان موقف إبداعي
13 سبتمبر 2014 00:03
أنور الخطيب كتابة الشعر فعلُ مقاومةٍ لكل أشكال الهيمنة والاستلاب والمصادرة والاحتلال المادي والمعنوي، وكتابة الوطن أرقى أشكال المقاومة إنسانياً وإبداعياً وفكرياً وسياسياً وعاطفياً، وشعر المقاومة بمعناه الواسع شعرُ تحرّرٍ من أشكال العبودية كلها، التي يمارسها البشر المأزومون والاستعماريون، بل هو شعر انعتاق من ذات الشاعر إلى ذات أخرى قد لا يعرفها، وقد لا تتطابق والذوات التقليدية التي يقع البشر تحت تصنيفاتها، ولهذا، فهي كتابة تحمل ديمومةَ الحياة ومفاجآتها ودهشتها، وتحدث فيها ولادات لا نهائية، وهي لا ترتبط بمرحلة سياسية أو زمنٍ محدّد، لأنها تشاكس الزمن وتعبث به، وتعمل على اختراقه بأدواتها المباشرة وغير المباشرة، ومن هنا، يمكن القول إن الادعاء بانتهاء التجربة بعد موت الشاعر المادي هو ادعاء تجافيه الحقيقة المخلصة للإبداع، وأقترح على النقاد التعاطي بروح جديدة مع أرواح الشعراء التي يعتقدون أنها غادرت الأرض، والبحث عن بذور الاستمرارية الزمنية في كلماتهم ومعانيهم ومبانيهم وعبثهم الجميل، وفي هواجس الخلود لديهم، والابتعاد عن تنظيم جلساتٍ لرثائهم، والاقتراب من جلسات استعادة الإبداع ذاته وقراءته قراءة حميمية غير خائفة من الفقد، فالشعراء صرفوا أعمارهم متصدين للنفس البكائي، ولا يجوز تسجيتهم أمام المنابر وتعداد مآثرهم في إعلان مشبوه عن انتهاء صلاحياتهم، وقد اقتنص لوركا هذا الطقس حين قال: «دعوا الشرفة مفتوحة حين أموت». فلماذا يسعى البعض عامداً متعمداً وبقصديةٍ واضحةٍ إقفال الشرفات وتضييق الصدور وطي الصفحات، بادعائه إحياء ذكراهم وتأبينهم، في الوقت الذي كانت مساعي الشعراء منصبة على حفر خلودهم في جبال الحياة دون الحاجة إلى جلسات نواحٍ نقدية. كاريزما ثقافية الشاعر (الحاضر) سميح القاسم، أحد هؤلاء الذين سيبقون متربعين على عرش الحياة كندى الصباح، ليس لأن الفنان مارسيل خليفة غنى بعض قصائده مثل «منتصب القامة أمشي»، وليس لأن فرقة العاشقين رددت كلماته «تقدموا تقدموا.. كل سماءٍ فوقكم جهنّم»، بل وليس لأنه كتب سبعينَ كتاباً بين شعر ورواية وقصة ومسرحية، بل لأنه كاريزما ثقافية إبداعية عصيّة على الغياب، ولهذا، لو يستطيع الراحل الاحتجاج لصرخ بأعلى صوته في وجوه كل الراثين والمؤبنين، طالبا منهم الكف عن توجيعه، فبعض الكلام يزعج الأموات ويضيق الخناق عليهم، خاصة حين يتعلق الأمر بـ(رثاء مرحلة شعرية كاملة)، أو رثاء (شعر المقاومة)، كما قال الشاعر الماكر حبيب الصايغ ـ هكذا وصف نفسه ـ في حفل تأبين سميح القاسم يوم الأحد السابع من سبتمبر الجاري. وأود اقتطاف ما جاء في حديثه حرفياً، وكما نقلته صحيفتا «الخليج» و«الاتحاد»: «الشعور الغامر لدي الليلة.. أنني لا أؤبن أو أسهم في تأبين سميح القاسم، وإنما أؤبن مرحلة عربية، شعرية وسياسية بأكملها. تلك هي مرحلة شعر المقاومة». وقال أيضاً: «لم أعرف سميح القاسم شخصياً كما عرفت محمود درويش.. الذي ظل مخلصاً لهذه الفكرة البريئة وكأنها الطفولة، فكرة شعر المقاومة، لذلك يصح أن نرثي شعر المقاومة، مرحلة شعر المقاومة بأكملها ونحن نرثي سميح». لقد أجاب سميح القاسم قبل سنوات على سؤال (شعراء المقاومة)، حين وُجه إليه سؤالٌ ماكرٌ أيضاً مفاده: (هناك من يرى أن الأدب المقاوم كله سيطير بنفخة حين يحل السلام، فما رأيك؟)