الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رثاء الآدمية

رثاء الآدمية
24 نوفمبر 2010 19:54
أصدرت دار الغاوون للنشر في بيروت، الديوان الشعري البكر للشاعرة والفنانة اللبنانية الشابة سمر دياب (مواليد 1976). ويضم هذا الديوان 29 قصيدة متفاوتة الطول، تنم عن موهبة كبيرة في صياغة نص شعري متميز يحمل عطره الخاص، وبصمته التي يتميز بها عن الآلاف من القصائد التي تكتب اليوم وتصنع الحراك الشعري في كل بلاد الوطن العربي، فمقدرتها على نحت مسار خاص بها يتبدى واضحاً على الرغم من صغر سنها، إذ تنحاز لغتها الشعرية خاصة عن بقية اللغات النثرية المباشرة والفجة التي استساغها شباب اليوم بعيداً عن شعرية متدفقة. ولعل هذه الشابة الأندلسية قد رعت من عشب الشاعر الأندلسي الأخير لوركا، وشربت من كؤوس تمرده على القيم واللغات والقوانين. بدءاً من الغلاف الذي يمثل لوحة تشكيلية رسمتها أنامل الشاعرة الرقيقة، ويمكن الوقوف عندها طويلاً، فلوحة سمر دياب التي اختارتها كعتبة الديوان تعكس حالة الدمار الذي يطول عالمها الخاص: هناك الغراب الأسود والمرآة المهشمة والسماء الرمادية القاتمة والدماء التي تقطر من فوق وحالة الخراب... كلها مؤشرات تحيل على دواخل النفسية المتذمرة للشاعرة وهي تطل على كون تتساقط فيه القيم تباعاً، راسمة بذلك رؤيتها الشعرية منذ البداية. فضاء غريب، سوريالي، كافكاوي تطالعنا به نصوص سمر دياب الشعرية، هنا نجد في نصوصها كلمات تدل على الخراب، السواد، الصحراء، المقبرة، الدخان، الموت، الغرق، الغربان، الجنون، الهذيان، الصراخ. وهي كلها معان تدل على ما يعتمل في أعماق الشاعرة من حزن وضيم وانفعالات قصوى تعبر عن انفعالاتها الإنسانية المفرطة بوصفها شابة شديدة الحساسية تجاه ما يقع في الكون من أحداث. تقول الشاعرة في قصيدتها “يداي على التشبيه”: “قد أفْقأ عيْنا كيْ أشْرَب أنَا الدَّاخِلة إلى جِلْدي بِكامِل مَذَاقي الثَّقيل أنَا الخارِجة دُون رأْس يُديرُه الشُّعراءُ أوِ الكُحول بِيَديْن حَامِضَتينِ أعْصِر غابَة تكْفي لنَجْدة الحَانات حتَّى إذا أيْقَظني النَخْب من نوْمي مدَدْت يدِي كَفَيْء ثمِل لأقْرص أذْن الشَّمْس وأهْرب”. وينطوي هذا النص على ما قلناه سابقاً من عواطف جياشة تكتبها الشاعر بدمها وليس بمدادها، لذلك فهي صادقة مع الذات ومع المتلقي حينما تقحمه في جوها الدرامي، بقوة صورها الشعرية التي لا ترسمها سمر دياب بالألوان الزاهية أو الوردية، بل ترسمها بألوان غامقة غارقة في الكآبة والسواد، لكنه سواد جميل يرصد الحالات الإنسانية المتقلبة والنفس القلقة في مدينة يتآكل فيها الحلم الآدمي بحياة أخرى يسودها العدل. إن هاته القصيدة كما في غيرها تصطدم الذات بالحواجز العملاقة التي تحجب الشمس، وتجعل الحياة كئيبة تسير على مضض، فتسخر بطريقتها من اللغة والصور والمجازات... نقرأ لسمر دياب في: “أيتها المقبرة... يا طفلتي الهادئة” “خانُ الغيْمِ هكَذا قَفَز الاسْم في رأْسي حينَ نظَرْت إلى أصابِعِها التِّي كانَت تفْتحُ التُّراب لتَدْخُل المَدينَة المُصابَة بِطلْق تُرابي الدَمُ، أخْضر كانَ فيهِ مَراكِب وقِطَع نُقود مَعْدنية رماها المَقْتلون في الأُمْنياتِ. لمْ أنْظر إلى الخَلْف حِين قالَت إنَّ ذِئْباً وَرائي يُبدِّل عيْنيْه بِعيْني فَراشَة ويَطيرُ ليَحُطَّ علَى هُدْب يَتَثاءَب في الرَّمادِ، فَقطْ سألْتُها عنْ اسْمها فأطْلقَت صَيْحة واخْتَفت... خَان الغَيْم ضَرْعُ الرِّيحِ أسْنانُ الذِّكْريات البيْضاءِ كلَّ ليْلَة أخْتَرع لها اسْماً أنْظُر إلى المطَر الذِّي يَسْقط بِهُدوء وأخْرُج لأَِلْتهِمَهُ...” فالشاعرة في هذا النص تصوغ عوالمها بما يحيل على الموت والفجيعة والخراب الذي يطول الذات ويطول العالم من قيم وسلوكيات إنسانية، إنها بصراحة ترثي الآدمية التي تآكلت وانبطحت أمام المادية المطلقة، ولعمري تلك الأشياء هي بؤرة المجموعة كلها في كل القصائد، نقد حال واقع مزيف تخربه الموت والدمار والمادية المفرطة، وتتآكل قيم الآدمية فيه يوماً عن يوم، والحلم عبر اللغة بشمس ذات ضفائر خضر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©