الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اللحظات الأخيرة

اللحظات الأخيرة
12 نوفمبر 2006 00:36
سعاد جواد: تذوقت مرارة اليتم وأنا طفلة صغيرة في السابعة من عمري بعد أن رحل والديّ رحمهما الله في حادث سير، كنت أرى الناس وقد تجمعوا في بيتنا، وأنا لا أدري سبب وجودهم· أسألهم بإلحاح: أين أمي؟ أين أبي؟ فلا يجيبوني، عندها أبكي وأحتج وأرفض وجودهم ولكنهم لا يكترثون لما أفعل ويبقون جالسين بوجوه حزينة كئيبة لا تبعث على الطمأنينة· أنظر إلى وجه عمي المكفهر، أبحث فيه عن ابتسامة حانية، أتمنى أن يمد يديه يطلب احتضان خوفي وبكائي، ولكنه لا يفعل ويكتفي بالنظر إلي من بعيد وهو يطلق حسرة التأفف لهذه المسؤولية التي لا يريدها لنفسه، إنه عمي الوحيد ولا أحد لي في هذا العالم سواه· كان صعبا علي وأنا في ذلك السن أن أتقبل فكرة موت أمي وأبي فبقيت لفترة وأنا في حالة المرض والمعاناة حتى استوعبت ما حدث وتقبلت كل شيء على مضض· انتقلت للعيش في منزل عمي وهو رجل بخيل لا يحب أن ينفق المال بسهولة، فلا يفكر بزوجة أخرى خوفا من زيادة المصاريف ولا يفكر بإحضار خادمة فتطلب راتبا شهريا وطعاما ومصاريف لا يطيقها· مع أنه يعمل مدرسا ولديه راتب لا بأس به إلا أنه يعشق المال عشقا غريبا لا تفسير له· تحملت مسؤولية بيت عمي وأنا طفلة صغيرة، قمت بأعباء كثيرة كانت أكبر من طاقتي بأضعاف مضاعفه ومع ذلك فقد التزمت بدراستي وكنت متفوقة ليس لأنني أحب التفوق ولكن لأنني كنت أخاف من عقوبة عمي ومن محاسبته لي ذلك الحساب العسير إن جاءت علاماتي على غير ما يرضيه· بالمقابل كان ابن عمي ولدا فاشلا متمردا لا يطيق المسؤولية ولا يحب الالتزام ولا يخشى العقوبة، يبدو أنه من كثرة ما تعرض للضرب أصبح جسده خاليا من الإحساس وعقله خاليا من الشعور، ونفسه خالية من الكرامة· لقد حوله الضرب والقسوة إلى مخلوق تافه يشكل عبئا على مجتمعه، وقد كنت أكرهه ولا أطيقه لكثرة تحرشه بي وضربه لي بسبب أو بلا سبب· يأكل طعامي ويسرق حاجياتي ويؤذيني بشكل لا يطاق· الأمل الوحيد تحملت تلك الحياة الصعبة القاسية وكنت أتأمل الفرج عندما أتخرج من الجامعة وأعمل ويكون لي راتب خاص بي أستطيع من خلاله الاعتماد على نفسي والإنفاق على احتياجاتي، وقد فكرت بإحضار خادمة وإجراء تغيير لهذا الأثاث المتعفن وتعديل وصيانة منزل عمي المتهالك· كانت أحلامي كبيرة وطموحاتي متعددة، ولكن للأسف فإن عمي قد قتل أحلامي ودفن فرحتي في اليوم الذي استلمت فيه الراتب الأول بعد تعييني في سلك التدريس· أتدرون ماذا فعل عمي؟ لقد قرر تزويجي من إبنه الفاشل الذي ترك الدراسة منذ المرحلة الإعدادية وهو يعيش حياة الذل والإهانة ليحصل على مصروفه من والده على الرغم من اقترابه من سن الثلاثين، فهو بلا عمل وبلا طموح وبلا شخصية· لم يسألني عمي عن رأيي بهذا الزواج فهو وليي الشرعي والذي يحق له أن يزوجني متى يشاء ولمن يشاء· شعرت بالاضطهاد والعبودية وفكرت أن أتخلص من حياتي، ولكني تراجعت في اللحظات الأخيرة خوفا من عقاب ربي· ولكني أخيرا قررت التكيف مع هذا الواقع المفروض علي وأن أسيّر حياتي نحو مرافئ الرضا والقناعة بهذا النصيب· وفكرت بإنجاب الأطفال الذين سيعوضون عليّ كل ما فاتني من الحب والسعادة في هذه الدنيا· وفعلا فقد أنجبت ولدا وبنتا صارا بهجة أيامي، أنسى تعبي معهما وأشعر بأن الحياة طيبة وحلوة كلما نظرت إليهما، وأحمد ربي لأن الدنيا لا زالت بخير مادام فيها هذين الطفلين· تحول سيء للأسف فإن المنغصات من حولي تأبى إلا أن تفرض نفسها لتحرمني