الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شوقي بزيع: أنا من جيل الشعراء القابضين على الريح

شوقي بزيع: أنا من جيل الشعراء القابضين على الريح
24 نوفمبر 2010 19:41
حاز الشاعر اللبناني شوقي بزيع مؤخراً على بـ”بردة سوق عكاظ للشعر العربي”، بعدما خضعت الجائزة في دورتها الرابعة لتعديلات في بعض شروطها، حيث صارت تمنح لقصيدة يختارها المرشح من مجمل نتاجه، دون اشتراط صلاحية زمنية محددة. إنه كائن يضوع شعراً.. تحتشد الصور متراصة في شرايين مخيلته، وتموج المعاني صاخبة على امتداد رؤية عينيه الحالمتين.. تمر الأيام بشوقي بزيع وهو متنسك لوفائه المقيم، أمين لعادته الطفولية في بعثرة الكلام ليعيد صوغه على وقع الدهشة الدائمة.. قبل أن يعلن براءته من دم الوقت المسفوك على مذبح الشعر.. ابيَّض به العمر ولا يزال مخلصاً لذلك الفتى التائه في غابة الأسئلة الذي كانه يوماً، لا زالت تباغته الكلمات إذ ترتطم بجدار الذكرى فيلمع الشعر بارقاً في رحاب سماء تمعن مع الوقت حميمية واقتراباً.. باكراً هجر قريته، أو هُجِّر منها، مرتحلاً صوب مدينة تجيد استيلاد الأحلام بقدر ما تبرع في تحطيمها، امتهن السير مختالاً في أزقتها الضيقة، عرف كيف يستنطق حجارة الأرصفة، يراودها عن أسرار خطى عابريها في سواد الليل.. يجمع الهمسات والحكايا ليصنع منها باقات شعر ينثرها في الصباح على شرفة المدينة مرحباً بالعائدين من أيام مزهوة بالعشق والتعب وأغاني السفر. شوقي بزيع كان في أبوظبي الأسبوع الماضي، حيث أحيا أمسية شعرية في مسرح كاسر الأمواج، بدعوة من بيت الشعر التابع للمركز الثقافي الإعلامي لسمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان ممثل صاحب السمو رئيس الدولة، عن مسيرته الشعرية والتحولات التي شهدتها كان هذا الحوار: وهم الاكتمال آلف الأماكن وأتقن التعبير عن ولعه الدائم بها، لهذا ربما كان على ابنته البكر أن تحمل اسم “حنين” إذ ليس لدى الشوق سوى الحنين ليكتمل به، وإن كان الاكتمال الحقيقي هو آخر ما يبحث عنه الفتى المشاغب، فيما هو يظل بعد تراكم السنين متشبثاً بوسامة العاشق الذي كانه يوماً، والذي سيظله، على الأرجح، دوماً.. فوق مرابع الدهشة يقيم شوقي بزيع مملكته الشعرية، يعيد صياغة اللحظات التي نسجت سنوات ماضيه وفق عبارات مخاتلة يستلها من آتون اللغة دافعاً بها نحو عيون القارئ حيث تصنع انفجاراتها اللونية المباغتة، وتقيم أعراسها الممهورة بالحسرات، رغم الألق الظاهري، أو ربما بسببه.. الشاعر الذي غادر مطارح الصبا ومواعيد الطفولة، واختار الإقامة على كرسي خشبي في أحد مقاهي بيروت المتوافقة مع بحرها تارة والمتنازعة معه طوراً، لم يجد أمامه، وقد أصبح أعزل إلا من ورق يضاهي شعره بياضاً، سوى أن يطارد طفولة هاربة ليقيم معها حواراً لا يفتأ يتصاعد حدة ونبرة، حوار موشى بالعتب، وإن تخلله قليل أو كثير من الاعتذار، عن الرحلة المضمخة بالألق والخسارة. على