، وقد أجاب القاسم يومها بقوله: «لنقل لهذا الرأي العجائبي أولاً، ليسترد شعبنا حقوقه وليطر أدب المقاومة في الهواء.. نحن لم نطلب النكبة، ولم نطلب النكسة، ولم نطلب الكوارث لنقاومها ولنكون شعراء مقاومة.. وثانياً نحن لم نطلق على أنفسنا شعراء المقاومة، أو أدباء المقاومة، التسمية أطلقت علينا من الخارج ونعتز بهذا اللقب، وأولئك الذين يقفون هذا الموقف من أدبنا هم محرجون، نظروا لنوع آخر من الأدب، ولم تقدم نظرياتهم إبداعاً استحق الحياة أو استحق الوجود..». تهمة المباشرة وفي السياق ذاته، وفي حوار تلفزيوني أجراه بسام القادري في العام 2004، وسأل سميح القاسم يومها: (البعض يرى أن شعر سميح القاسم ظل تحريضياً، كونك بقيت داخل البلاد، فيما انفتحت آفاق أرحب، ولنقل تجريبية، أمام العديد من الشعراء غيرك، من الذين استطاعوا أن يخرجوا من سجن الاحتلال ورقبته إلى رحابة العالم هل هذا صحيح؟ وأجابه القاسم: «هذه من النظريات المضحكة أيضاً وغير المثقفة، السائدة للأسف الشديد فيما يسمى الساحة الثقافية العربية، نظرية تافهة وسخيفة وخطيرة أيضاً، كأنما يقال لي: إذا أردت أن تتطور فنيّا غادر وطنك». وقد اعتاد النقاد توجيه تهمة المباشرة والتحريض على كل قصيدة يفهمون منها أنها تتحدث عن الوطن والأرض، مهما دخلت في التجريب أو استخدمت لغة متجددة، وكأن رائحة الوطن وعطر الأحبة أصبح عبئاً شعرياً لا يجوز الاقتراب منه بحماسة لافتة. إن رحيل عدد من (شعراء المقاومة) دون إحداث تغيير في الجسد السياسي العفن، لا يقود إلى رثاء شعر المقاومة ذاته، وكأنه مات أيضاً، ومات معه النتاج الغزير الباقي، دون ذكر أسماء بعينها، لأنني على يقين بأن الشعر هو بطبيعته فعل مقاومة، ولهذا سيبقى الشعر المقاوم طالما بقي شعراء على هذه الأرض. إن رثاء (شعر المقاومة) يعني موت قيم ومعايير المقاومة نفسها، وهذا يعني أيضاً موت الشعب والقضية السياسية والإنسانية، وهو أمر أقرب إلى الاستحالة. الشاعر المتمكن حبيب الصايغ شاعر مقاومة، وقد يبتسم لهذا التوصيف، لكنه كذلك طالما أنه يحمل هواجس الإنسان ويتوق إلى نشر الجمال في مساحات الخراب، ويقف ضد الظلم وإلى جانب الحق، إنه شاعر مقاومة، شأنه شأن كل الشعراء الحقيقيين، حتى شعراء الغزل منهم، في إطار مفهوم الشعر الشمولي ذي الأبعاد الإنسانية والتاريخية والوطنية والعاطفية، وأخشى أنه حين يرثي شعر المقاومة، حتى ذلك الشعر الذي قيل في فترة الهزائم والانتكاسات، أي أعلن موته، أن يكون معظم شعره ضمن تلك المرحلة، وهذا ما لا نوافقه عليه أبدا. موقف شعري لقد وقف شعراء العالم موقفاً مقاوماً حين التقوا في مدينة «سيت» الفرنسية في أواخر شهر يوليو الماضي، موقفاً مقاوماً ضد العدوان الصهيوني على قطاع غزة، وقد استند البيان إلى الشعر باعتباره (صوت الوجدان والضمير، والشاعر المعبر عن الروح الحرة، وقيم الحرية)، ولهذا رفعوا (الصوت عالياً دفاعاً عن حياة الإنسان وحريته وكرامته). وقد وقف اتحاد كتاب وأدباء الإمارات موقفاً مقاوماً أيضاً حين تبنى بيان الخارجية الإماراتية، وبيان الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب وطالب جميع المثقفين والكتاب والأدباء العرب «أن يتحملوا مسؤولياتهم في هذه اللحظة التاريخية لمساندة الشعب الفلسطيني، وطالب الاتحاد من خلال تعميمه لبيانه وبيان الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب على جميع أعضائه، وعلى المؤسسات الثقافية داخل الدولة بالقيام بكل ما يمليه الواجب الوطني والقومي والإنساني والأخلاقي في هذا الصدد». (وام). إن المواقف السابقة ليست نقابية أو مؤسساتية، وإنما مواقف إبداعية، ولاشك أن شعراء كثيرين كتبوا متعاطفين مع الشعب الفلسطيني في غزة. على النقاد والمثقفين أن يخرجوا (شعر المقاومة) من الأحكام المسبقة، ومن التعريفات الضيقة، وأن يروّجوا للوجه الحقيقي للكتابة الإبداعية، فكل كتابة إبداعية هي كتابة مقاومة بشكل أو بآخر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©