الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الدماغ.. اللغز الأكبر

الدماغ.. اللغز الأكبر
26 أغسطس 2015 21:45
يتحدث البعض عن تناذر العبقرية (du génie Le syndrome) التي تعني أننا لا نستعمل سوى عشر هذه القدرات التي يتمتع بها الدماغ، لذلك من الممكن في نظر علم الأعصاب تطوير الدماغ وكشف مناطقه الخفية، شريطة أن ننظر إليه نظرة جديدة ليس باعتباره شيئاً مقدساً ومستعصياً على المعرفة العلمية، بل باعتباره عضواً كباقي الأعضاء، يمكن دراسة كل وظائفه بما فيها الوعي بطريقة موضوعية. فهل يمكن مقاربة هذا الأخير بطريقة اختبارية وفك الشيفرة التي يعمل بها؟ هل الدماغ كمبيوتر من لحم؟ أو بصيغة مباشرة هل الإنسان مجرد حاسوب؟ طموح قديم يتجدَّدبالرجوع إلى تاريخ الفلسفة نعلم جميعاً أن الوعي موضوع معقد، أعيا كبار الفلاسفة، بدءاً من ديكارت الذي أكد على الطبيعة الواعية للإنسان، لكن الوعي ذاته ظل عنده عبارة عن «لطف إلهي». وكانط الذي رغم محاولته الشهيرة في تشريح العقل وكشف حدوده ومكوناته، إلا أنه كذلك انتهى إلى الاعتراف بأن: «معرفة الذات سقوط في مهاوي جهنم». وصولاً إلى نيتشه الذي أكد أن فلسفات الوعي كلها لم تستطع أن تعرف إلا جزءاً بسيطاً منه، وأن هناك جانباً آخر لا واعياً يتجاوز بكثير كل ما يمكن أن نعرفه عنه، ممهداً بذلك لظهور مفهوم اللاشعور كما سيطوره فرويد. واليوم مع علم الأعصاب نرى هذا الطموح يعود من جديد، ولكن ليس بشكل تأملي بل بطريقة اختبارية، وهذا الطموح هو ما نسميه بعلم الوعي (Lascience la science cognitive ) أو علوم الإدراك والذي يعتبر واحداً من أهم المواضيع التي يشتغل عليها علم الأعصاب. يرى العالم الفرنسي ستانيسلاس دوهين Stanislasdehaeneالباحث في معهد Neurospineأننا عندما نتحدث عن الوعي فنحن نتحدث عما هو ذاتي، عن شيء نمارسه، ولكن دون أن نعرف ماهيته، شيء ينتمي إلى خصوصيتنا وهويتنا الذاتية. ولكن مع ذلك بإمكاننا أن نعمل اليوم على فك الشفرة التي يعمل بواسطتها، عن طريق دراسة نشاط العصبونات. (1) نحن نعلم اليوم بشكل دقيق تشريح المخ، كان ذلك يتم فيما مضى على أمخاخ ميتة، أما اليوم فتصوير الدماغ يتم أثناء أدائه لوظائفه. إنه عبارة عن كتلة لحمية صغيرة نسبياً تتكون من 78 ? من الماء و 10? من الشحوم و (160.000) كلم من العروق الدموية، وثلاثة آلاف من النورونات التي تنتج في كل ثانية عند الجنين، وتبلغ عند الولادة حوالي 100 مليار. أما عدد التشابكات التي تحدتها هذه العصبونات فيعتقد أنها تفوق كل الأجرام السماوية الموجودة في مجرتنا. لكن هذه ليست هي نهاية القصة لأن الدماغ يتشكل باستمرار وعلى طول الحياة، سواء بواسطة التربية أو التغذية أو الرياضة والتعلم بحيث تظهر شبكات جديدة. وبما إن الأنشطة التي يقوم بها الإنسان تؤثر على طبيعة عمله سلباً أو إيجاباً، فإن بإمكاننا إذن أن نتحدث عن تحويل للدماغ سواء بواسطة هذه الأنشطة الخارجية أو كذلك بواسطة الأنشطة الداخلية؛ التأمل مثلاً، فالدماغ يصنع الوعي لكن الوعي أيضا يؤثر على الدماغ. كان الطب التقليدي يعتبر المخ البشري بنية ثابتة لا تتغير؛ فخلاياه لا يمكن تعويضها عندما تموت، إنه مثل آلة: «والآلات تنجز العديد من الأعمال الاستثنائية، إلا أنها لا تنمو ولا تتغير»(2) هذه النظرة بالذات هي التي تغيرت كثيراً اليوم