الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رواية لكل الأوقات

رواية لكل الأوقات
10 فبراير 2010 19:20
يعدّ المكان حجر الأساس في بنية الرّواية: فيه تضطرب الشّخوص وفيه يتمّ الحدث ومنه ننطلق إلى الزمن ونستشفّ التوتّرات والتطوّرات المحيطة بالأبطال، لكن على الرغم من كلّ هذا يلاحظ المطّلع على بعض ما يكتب من روايات في بلدنا إهمال المكان وتهميشه عن قصد أو عن غيره أو ربّما لعدم تمكّن هؤلاء من تقنيات السّرد وفي مقدّمتها الوصف الجيّد حلّة الرّواية وزينتها التي تدنيها من مخيّلة المتلقّي وترغّبه فيها مثلما تفعل بنا روايات نجيب محفوظ وحنّا مينة والعروسي المطوي وعبد القادر بن الحاج نصر وغيرهم. ويتسبّب عجز السّارد عن الإحاطة بالمكان وتفاصيله وخصوصيّاته في الحدّ من اضطراب الشّخصيّة والسّفر بها من فضاء إلى آخر، فالذي يجلس في المقهى مثلاً لا يحيلنا إلا على فعل الجلوس وشرب القهوة، أمّا من يصف لنا ما يدور هناك، ويدخل بنا المكان فنرى بعينيه الأشياء مفصّلة ونشمّ الرّوائح ونتذوّق طعم المشروبات والأكلات، يجعلنا نشاركه الحدث وبالتّالي يتجاوز الفعل المجرّد الجامد إلى الفعل الإيجابي المؤثّر في ما حوله. على الرغم من انسياب الحدث وتنقّل الشّخصيّة الرّئيسيّة لهذه الرّواية من مكان إلى آخر ظلّت الأماكن مغلقة لا تفضي إلى ما وراء الكلمات. يكرّر السّارد في هذه الرّواية كلمات مثل: “الجامع الكبير، الحوش اليهودي، المقهى الخ..” وهذه المفردات تسلب من المكان خصوصيّاته وتجعله مطلقاً لا ملامح له تدنيه من المتلقّي. أمّا إذا نظرنا إلى المكان من خلال مفهومين مختلفين يتجلّى الأوّل في المكان العاديّ الظّاهر الذي لا يستقيم حاله من غير وصف مكثّف لتفاصيله وجزئياته ويبرز الثّاني في الكلمات المتضمّنة له وخصوصاً الأفعال مثل “ذهب يصلّي، خرج، دخل، نام، صوت الآذان الخ..”. هنا يصبح الأمر مختلفاً لأنّ المكان يصبح معنويّاً، تجهّزه مخيّلة القارئ وتؤثّثه حسب ميولها. ونصر بالحاج بالطّيّب لم يلغ المكان العاديّ تماماً لكنّه أيضا لم ينجح في جعل القارئ يقيم به مع الشّخصيّة. في فقرة من روايته يقول: “يتكوّن البيت من حجرة واحدة نتأت من الحائط فوق بابها خشبات من جذوع النّخل هي خشبات سقفها يعلّق فيها زوج خالته فاطمة الأضحية صيفاً اتّقاء لحرّ الحجرة”. أهمل المؤلّف هنا الوصف، واقتصر على تسمية مكوّنات البيت، لذلك ستظلّ الخشبة، كلمة مطلقة لا رائحة لها ولا ملامح تفرزها من بقية الخشبات والحائط أيضا ظلّ غائباً مسمّراً في الضّبابيّة والظّلام وكأنّ السّارد لا يهمّه هنا الفضاء بقدر ما يهمّه الحدث المتعلّق بكيفيّة المحافظة على الأضاحي في منطقته. بالنّسبة للمكان المستشفّ من الكلمات وتحرك الشّخصيّات توغّل بنا المؤلّف في مجاهل كثيرة وأدخلنا أماكن أسطوريّة قابعة في الذّاكرة وأخرى حديثة تعايشنا. يلاحظ القارئ أيضاً اقتران المكان والزمان في هذا الجانب المعنوي المنبثق من الفعل والحدث فيحيلنا فعل الصّلاة مثلاً على المسجد ويحيلنا الآذان على المكان والزمان، مكان الصّلاة المتمثّل في المسجد، ووقت الصّلاة في الصّباح أو في الظهر أو في العشايا. يقول: “انطفأت فوانيس المقهى التي جالسته فيها وهو يحدّثني عن أيامنا الحافية فتلاشت أجساد روّادها وأصواتهم”. يعلن هنا فعلاً الانطفاء والتلاشي موعد غلق المقهى فيحيلانا على الزمن الذي قد يكون المساء أو اللّيل... واندماج الزمن في المكان بهذه الرّواية يجعلها تبدو صالحة لكلّ الأوقات، تتجاوز الماضي والحاضر لتحلّ بالمستقبل، حتّى وإنْ بدت للبعض سيرة ذاتيّة فهي لا تحمل ملامح بطلها فحسب بل تمرّ إلى من عايشه في ذلك الزمن ومن سيعيش قصّة مماثلة لقصّته بعد ألف عام. هكذا يصبح الفضاء مطلقاً والزمن سرمديّاً لا يمكن حصرهما طالما أنّهما يدوران حول الأحداث والأشياء. وعلى الرغم من ميل المؤلّف إلى الخروج من مئزر الطّبيب والتّحليق بعيداً عن المخبر والمشرحة في فضاءات أرحب بحثاً عن درر يجعلها تاجاً لعروسه، لم يفلح تماماً في تمزيقه وظلّت المفردات العلميّة المتصلة بجسد الإنسان تلاحقه على امتداد الرّواية فنرى كلمات “غثيان، أمعاء، مسارين الخ..”. إلى جانب هذا وظّف المؤلف بعض المفردات الموروثة من تراث البدو مثل “الحوية، الغرائر، المحراث..”. وهذه بادرة جميلة لأنّها تقرّب التّراث من القارئ خصوصاً بعد أن تمّ شرحها أسفل الورقات في هذه الرّواية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©