من تلك السعادة البسيطة· فقد أحيل عمي إلى التقاعد وجلس في المنزل متفرغا لأذيتي والتسلط علي بالإضافة لولده الذي يعيش عالة علي· منذ اليوم الأول لتقاعده امتلأ المنزل بأجواء التوتر والعصبية وصار عمي يطالبني بدفع إيجار المنزل الذي نسكن فيه· وعندما أخبرته بأنني أفكر في استئجار بيت خاص بأسرتي هددني بأنه سيأخذ الأطفال مني بعد أن يطلقني من ابنه وسأطرد إن فكرت بالخروج من المنزل وصار يتهمني بالعقوق وبأنني ناكرة للجميل لأنه رباني وأنفق علي طوال تلك السنين· وبالطبع فإنني لم أتجرأ وأسأله إن كان والدي قد ترك مالا أم لا، لأنني أحاول دائما أن أتجنب إثارته· أذعنت لمطالبه وصرت أعطيه مبلغا كبيرا من راتبي كإيجار ولتسديد فواتير الماء والكهرباء والهاتف فلا يبقى إلا الشيء القليل· لم يضايقني كثيرا حصوله على ثلثي راتبي ولكن ما كان يضايقني هو تدخله المزعج في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا أنا وأطفالي، ففكرت بأن أتخلص من هذه المشكلة واقترحت عليه أن يفتح مشروعا يكسب منه بدلا من الجلوس في المنزل طوال الوقت· راقته الفكرة واتخذ قراره بفتح مدرسة خاصة تدر عليه مبالغ لا بأس بها ويستثمر فيها خبراته الطويلة في التدريس· وليتني لم أشجعه على ذلك· بعد أن قام بفتح المدرسة أمرني بتقديم استقالتي من عملي والتفرغ للتدريس بمدرسته وإدارتها معه، وعندما رفضت الفكرة عاد لتهديدي مرة أخرى بتطليقي من ولده وأخذ أطفالي· وبالطبع فإنه قرر أن يحول البيت الذي نسكنه إلى مدرسه بعد إعادة بنائه لأنه لا يريد أن يدفع الإيجار الباهظ وقد استأجر لنا شقة صغيرة تتكون من غرفتين وصالة لنسكن فيها معه· وليس هذا وحسب وإنما حول الغرفة المخصصة له إلى سكن للمدرسات اللاتي أحضرهن من بلاد مختلفة وصار هو ينام في الصالة· ولم يكتف بذلك وإنما أحضر أحد أقاربه ليعمل في المدرسة وأسكنه معنا بنفس الشقة لينام معه في الصالة، فتخيلوا الحياة التي أعيشها· أنا وزوجي وأولادي في غرفة، أربعة معلمات في الغرفة الثانية وعمي ورجل غريب في الصالة· شقاء دائم أعمل في المدرسة طوال النهار وأعود للشقة فأعمل أيضا في تجهيز الطعام والتنظيف وغسل الملابس وكيها ورعاية شؤون أطفالي· تمر الأشهر ولا أستلم فلسا واحدا من الراتب المزعوم وعندما أطالبه بالمال فإنه يقول بأنه يدفع إيجار الشقة ويشتري متطلبات المنزل وهو ينفق علي وعلى أسرتي فلا يبقى من الراتب أي شيء· تحولت حياتي إلى سلسلة بغيضة من التعب والإرهاق والضغوط النفسية الصعبة· أرتدي الحجاب في البيت طوال الوقت وفي المساء أدخل غرفتي وأنا في غاية الإرهاق والتعب فيأتي زوجي الذي كان نائما طوال النهار أو مسترخيا أمام شاشة التلفاز فيطالبني بحقوقه الزوجية وإن لم أستجب له أتعرض للضرب والشتم أمام الصغار فأحاول ترضيته منعا للمشاكل· توسلت إلى عمي كي يعفيني من مهمة التدريس فأجلس في منزلي وأتفرغ للعمل فيه ورعاية الأطفال، واقترحت عليه أن يأخذ زوجي ويكلفه بأي عمل في المدرسة ولكنه رفض فهو يعلم بأن ولده إنسان فاشل لا يتحمل المسؤولية وهو لا يريد أن يدفع راتبا لمدرسة أخرى تعمل بدلا مني وهو أيضا لا يريد أن يدفع أجور خادمة تتحمل مسؤولية التنظيف والطبخ بدلا عني· الدنيا تضيق بي ولا أدري ماذا أفعل مع هذا العم الذي تحجر قلبه على الرغم من التزامه بالصلاة والصوم والعبادة وكأنها أمور اعتاد على القيام بها منذ طفولته دون التفكير بمغزاها الحقيقي· حاولت إقناعه باستئجار شقة ثانية ليقيم فيها هو والعاملون لديه ولكنه رفض ذلك وعاد ليتهمني بالجحود