فالدماغ بنية تطورية مفتوحة على التبدل المستمر. إن كل عصبون له طاقة معينة هي عبارة عن إشارة كهربائية، وبالتالي عندما تنطلق هذه العصبونات فإنه يمكن قياسها من خلال شكل الموجة الكهربائية الدماغية، وهذه الموجات هي ما يمثل في نهاية المطاف الذاكرة والذكاء والفكر والعواطف... يتم هذا القياس بوسائل مختلفة منها الجهاز الخاص الذي يسمى اختصاراً (IRM) أو كذلك بواسطة خوذة خاصة توضع فوق الرأس وتقوم بقياس نشاط العصبونات. لم يعد الوعي والذكاء إذن مجرد هبة طبيعية، فالعلم يخبرنا اليوم أنه بات بإمكاننا أن نزداد ذكاءً والإمكانات التي يقدمها مخيفة، نحن نتحدث اليوم عن زرع لرقائق إلكترونية في القشرة الدماغية، ونتحدث عن تغيير أنسجة المخ ليس فقط بين نفس النوع (إنسان وإنسان)، بل بين أنواع مختلفة. وباختصار فإن الوعي الذي كان موضوعاً خاصاً ومقصوراً على الفلسفة، أصبح اليوم موضوعاً للبحث العلمي، فهل هذا الجوهر الروحي الذي ظل مستغلقاً على الإنسان لقرون طويلة، بات بإمكان علوم الأعصاب أن تفك شفرته؟ هل الدماغ مجرد حاسوب؟ يدافع أنصار الذكاء الاصطناعي عن أطروحة كون الوعي ما هو إلا شكل من أشكال «النشاط الخوارزمي» (3) الذي تقوم به الحواسيب، وهو النشاط ذاته الذي يمكن رصده في عمل النورونات عندما تشتغل كما لو أنها نبضات كهربائية تتحرك داخل نواقل عصبية. ولكن رغم هذا التشابه هل عمل الدماغ يكافئ تماماً عمل الحاسوب؟ الجواب الذي يقدمه بنروز حذر؛ إذ لا يمكننا أن نعتبر تماماً أن المخ البشري حاسوب بيولوجي متطور، وهو يقدم مجموعة من الحجج على ذلك أهمها ما يدعوه بـ «مرونة الدماغ» (4)، فشبكة الموصلات في الحاسوب ثابتة عكس شبكة العصبونات في الدماغ، ذلك أن الترابطات هنا تحويلية وتطورية. هذه المرونة هي نفسها التي يسميها الدكتور نورمان دويدج باللدونة العصبية Neuroplasticityوهو يعرف هذا الأمر قائلا: «يشير مصطلح اللدونة العصبية إلى ليونة الخلايا العصبية في أدمغتنا وأجهزتنا العصبية وقابليتها للتغيير» (5) وهكذا حتى إذا ما جازفنا واعتبرنا الدماغ حاسوبا فـ:«هذا الحاسوب عندئذ هو من نوع يمكنه التغير طيلة الحياة» (6). هناك إذن عمليات يقوم بها الدماغ وهي عمليات غير خوارزمية، أي عمليات لا يستطيع الحاسوب أن يقوم بها، وهذه العناصر اللاخوارزمية لن تكون ـ في نظر بنروز دائما ـ غير الإلهام والحدس والبصيرة الخلاقة والعبقرية. الفكر إذن يتجاوز العصبونات كما يؤكد أيضا بنجامين ليبي Benjaminlibetالذي يذهب إلى التشكيك في علمية الأطروحة التي تقول أن الوعي ما هو إلا نشاط مباشر للعصبونات، فهذه في نظره ليست إلا معتقدات لا ترقى إلى مستوى النظرية العلمية المحققة اختباريا. (7) وذلك لأن الجوانب الروحية والإبداعية والقدرة على التخييل لا يمكن التأكيد أنها مستنتجة من نشاط العصبونات. ويخلص إلى القول: «في الواقع الظواهر العقلية للوعي لا هي قابلة للتفسير، ولا هي قابلة للاختزال في المعارف التي نستطيع الحصول عليها في مادة النشاطات التي تقوم بها الخلايا العصبية». (8) أضف إلى هذا، الأطروحة الشهيرة لأنطونيو دامازيو (Antonio Damasio ) التي أثارت نقاشاً كبيراً في الأوساط العلمية، حول العلاقة بين الذكاء والعاطفة، فالعواطف في نظره ترفع مستوى الذكاء ولا تنقص منه كما كان يعتقد. مع ذلك؛ فكل هذه الطروحات تتعارض