امتداد المسافة الفاصلة بين الطفل الذي كانه والكهل الذي صاره يشيد بزيع معماره الإبداعي، ثمة كثير من الخصومة التي تصلح لأن تكون مربطاً لخيل الكلمات، ثمة كم من الذكريات التي تستحق أن تقام لها نصب من قصائد، وأيضاً ثمة قدر من الألفة المعاندة التي تأبى أن تشيح ببصرها عن أماكن قصية، أمكان مغبرة ترزح تحت ركام زمن يحلو له العبث بمقدسات الذاكرة. حيلة إبداعية بوسع كل ما سبق ذكره أن يمثل بالنسبة لشوقي مجرد ذريعة لأن يكون شاعراً، ويمكن لتلك الخصومات التي أثقل بها أذهان متلقيه ألا تكون أكثر من حيلة ابداعية يجترح الشاعر من خلالها معادلاً واقعياً لصراع هو في جوهره وهمي بامتياز.. لكن ما الشعر إن لم يكن نسجاً على إيقاع حروب طواحين الهواء الدون كيشوتية؟! وهل بوسع قارئ منصف أن ينفي أن تلبيته لدعوة الشعراء إلى وليمة الوهم المتناسل باطراد يوماً كانت بين قراراته الأكثر واقعية وحكمة؟! يقول بزيع، كما لو أنه يومئ لذلك من بعيد، إنَّ الشعر هو متاهة عذبة تلقي سلطان نفوذها على صانع القصيدة ومتذوقها في آن واحد، تغويهما معاً بالانتماء إلى مجاهلها الموحية، هو بعض تجليات ذلك الغيم الذي تتشكل ملامحه من حقائق وأوهام قبل أن تتشتت ذراته نائية وتاركة خلفها صوراً في البال يصعب محوها.. الشاعر هنا ليس أكثر من ساع للقبض على أضغاث اللحظة الهاربة، أو هو ذلك الباحث عبثاً عن نظام لاتساق الفوضى، وقد يؤول به أمر الإبداع نحو أن يصير كائناً متناوباً بين الإثبات والنفي، تماماً كطفل يرعبه البحر فيلوذ بالشاطئ ليسور فوقه بشغف ممالك من الرمل، قبل أن يعمد فرحته اللحظوية بتدميرها.. يضيف مغمغماً كخاطرة تلوح في ذهنه من خلف ركام الأيام: الغموض هو أحد أسماء الشعر، وانعدام اليقين واحدة من سماته الأكثر يقينية.. لا يمكن للحديث مع شوقي بزيع أن يجد منطلقاً له أكثر أمناً وأماناً من المقهى الذي يطيب له وصفه بـ”مقهى تصريف الأعمار”، والعبارة عنوان لقصيدة يضمها ديوانه الشعري الجديد “مدن الآخرين”، يقول: هذه المقاهي يجب شكرها على ما قدمته لروادها، المقاهي رئات المدن، وهي الفسحة التي لا بد منها لاستيعاب المدينة والتعاطي معها، والدخول إليها، وإذا تفاعلت مع صورة المقهى فكرة الرصيف، وهو بالأساس الهامش الذي يضيف للمتن، قبل أن يتحول متناً، ندرك حينئذ معنى هذه العلاقة بين أقنومين ابداعيين في غاية الترابط، وهو ما تميزت به عادة المدن المفتوحة، أي المدن المعولمة بالمعنى الإيجابي للكلمة، كما نعلم أن الحداثة بمعناها الغربي أولاً، والشرقي لاحقاً، قد ولدت من رحم هذا النوع من المقاهي، حيث كان العديد من كبار الكتاب والشعراء يمارسون إنتاجهم في أرجائه التي أدمنوها حتى غدت بالنسبة لهم نوعاً من المدى الحيوي الذي يحتل مرتبة الضرورة. للمقاهي لمستها الجميلة بعيداً عما تثيره في الأذهان من ارتباط بمفهوم الكسل والتبطل وتزجية الوقت في ما لا يفيد، وهي صفات اكتسبتها بعض المقاهي. على