الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحياة عبرت من هنا...

الحياة عبرت من هنا...
24 نوفمبر 2010 19:52
تعود مريم الغفلي في روايتها “طوي بخيتة” إلى الماضي لتروي حكاية من حكايات الصحراء والزمن القاسي الذي كان فيه الإنسان الإماراتي يعاني من شظف العيش والترحال الدائم في المكان بحثا عن الماء والكلأ قبل اكتشاف النفط. وبقدر ما تحاول الكاتبة في هذه الرواية أن تستحضر أبعاد تلك العلاقة بين الإنسان والمكان على المستوى الوجودي، فإنها تضيف إلى درامية المصائر الإنسانية المحكومة بسلطة الطبيعة درامية من نوع آخر من خلال حكاية بخيتة إحدى شخصيات الرواية التي تدفع حياتها ثمنا لاتهام عمتها لها بفعل لم ترتكبه، إلا أن الأقدار تسوق لها من ينقذها من الموت المحتم في اللحظات الأخيرة، ثم تعود لتلعب دورها من جديد في تصاعد أحداث الرواية عندما تلتقي بأهلها وتنكشف حقيقة القصة التي دفعت والدها للتخلص منها دفنا للعار المزعوم الذي ارتكبته. يحمل عنوان الرواية دلالة مكانية مقترنة باسم بطلة الرواية بخيتة ما يكشف عن الدور المحوري الذي يلعبه العنوان من خلال علاقة الارتباط التي يقيمها مع داخل الرواية واختزاله للحدث المركزي فيها. إن بنية العنوان اللغوية المستمدة من الملفوظ المحلي تجعله يحيل أيضا على ما هو خارج النص الروائي أي البيئة الاجتماعية التي تستخدم هذا الملفوظ في لهجتها الخاصة، الأمر الذي يكشف عن خصوصية المكان التي يحملها العنوان على المستوى الدلالي والرمزي، ودور ذلك في تحديد الإطار الثقافي والاجتماعي والتناصي الذي يندرج فيه. العنوان والمتن تنتمي رواية “طوي بخيتة” إلى الرواية الواقعية التقليدية التي تعنى كثيرا بالمكان ووصف تفاصيله وتأثيره القوي في حياة شخصياته، حتى يمكن اعتباره صاحب الدور الحاسم في رسم مصائر وحيوات شخصيات الرواية من خلال ارتباط تلك الحيوات بالبيئة الطبيعية التي تعيش فيها. ولا يكتفي عنوان الرواية بالإحالة على تلك الخصوصية التي يمثلها المكان، إذ نجد جملة الاستهلال التي تفتتح بها الكاتبة روايتها تركز على تقديم المكان الذي يوحي بطبيعته الموحشة القاسية وعزلته وحياة ساكنيه البدوية (صحراء موحشة، كثبان رملية لا تنتهي، مكان معزول يغلفه الصمت، بيوت متناثرة تبدو خالية ويلفها السكون، الكلب الأسود الرابض أمام بيوت الشعر أقعده الجوع والتعب عن مهام الحراسة، تقف إلى جانبه امرأة طويلة القامة ترتدي ملابس سوداء تربت على ظهره وترمقه بعطف، ثم تدلف إلى البيت وقد أثقلها الحمل، تجلس في وسط خيمتها، تمسك مغزل الصوف وتنهمك في غزل الصور في خيالها). تستخدم الكاتبة على مستوى البنية السردية للرواية السرد بضمير الغائب، حيث يتولى الراوي العليم الذي نجده يتواجد في جميع الأماكن التي تتواجد فيها شخصيات الرواية، إضافة إلى معرفته بكل ما يدور من أحداث وما تفكر به الشخصيات أو تشعر به من مشاعر، بينما يتسم السرد الذي تقدمه من خلاله أحداث الرواية وشخصياتها، كما هو الحال في الرواية التقليدية بطابعه الخطي التصاعدي والتعاقبي. وإذا كانت الرواية تقدم شخصياتها من خلال ما تتصف به من قيم الخير والحب والتعاون والكرم في الغالب، إلا أنها تقدم شخصيات أخرى تتسم بصفات البخل والشرّ والفضول والنميمية لكي تكون الرواية هي رواية حياة حافلة بمظاهر الخير والشر والحب والكراهية والكرم والبخل، وإن كانت الصفات الإيجابية هي الأكثر حضورا وتجليا في الرواية، التي لا تكتفي من خلال لغة العنوان بالإيحاء بعالم