السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بريطانيا ومتلازمة بروكسل

26 أغسطس 2013 21:56
تروج صحيفة «ديلي ميل» البريطانية فكرة أساسية مفادها أن بريطانيا لم تعد كما كانت في السابق، وأنها ستقوم بكل ما يجب، وتمضي في الطريق الشاق والطويل لاستعادة عظمتها الغابرة دون الانشغال كثيراً بما يفرضه بيروقراطيو الاتحاد الأوروبي من لوائح وتنظيمات مثل مزارع توليد الطاقة بالرياح، أو الهوس بمعايير السلامة وبكل ما هو صديق للبيئة، إلى آخر تلك اللائحة الطويلة من القيود والقوانين. والحقيقة أن هذه الصيغة التي تعتمدها الصحيفة ناجحة للغاية فقد مكنت على الأقل صحيفة «ديلي ميل» من أن تتحول إلى أفضل جريدة سيئة في العالم، تستغل كل المشاعر والغرائز السلبية لدى البريطانيين كالتعصب مثلاً. كما أن توليفتها التحريرية «الناجحة» التي تجمع في صفحاتها بين الجنس والفضائح وأخبار المشاهير، جعلتها محببة إلى شريحة واسعة من القراء. ولذا تفتخر الصحيفة بأنها توزع 1,6 مليون نسخة يومياً لتصل أيام السبت إلى 2,5 مليون بفضل الجرعة الزائدة من الأخبار والمواضيع التي تخاطب الشهوات والغرائز، هذا فضلاً عن موقعها الإلكتروني الناجح هو الآخر. ولكن ما يهمني هنا في تلك الصحيفة ليس الأسلوب الذي تعتمده لاجتذاب القراء ولا نجاحها في هذه المهمة، بل يهمني هوسها الكبير بالطريق الذي تتخذه بريطانيا حالياً ومشاعر الكراهية التي تكنها للاتحاد الأوروبي ولبقاء لندن عضواً فيه، وهو ما يمكن وصفه بأنه نوع من متلازمة بروكسل. فالصحيفة لا تخفي رغبتها في خروج بريطانيا من الاتحاد، وهي الرغبة ذاتها التي لا تتفوق عليها في إبرازها سوى صحيفة «ذي صن» الأسوأ منها بكثير. والسبب أن الصحيفتين تنظران للاتحاد الأوروبي على أنه قلعة مغلقة شبيهة بالاتحاد السوفييتي تخطط ليل نهار لفرض القوانين وتنظيم كل شيء بدءاً من حصة النساء في مجالس إدارة الشركات وليس انتهاء بالساعات التي يتعين قضاؤها أسبوعياً عند الطبيب. ولاشك أن الاتحاد الأوروبي في حالته الراهنة يصعب تسويقه للبريطانيين هذه الأيام، فهو خاضع لسيطرة ألمانيا التي لا ترتاح هي نفسها للعب دور القائد، كما أنه يضم دولة مثل فرنسا بهواجسها المعروفة التي حولت وعكتها إلى ما يشبه الموضوع الفلسفي. هذا ناهيك عن صعوبات الضفة الجنوبية للاتحاد ومشاكلها الاقتصادية المتواصلة، والشعور بالتهميش وعدم الإشراك في القرار الذي ينتاب مواطني الاتحاد بعددهم الذي يفوق 500 مليون نسمة. ويضاف إلى كل ذلك أن الاتحاد الأوروبي نفسه مقسم بين 17 من أعضائه داخل منطقة «اليورو» يقتسمون عملة مشتركة، و11 بلداً خارجها، هذا فصلاً عن الانقسام حيال الطريق الأمثل لمعالجة مشكلة «اليورو» بين مؤيد لفكرة الاندماج أكثر والسير نحو الفيدرالية، ومعارض لها مثل بريطانيا. أما فيما يتعلق بإنجازات الاتحاد الأوروبي الكبرى مثل إحلال السلام في قارة مفتوحة الحدود فذلك