الشرفة أيضاً يقول الشاعر: أنا لا أستطيع أن تصور مدينة بلا مقاه، أو بلا شرفات، فبمحاذاة المقهى والرصيف تنتصب الشرفة التي تمثل منصة تطل من خلالها المرأة تحديداً على عالم يحيط بها، وتجري محاولات حثيثة لإقصائها عنه، بالرغم من كونها شريكة أساسية في صناعته، ومده بالكثير من أسباب الوجود والرخاء النفسي أيضاً.. الشرفة هي التي تمنح البيت بعده الأنثوي في مجتمع ينوء بذكوريته، وليست صدفة أن المرأة في الروايات العربية كانت تطل على محيطها دوماً من الشرفة، فهي بالنسبة لها المتنفس، وهي الوسيلة الوحيدة التي كان متاحة أمام نظرها ليقع على رجل تخبئ ملامحه في أحلامها، وتختزن قسماته لليالي الوحدة والوحشة الطويلة.. ولعل القضية لا تقتصر على العرب وحدهم، فحكاية العشق الأبهى في التاريخ الأوروبي، “روميو وجولييت” اتخذت من الشرفة مسرحاً لها، ويصعب نسيان مشهد روميو متسلقاً سلمه النباتي ليتمكن من محادثة محبوبته فيما هي تقف خائفة على شرفتها.. جيل الخاسرين يستطرد الشاعر متحدثاً عن مقاه ألفها وتعامل معها بوصفها ملاذاً، ثم وجدها تختفي فجأة، فيبدي شيئاً من الحسرة لأنَّه وأبناء جيله من المبدعين لم يتمكنوا من حماية مساقط أحلامهم الإبداعية، كما حصل في فرنسا حيث الطاولة التي كان المفكر جان بول سارتر يشَّرح العالم من فوق سطحها المتهالك لا تزال صامدة في مكانها، تتباهى بكون الفيلسوف الذي شغل عصره، وألقى الكثير من غبار الدهشة في عيون مجايليه قد فعل كل ذلك متكئاً بذراعه النحيلة على خشبها الباهت، أيضاً لا يزال مقهى ريش في القاهرة محافظاً على عرش العزلة الذي كان يحيط الأديب نجيب محفوظ به نفسه، يتربع فوقه مراقباً من خلف نظارتين سميكتين دقائق الحارة المصرية الزاخرة بكل مقومات الغرابة.. يضيف: المقاهي التي كنت أرتادها راحت تقفل واحدة تلو أخرى، ولقد عجزنا عن الحؤول دون ذلك، وبالتأكيد لا يمكن إلقاء مهمة بهذا الحجم على عاتق المثقفين وحدهم، إذ لا بد للجهات الرسمية أن يكون لها دور على هذا الصعيد، وهو ما لم تتنبه له الدولة في لبنان، حيث أمكن لطوفان الاستهلاك أن يبتلع أماكننا الحميمة بشراهته المعهودة. بيروت الحاضنة الكلام عن المقاهي وعن البحر الذي يحيط بها لا يستقيم بدون الحاضنة بيروت، المدينة التي دخلها الشاعر وجلاً ذات صباح فتحولت إلى محط رحال قصائده ومنصة إطلاق لدواوينه التي بلغت العشرين، كان عليها أن تتحمل ريفيته المفرطة، وكان عليه أن يقبل بما تقترحه عليه يومياً من غرائبية ودهشة: لبيروت مكانة مسورة في أذهان كل المثقفين والروائيين والشعراء الذين تذوقوا نكهتها المميزة والاستثنائية، خبروا أفراحها وأحزانها، عاشوا لحظاتها المبهجة بشغف محترف، وكثيرون منهم لم تطعهم قلوبهم ليغادروها في ليالي محنتها الطويلة والكثيرة.. بيروت تلك هي مختبر معرفي وثقافي، وكما هو الحال في كل مختبر يمكن لاحترام المعايير والمقادير وشروط الفيزياء والكيمياء أن