والرغبة في طرده مع أنه قد رباني وأنفق علي منذ أن كنت صغيرة حتى تخرجت وصرت معلمة· أسكت وأبتلع دموعي وحسرتي وشعوري بالظلم والقهر· متنفسي الوحيد كانت لدي صديقة أتصل بها وأحدثها عن متاعبي، وهي على إطلاع بكل تفصيلات حياتي منذ بدايتها· كانت تنصحني باستمرار بأن أرفض استغلال عمي بأي شكل من الأشكال وتحت أي ظرف· كانت تقول لي: ضعفك هو السبب الوحيد الذي جعل عمك يستغلك، كوني قوية وحددي مصيرك بنفسك· كنت استمع إليها ولا أعرف كيف أصبح قوية فالخوف الذي زرعه عمي بداخلي منذ طفولتي كان قويا لدرجة تمنعني من الوقوف بوجهه ومنعه من استغلالي بهذا الشكل· لم أفكر يوما بكسر هذه القيود إلا بعد أن ضاقت حلقاتها وأحسست بأنها ستقتلني، لذلك قررت أن أتمرد على وضعي كله· اتصلت بصديقتي وأخبرتها بقراري فرحبت به فسألتها إن كانت على استعداد لتتحملني أنا وأطفالي لبعض الوقت فأكدت لي رغبتها التامة في مساعدتي· أخذت أطفالي وتسللت هاربة من سجني وذهبت إلى منزل صديقتي التي تعيش مع أمها والتي فرحت بي وبأطفالي واستقبلتنا بشكل طيب· بعد مدة بسيطة شجعتني صديقتي على رفع قضية أطالب فيها بالطلاق للضرر، وساعدتني للعودة إلى عملي السابق فتنفست الصعداء وشعرت بأنني أولد من جديد· بعد تركي المنزل غضب عمي غضبا شديدا، وقرر أن يزوج ابنه من إحدى المعلمات انتقاما مني، وأن يتركني معلقة لفترة حتى أتأدب ثم قام برفع قضية نشوز دعاني فيها لبيت الطاعة، وقد رفضت دعواه بعد أن تم الكشف على الشقة والظروف المعيشية غير اللائقه لسكن الزوجة والأطفال· وأخيرا فقد حصلت على حكم بالطلاق فتحررت بشكل نهائي من تلك العبودية البغيضة التي دامت لأكثر من عشرين عاما· بعد ثلاث سنوات من طلاقي عرفت بأن زوجة طليقي إنسانة شريرة وقاسية لعبت دورا كبيرا في حياتهم وكانت السبب في فشل المدرسة وسوء سمعتها مما أدى إلى إغلاقها، وقد أصيب عمي بأمراض متعددة وعرفت بأنه قد ندم على كل ما فعله بي، وأنه أصبح يعاني سكرات الموت· أرسل إلي طالبا رؤيتي ورؤية الأطفال فأخذتهم إليه وأنا مترددة وخائفة··· تصورت بأنه ربما قد هيأ لي فخا ليعيدني إلى عبوديته، ولكن ما سمعته من أخبار ضعفه ومرضه وقلة حيلته شجعني على دفع التردد وحسم الموقف· لم أصدق عينيّ··· هل هذا هو عمي نفسه؟ لم يفت على فراقي له سوى أعوام قليلة··· فكيف شاخ في هذا الوقت القصير؟ انكسر جبروته وولت هيبته وقوته، هزل جسده، ونحف وجهه بشكل كبير فبدا أنفه بارزا وعيناه غائرتان تحيط بهما هالة سوداء، وكأنه قد مات منذ زمن· لولا صوته و حركت عينيه الذابلتين لما تأكدت من أنه لازال حيا· بصراحة لا أدري هل سقطت دموعي لحبي له وتعاطفي معه؟ أم سقطت بسبب ذكريات الظلم التي داست على طفولتي وشبابي؟ لم اقترب منه كثيرا واكتفيت بإرسال أولادي ودفعهم للسلام عليه، أخذ يبكي وهو ينظر إلي قائلا: سامحيني يا ابنتي لقد آذيتك· قلت له: سامحتك يا عمي· ولم أزد على ذلك شيئا· فمد يده وأعطاني شيكا فيه مبلغ كبير من المال وقال: هذا مالك الذي تركه لك أبوك· أخذت أولادي وعدت لبيتي وأنا أفكر به، وأقول لنفسي: إن سامحته أنا فهل سيسامحه ربه؟ ألم يفكر بمثل هذه الساعة؟ لماذا ظلمني؟ لماذا حبس مالي كل تلك السنين؟ لماذا بخل علي وحرمني من كل شيء؟ لماذا تركني أعيش الذل والحاجة وأنا تحت جناحه يتيمة وضعيفة لا حول لي ولا قوة؟ ألم يفكر بأن الله سيحاسبه على كل ذلك؟ ما فائدة التوبة الآن··· قبل الموت وقبل الرحيل وفي لحظات الضعف الأخيرة هل تقبل التوبة؟
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©