الرواية، بل هي تحاول استحضار روح تلك البيئة الصحراوية القاسية وقيمها وأخطارها وعلاقاتها الاجتماعية بصورة تبرز معها خصوصية تلك البيئة البدوية والدور الذي يلعبه المكان في تحديد هوية المجتمع وقيمه ومصائر شخصياته. وتلعب لغة الرواية عبر تعددها دورا مهما في إبراز تلك الخصوصية، حيث تستخدم الكاتبة اللغة الفصحى إلى جانب اللغة المحلية الدراجة وذلك من خلال استخدام أسماء الأشياء والأدوات المستعملة، أو أبيات الشعر النبطي الذي يجري على ألسنة شخصياتها باعتباره جزءا من طقوس الحياة البدوية في تلك البيئة التي لا تعرف الاستقرار . تظهر أهمية العناية بذكر تفاصيل المكان في أنها تساعد القارئ على معرفة الصفات التي يتميز بها المكان الروائي، الذي يكتسي بفضاء نفسي يحيل على العلاقة التي تميز شخصياته به، كما نلاحظ بالنسبة لليل المترامي في الصحراء الواسعة الذي تعبره القافلة في طريقها إلى المكان المقصود، وكذلك منظر الجبال الداكنة في الليل والخوف من قطاع الطرق، وفوق هذا كله الأهمية الخاصة التي تمثلها ينابيع الماء ووديانه بالنسبة إلى حياة هؤلاء الناس الذين نجدهم يعانون من مشقات وأخطار الرحيل بعيدا بسبب الماء لعدم هطول الأمطار على مناطقهم الصحراوية. في معنى الرحلة إن ارتباط حياة الناس في الصحراء بالماء هو الذي يجعل حياتهم دائمة الترحال والتنقل وبالتالي لاتعرف الاستقرار كما تعبر عن ذلك بمرار وحزن شما وهي تتحدث إلى نفسها (حياتنا كلها ترحال، ليس هناك مجال للراحة والاستقرار، تعبت من هذه الحياة الصعبة، تعبت عندما نصل هذه المرة سأرفض الرحيل مجددا، سأبقى مع جدي). إن هذه العلاقة بين المكان والشخصيات هي التي تجعل حركة الشخصيات الدائمة في المكان ذهابا وإيابا هي السمة المميزة لعالم المكان، وهي التي تكشف عن درامية الواقع والمصائر وتشكل الخيط الذي ينظم وقائع السرد وتحولاته، إضافة إلى إدراك معنى العنوان ودلالته التي ارتبطت باسم شخصية الرواية الأساسية بخيتة من خلال حكايتها المؤثرة عندما يقوم والدها بطعنها للتخلص من عارها بعد أن ادعت عمتها أنها حامل من علاقتها بمصبح، ومن ثم رمي جثتها في بئر( الطوي) الماء الجاف والارتحال السريع عن المكان مدعيا بأن بخيتة قد ماتت. لكن القدر يسوق لها رجلا عابرا فيسارع إلى انقاذها قبل أن تموت، إذ يخرجها من داخل البئر ويحملها إلى قريبته التي تداوي بالأعشاب لتتعافى بعدها، ثم تعود الأقدار لتجمع شمل العائلة المنكوبة ويتزوج مصبح من بخيتة في نهاية الرواية. لقد لعب موت اليازية بعد ولادتها لابنها عبيد دورا مهما في أحداث الرواية، إذ سعت بخيتة من خلال علاقة الصداقة القوية التي كانت تجمعها باليازية أن تسد الفراغ الذي خلفه موتها بالنسبة لمولودها الجديد، فكان عليها أن ترعاه كل الوقت حتى أصبح محور حياتها. وقد شكلت تلك العلاقة بصورة غير مباشرة دافعا لعمتها طريفة لكي تتهمها بتلك العلاقة المتخيلة التي كادت أن تدفع حياتها ثمنا لها، في حين شكل ذلك عنصرا دراميا في أحداث الرواية، ساهم في تناميها وتوترها. وتتبدى علاقة جملة النهاية بجملة الاستهلال من خلال العودة إلى نفس المكان الذي انطلقت منه أحداث الرواية، ما جعل حركة السرد تتسم بطابعها الدائري وبالعلاقة المحكمة على مستوى بنية السرد بين بداية الرواية ونهايتها، وجعل تلك النهاية تأخذ طابعا سعيدا بعد اجتماع العائلة من جديد، وزواج مصبح من بخيتة التي حققت أمنيتها بأن تصبح الأم الثانية لعبيد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©