يسفر عن فتوحات علمية مذهلة، أما عندما يجري العمل خارج اعتبارات الحرص والسلامة فإن المختبر سوف ينفجر، لهذا كانت بيروت تعيش دوماً على التماس بين العجز والمعجزة، بين الموت والإبداع.. مدينة لعوب الشاعر الذي أعادت المدينة صياغة شعره، لم يتنبه إلا مؤخراً لكونه لم يرد على صنائعها ولو بحفنة شعر، الأرجح أن الأفة التي تجذرت والعادات التي تكرست لم تترك المسافة المطلوبة والضرورية ليكون المكان موطئ استلهام، تذكر ذلك عندما كلفته وزارة الثقافة اللبنانية بإعداد دراسة عن بيروت لمناسبة اختيارها عاصمة عالمية للكتاب، اختار أن يكون عنوان الدراسة: “بيروت في قصائد الشعراء”، وقادته أبحاثه إلى اكتشافات مثيرة للدهشة، شعراء كثيرون منذ العصر الفينيقي إلى اليوم كتبوا عن المدينة الملتبسة، وكانت السمة المشتركة في نتاجاتهم أنهم تعاملوا معها بوصفها إمرأة لعوب، أكثر من كونها حاضرة جغرافية حافلة بالتناقضات، يستعيد بزيع بعض ما عثر عليه في بحثه: صراع البطالسة في ما بينهم دفعت المدينة ثمنه، وكان على أهلها أن يغادروها إلى بلدة خلدة القريبة لمدة تجاوزت المئة عام، أيضاً التسونامي الذي شهده البحر المتوسط في العام 555 ألحق بها الكثير من الخسائر، وقبل ذلك كانت بيروت مدينة للشرائع والقوانين، وفيها أنشأت أول مدرسة للحكمة، هذا المزيج بين الحياة والموت هو الطابع الذي دمغ المدينة ولا يزال يتحكم بمسار ها حتى اليوم، سبع مرات تدمرت بيروت وفي كل مرة كانت تنهض من موتها وتعيد بناء حياتها بالزخم نفسه، وجود الجامعات فيها جعلها مقصد طلبة العلم من الأراء المجاورة لها والبعيدة نسبياً، وبالتأكيد فإن الأمر لم يمر دون عواقب إذ أسفر عن تحلل أخلاقي واجتماعي جعل المدينة في مرمى الإدانة الأخلاقية، هكذا يمكن استيعاب كيف أن صورة الأنثى المتهكتة التصقت على الدوام بعاصمة لم تعصم عشاقها من الخطيئة. وهكذا يمكن تحليل الخلفيات التي حكمت قصائد الشعر الضاجة في فضائها دوماً، وبتحديد أكثر: هكذا يمكن تفسير إقدام خليل حاوي، الشاعر المهذب، الذي أحب بيروت حتى الموت، إذ أطلق النار على نفسه غداة الاجتياح الإسرائيلي لها عام 1982، على أن يغادر حصافته اللغوية بينما هو يصف واقع بيروت الستينيات من القرن الماضي: “تولد الفكرة في “السوق” بغياً ثم تمضي العمر في لفق البكارة”. بين البر والبحر من الاكتشافات الشعرية التي يتوقف عندها بزيع في سياق بحثه واحد بعنوان “بيروت الميمونة” لشاعر يوناني يدعى “ننوس” ويلقب بالدايونيزي نسبة لإله الخمر والبر “دايونيتزيوس”، وهي ملحمة تقوم على فكرة الصراع حول بيروت بين الأخير وبين إله البحر “بوسايغون”. يقتتل الإلهان على المدينة، فتشتبك أمواج البحر مع كروم الزيتون، ويتصارع الزبد مع زهور اللوز، صراع لا يمكن له أن يسفر عن منتصر ومهزوم، هذا هو قدر المدينة منذ الأزل، والأرجح أنه سيبقى كذلك حتى الأبد.. يرى بزيع أن مدينة هذا شأنها تؤمن للمبدع كل ما