في رحلة على جبال «سيرا نيفادا» وصولاً إلى تلال «سان لورينزو» في كولومبيا، من الممكن مشاهدة القليل جداً من المراكز العسكرية المهجورة - أجزاء مهجورة من الخرسانة، التي أصبحت الآن خضراء ومفتتة - على طول طريق الغابة المدمر، ولكن لا يوجد جنود هنا، في واحدة من أهم محميات الطيور في العالم. والأزياء الوحيدة التي يمكن رؤيتها في الصباح الباكر هي أزياء هواة مراقبة الطيور، بألوانها الخضراء والصفراء، بينما يرتدي هؤلاء الهواة أحذية حساسة، ويحملون دفاتر، ومناظير للرؤية. لا يوجد أي مظاهر للحرب أو العنف في مزرعة «لا فيكتوريا» لحبوب القهوة، أيضاً. وتدير المزرعة، التي تمتد في أحد الوديان تحت التلال، بشكل مدهش، ماكينات عتيقة جلبها رجل إنجليزي إلى كولومبيا في نهاية القرن الـ19. يدور العجل وتخشخش السيور لمعالجة حبوب القهوة من خلال المراحل المختلفة من التجفيف والتحميص. في عام 2002، كانت هذه الدواليب صامتة عندما احتلت القوات شبه العسكرية المزرعة. تروي زوجة صاحب المزرعة ضاحكة وهي تتذكر الأحداث التي تبدو الآن تاريخاً قديماً «كانوا ينامون في أسرَّتنا ويشربون نبيذنا».
ولكن في الوقت الحاضر هناك أنواع أخرى من المشاكل: فأسعار القهوة تتحرك صعوداً وهبوطاً والأسواق أصبحت متقلبة، لكن النزاع المسلح الذي اجتاح يوماً ما أجزاء من «سيرا نيفادا» - وألقى بظلاله على التجارة والسياسة والثقافة وكل شيء تقريباً في كولومبيا لمدة خمسين عاماً، وأدى إلى مقتل أكثر من 220 ألف شخص - قد توقف تقريباً، فقد أجرت القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) مفاوضات بشأن اتفاقية سلام ونزع سلاحها رسمياً. وقد آثر السلام الذي نتج عن اتفاقية السلام على الجميع، فخلال عشرة الأيام التي أمضيتها هنا، لم ألتق أي سياسي، وفي الواقع فإن جميع الأشخاص الذين التقيتهم - علماء الطيور والمؤرخين ورجال الأعمال - لم يكن لديهم أي اهتمام حقيقي بالسياسة. ولكن جميعهم بدؤوا الحديث بنفس الأسلوب «منذ انتهاء العنف....» مثال «منذ انتهاء العنف، حققت السياحة نمواً»، أو «منذ انتهاء العنف، أصبح بوسعنا التركيز على البيئة». بالنسبة للغرباء، هذا يبدو كمعجزة. وقد فاز الرئيس الكولومبي «خوان مانويل سانتوس»، الذي تفاوض من أجل التوصل لاتفاق السلام، بجائزة نوبل للسلام نظير جهوده. وفي الأسبوع الماضي كان الرئيس سانتوس في دافوس، سويسرا، يروج لمزايا بلاده، وأكد في مقابلة معه أن «السلام يجلب استثمارات ضخمة».
أما بالنسبة للسكان المحليين، فقد خففت أمور أخرى هذه المعجزة: الارتياب والشك وعدم الاكتراث والخوف. مثل العديد من معاهدات السلام، لم تنته هذه الاتفاقية، التي تم التوصل إليها في أغسطس من عام 2016، بانتصار كامل لأحد الجانبين. فقد قدمت الحكومة عفواً لمعظم المشاركين في حرب العصابات وستساعدهم لبدء أعمال وحياة جديدة. وما يعد بالنسبة للبعض «إعادة إدماج»، يبدو للآخرين كأنه بطاقة «للخروج من السجن». وقد اعترض الرئيس السابق «ألفارو أوريبي»، الذي أجبرت إجراءاته العسكرية «فارك» على التفاوض في المقام الأول، على فكرة أن أعضاء «فارك» بإمكانهم الآن تأسيس حزب والانضمام للسياسة الانتخابية، والقيام بنفس التحول الذي أجراه «الجيش الجمهوري الأيرلندي» في أيرلندا: «نفسي ليست مهيأة للنقاش مع مجرمين».
ويشعر العديد من الكولومبيين بالغضب الشديد جراء المعاملة اللطيفة لرجال كانوا يرهبون البلاد، وأداروا كارتلات لتجارة المخدرات وقتلوا الآلاف لدرجة أنهم أدهشوا الحكومة في أكتوبر 2016 بالتصويت بأغلبية ضئيلة - 50.2% في مقابل 49.8%، بفارق 54 ألف صوت - ضد الاتفاق. وقد أعيد التفاوض بشأن المعاهدة، وتم التصديق عليها منذ أكثر من عام، ولكن بعد مرور ستة أشهر من تخلي العصابات عن أسلحتها، لا يزال هناك تردد. ويذكرني الحديث إلى الناس هنا بمحادثة أجريتها قبل سنوات مع أكاديمي إسرائيلي، في ذروة عملية أوسلو للسلام، فهو وافق على المفاوضات وأعرب عن أمله بأن تكلل بالنجاح. وقال: «لكن لا تتوقعي مني أن أتصرف بحماس في هذا الصدد». لقد مات عدد كبير من الناس، وكان هناك الكثير من الألم. وقد أثارت عملية السلام في شمال أيرلندا نفس المشاعر المختلطة. ففي عام 1999، كان الأمر يبدو في كثير من الأحيان، كما لو أن الغرباء الذين تفاوضوا على الاتفاق أكثر حماساً بشأن الاتفاقية من المقيمين في «بلفاست» أنفسهم. وكان هذا الاستفتاء غير المتوقع هنا نتاج نفس المشاعر، وكذلك التردد الذي ما زال الناس يشعرون به بشأن «السلام» و«ما بعد الصراع» - على افتراض أنهم وافقوا على الحديث عن الأمر على الإطلاق. عندما ينتهي العنف، لا تنتصر العدالة دائماً، فالأشخاص الذين ارتكبوا جرائم لا يعاقبون دائماً. والاستياء الناجم أحياناً يؤدي إلى كشف العملية برمتها.
*كاتبة أميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج
نيوز سيرفس»
عدد اليوم