من مخلفات القرن العشرين وليس مما يذكر الآن. بيد أن هذه الإخفاقات والتحديات لا تبرر أو تشرح وحدها الكراهية التي تبثها صحيفة «ديلي ميل» تجاه المؤسسة الأوروبية الأهم، ولكم أن تتخيلوا حجم تلك المشاعر المناوئة للاتحاد الأوروبي من خلال العنوان التالي الذي تصدر الجريدة ويقول: «لقد ولدت ببريطانياً وأريد أن أموت كذلك، ولكن ما لم نقف ضد بروكسل لن يحصل هذا الأمر»! ومضى المقال مشيراً إلى خطة محتملة للاتحاد الأوروبي يقوم من خلالها بطبع علم الاتحاد الأوروبي الأزرق بنجومه الذهبية على شهادات ميلاد البريطانيين. والحقيقة أن كل ما يروج عن خنق الاتحاد الأوروبي لبريطانيا وانتقاصه من سيادتها وعظمتها كما تسوق لذلك الصحف الصفراء هو محض هراء، لأن الواقع يقول إن بريطانيا، وكما أثبتت السنوات الأربعون التي ظلت فيها لندن ضمن الاتحاد الأوروبي، هي في حاجة للاتحاد بنفس الدرجة التي يحتاجها فيه هو أيضاً، فنصف صادرات بريطانيا تقريباً تذهب إلى دول الاتحاد، وملايين الوظائف مرتبطة بهذا الأمر، كما أن الاستثمارات الأجنبية تفضل بريطانيا لقدرتها على الوصول من خلالها إلى الاتحاد الأوروبي والسوق المشتركة. وجزء من صناعة السيارات البريطانية المنتعشة حالياً سيغادر البلد في حال خرجت من الاتحاد. ومن نافلة القول إن الولايات المتحدة لن تكون سعيدة بالانسحاب، هذا ناهيك عن البنوك والمصارف التي حولت لندن إلى مركز مالي عالمي، والتي ستخرج تباعاً بعد سد أبواب الاتحاد الأوروبي. وماذا أيضاً عن كل هؤلاء البريطانيين الذين يخططون للتقاعد في سواحل إسبانيا؟ أو أكثر من 2,3 مليون نسمة من مواطني الاتحاد الأوروبي الذين يعملون في بريطانيا ويساهمون في إنعاش اقتصادها؟ لقد عبرت عن هذه التساؤلات والمخاوف هيلين ألكسندر، رئيسة جامعة ساوثهامبتون، قائلة: «سيكون الخروج من الاتحاد الأوروبي كارثة كبرى، فكل من يأتي إلى هناك يدرك أننا في حاجة لأن نكون جزءاً من كيان أقوى وليس مجرد جزيرة معزولة على أطراف أوروبا». ولكن على رغم ذلك تواصل المشاعر المناهضة للاتحاد الأوروبي طريقها بين السياسيين الذين كان آخرهم رئيس الوزراء المحافظ، ديفيد كاميرون، من خلال دعوته لعقد استفتاء على البقاء في الاتحاد سيجري على الأرجح في 2017 ضمن محاولة على ما يبدو من المحافظين للمزايدة على حزب الاستقلال اليميني المناوئ للاتحاد. ومهما يكن الأمر تظل بريطانيا بعلمها المرفرف وبمناسباتها المتنوعة، بدءاً من مولود العائلة الملكية وليس انتهاء بالألعاب الأولمبية، أكثر أوروبية من أي وقت مضى بما تشكله من قبلة للفرنسيين المستائين والباحثين عن العمل ومعهم البولنديون والإيطاليون وغيرهم من أبناء الشعوب الأوروبية لتتحول بريطانيا إلى مجسم صغير لأوروبا نفسها، هذا التنوع البريطاني هو ما تمقته صحيفة مثل «دايلي ميل» وتسعى إلى تدميره. ‎روجر كوهن كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©