يحتاجه من “عدة الشغل” التوتر والقلق والشغف وشهوة الحياة وغريزة الانتحار أيضاً، عراك متواصل بين الثنائيات.. لهذا كان لا بد للإبداع أن يبحث عن بيروت دوماً.. وللجنوب حكايته الكلام عن بيروت يستدعي بالضرورة زبقين بلدة الشاعر الجنوبية التي احتضنت الهواجس الأولى والأسئلة البكر، والتي كان عليها أيضاً أن تغفر له جحوده طيلة عقود ثلاثة أيام استبدلها بما أودعته العواصم من “فرح خلَّبي”، فتعاود احتضانه بينما هو يتدرج نزولاً نحو سفح العمر.. يشير بزيع إلى وفاء متحكم به حيال ذاكرته البدائية: أنا أشعر بأنني شاعر ريفي، بل ونباتي أيضاً، وبمجرد أن تحضرني الكتابة أحس بالجزء المتعلق باللغة في داخلي وهو يفتح خطاً مستقيماً بين مكان إقامتي الجسدية وبين موطن الروح، والوجدان، فتلك الأودية والينابيع المحيطة بزبقين هي التي شكلت مدار رؤيتي ولا تزال تفعل، القرية والجنوب كانا دوماً يحددان مسار كتاباتي. حكاية قصيدة حصل هذا في بداية استغرقت عقدين من التجربة، لاحقاً، وبعد فترة صمت دامت خمس سنوات، كان على الشاعر أن يعيد النظر في مساره الشعري، فكان أن ظهرت قصيدته “مرثية الغبار” التي شكلت ما يمكن اعتباره قطيعة ابداعية مع نتاجه، حيث “تحولت الجغرافيا المحتشدة في الذاكرة إلى “ظهير لغوي” أنسج عبرها ما يعتمل في داخلي من أفكار ورؤى ومخاضات، هي دشنت بداية مرحلة انتقالية من القصيدة التي كانت تحمل شبهة سياسية وايديولوجية بفعل الحروب وتداعياتها تحت وهج المعاناة بوصفي واحداً من شعراء الجنوب تعرضت قريتي للقصف مراراً، وسقط الضحايا من معارفي وأقربائي، شعرت أنَّ موضوعاً كهذا قد استنفد، وأن ليس عليَّ أن ألاحق الشهداء إلى مثاويهم الأخيرة، بدا الأمر أقرب إلى تصفية حساب، غير قاطعة، ليس على الصعيد الفردي والشخصي فقط، وإنما على مستوى جيل بأكمله، جيل حمل الكثير من الرهانات الخاسرة وخيبات الأمل، وخاض حروباً أفضت إلى كوارث، بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، التي آلت إلى زورايب الأحياء، كنت واحداً من جيل من الشعراء وجدوا أنفسهم في العراء فجأة، وبدا لهم أن كل ما سعوا نحوه كان قبض ريح، وحفنة من الهباء. أتى ذلك متزامناً مع بلوغي سن الأربعين، وهي لحظة من لحظات الحياة المفصلية، لها طابع يدنو من القداسة، فلكل شخص أربعينه ووقوفه المترنح على قمته الشخصية محاولاً تأجيل استحقاقات النزول باتجاه السفح الآخر من الحياة، كل هذه الأمور تقاطعت في “مرثية الغبار” التي كتبت على مدى ثلاث سنوات، حيث يمكن اعتبارها خطوة حاسمة نحو قصيدة التأمل والاستبطان، ومبادلة الحاضر والماضي برموز تاريخية وابداعية وتراثية، هكذا ظهرت قصائد من نوع “قمصان يوسف” و”مريم” و”ديك الجن” وسواها”.. حصاد العمر بعد سنين طويلة من ولادتها سيكون على قصيدة “مرثية الغبار” أن تمثل صاحبها في مهرجان عكاظ وتمنحه فرصة الفوز بجائزته، يقول بزيع متحدثاً عن التجربة: كان للتحديث الذي خضعت له الجائزة في دورتها الرابعة أن جعل مشاركتي فيها ممكنة، ففي الدورات الثلاث الأولى كانت أشبه بمسابقة مدرسية، حيث يتم اختيار موضوع يصوغ فيه المتسابقون قصائدهم، ليغدو الأمر أقرب إلى النظم، أما عندما يجري تخصيص الجائزة لأفضل قصيدة يختارها صاحبها، مع الأخذ بالاعتبار لمجمل نتاجه السابق، فتصير أكثر تلبية لروح عكاظ الأصلية، خاصة أنه قد تحقق الاعتراف الضروري بلازمنية الشعر عبر اسقاط الشرط المرتبط بعمر القصيدة، فالواقع يشير إلى أن بعض قصائد امرؤ القيس أكثر طزاجة من الكثير مما يكتب راهناً”. وعن سبب اختياره لقصيدة “مرثية الغبار” التي يزيد عمرها على عشرين عاماً لتعبر عن هويته الشعرية يقول: هناك العديد من القصائد التي اعتبرها مفاصل في مسيرتي لكنها تثير بعض الحساسيات، وكان لمشاركتي بها أن تعني أنني مرشح لكي لا أفوز، فما معنى ركوب هذا المركب الخشن؟ إضافة إلى ذلك فرن “مرثية الغبار” قد تراعي في بعض تجلياتها مفهوم القصيدة المعلقة لجهة مزجها بين الخاص والعام، من حيث هي تتناول العلاقة مع النساء والطفولة والأماكن.. مرثية الغبار هيئوا لي ثلوجا على قمم الأربعين وشوكا لكي ينحني جسدي فوق صباره المر، واستمعوا للخريف الذي تتعاظم صفرته في أقاصي الذبول ولا تعدوني بشيء سوى ما تزين لي وحشتي من كوابيسها وارفعوني قليلا لأشهد قصدير روحي الذي يلمع الآن فوق سطوح المدن وارفعوني قليلا لأسند خابية العمر فوق الحصاة الأخيرة فمن ألف عام أسير ولا أجد امرأة تشتري كبريائي الممرغ بالشوق، أو تتبنى سقوطي على ركبتيها كسرب من الأودية كيف لي أن أرمم فخار صدري وأكسو دمي بالهشيم الذي يوحد مراياي في جنة ماضيه كيف لي أن أقود مظاهرة من خطاي القديمة نحو الصبي الذي شاخ في داخلي أن أناديه من عتمة الأقبية: هل أنا أنت؟ أم نحن وجهان لا يجريان إلى غاية أو هدف ومن نحن؟ من يصرخ الآن فينا: الظلال أم أننا نقطة المنتصف بين ما لا يجيء وما لا يعود؟ وهل نحن فاصلة بين حربين أم وحشة تتدحرج نحو سديم النهايات؟ يا ولدا كنته قبل ثلاثين عاما أغثني رد لي شفق السنديان الذي كنت تركض بين ذراعيه، أرملة البيلسان المشرد والسنبلات اليتامى. الشاعر دائماً يكتُبُ ما يجهله دائماً يتبع سهماً غير مرئي ونهراً لا يرى أوّلَهُ ينهر الأشباح كالماعز عن أقبية الروح وكالسّاحر يُلقي أينما حلّ عصا الشك ليمحو بعضُهُ بعضاً مقيمٌ أبداً في شبهة البيت ولا بيت له كلما همّ بأن يوضح يزداد غموضاً وبأن يفصح يزداد التباساً، والذي يكتبه يحجُبُهُ هي يدري أن بعض الظنّ إثمٌ ولذا يومئ للمعنى ولا يقربُهُ يدّعي الشاعر أن الشّعر ذئبٌ فيقول الناس: إن هو إلاّ شاعرٌ والشّعر أضغاثُ رؤىً خادعةٍ لم يصدّق أحدٌ ما زعم الشاعر، لم ينتبه الناس إلى الموت الذي ينهش في هيئة ذئبٍ جسمُه الرثّ لكي يستخرج المعنى الذي في قلبه، الناسُ نيامٌ فإذا الشاعرُ مات انتبهوا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©