اليوم مع ما يدعو إليه أنصار ما بعد الإنسانية، الذين يرون أن الذكاء الاصطناعي سيتغلب على الذكاء البشري، وأن العصبونات تطلبت وقتاً طويلاً حتى تظهر في الطبيعة (حوالي 5500) ألف سنة، لذلك آن الأوان كي نختصر هذه المسافة الزمنية بواسطة السيليكون. كما أن الحواسيب الكمومية قادمة (9) ومن يدري قد تتمكن من إزاحة الدماغ من المكانة الشرفية التي حظي بها لحد الآن. مشاريع المستقبل غافا هي اختصار للشركات الآتية: غوغل، آبل، الفيسبوك، وأمازون. إنها الشركات التي تقوم الآن بالإشراف على أبحاث الدماغ وعلم الأعصاب وتمويلها، خاصة وأن أغلب مسيّري هذه الشركات ينتمون إلى اتجاه ما بعد الإنسانية، الذي يرمي إلى تجاوز الكائن البشري نحو كائن آخر مُرَقّى بطريقة تمزج بين ما هو عضوي Organiqueوما هو معدني Métallique10)، ويخطط هؤلاء لإمكانية تحميل محتويات الدماغ داخل الحاسوب، كما يعملون على تجاوز الذكاء الطبيعي نحو الذكاء الاصطناعي، وسنظر إنسان المستقبل، في نظرهم، إلى الإنسان الحالي كما ننظر نحن الآن إلى القرود والحيوانات. لقد تدخل العلم والتكنولوجيا في كثير من قطاعات الجسد وأجزائه، غير أن الدماغ اعتبر الحد الذي لا يمكن تجاوزه، فهو منطقة الروح المقصورة على هوية الشخص، أما اليوم فعلم العصبونات لا يطمح فقط إلى فهم الدماغ البشري، بل إلى ترميمه وتحويله وتصنيعه في المستقبل. إن الحاسوب يتطور اليوم بسرعة مذهلة، تختصر بكثير المدة الطويلة التي تطلبتها العصبونات. لقد بدأت الحواسيب سنة 1950 بألف عملية في الثانية وهو ما يطلق عليه كيلوفلوب kiloflopsوفي سنة 1997 وصل إلى ألف مليار عملية أي تيرافلوب teraflopsوفي سنة 2007 إلى مليون مليار عملية في الثانية الواحدة أي بيتافلوب petaflops ومن المنتظر أن يصل سنة 1918 إلى مليار مليار عملية، وهي إكزافلوب Exaflops. إن الرهان الفاوستي أصبح اليوم رهاناً حقيقياً، وهو يجري ليس بشكل رمزي على خشبة المسرح بل في وادي السيليكون وفي معاهد وجامعات التكنولوجيا العليا. نحن نعلم منذ جان جاك روسو أن خاصية القابلية للاكتمال البشرية ليس لها حدود، ولكن هل سنكتمل كأجساد بشرية، أم أننا سنكتمل خارج أجسادنا ؟ نعرف جميعاً رهان الفلسفة الأنوارية، وكما هو عند روسو علينا أن نعول فقط على التربية (كتابه إيميل أو التربية) وعلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي (كتابه العقد الاجتماعي) غير أن هذه الرهانات اليوم قد فقدت أهميتها، وبدلها يتم التعويل على إمكانات التكنولوجيا المعاصرة. فهل سيخسر الدماغ معركته أمام الحاسوب؟ وهل سيطيح السيليكون بالعصبونات؟ هذه أسئلة لا يملك أحد يقين الجواب عنها؛ فالأبحاث تتسارع خارج أي سلطة سياسية أو توجيه أخلاقي. حدّ لا يمكن تجاوزه لقد تدخل العلم والتكنولوجيا في الكثير من قطاعات الجسد وأجزائه، غير أن الدماغ اعتبر الحد الذي لا يمكن تجاوزه، فهو منطقة الروح المقصورة على هوية الشخص، أما اليوم فعلم العصبونات لا يطمح فقط إلى فهم الدماغ البشري، بل إلى ترميمه وتحويله وتصنيعه في المستقبل. فاوست في وادي السيليكون إن الرهان الفاوستي أصبح اليوم رهانا حقيقيا، وهو يجري ليس بشكل رمزي على خشبة المسرح بل في وادي السيليكون وفي معاهد وجامعات التكنولوجيا العليا. إننا نعلم منذ جان جاك روسو أن خاصية القابلية للاكتمال البشرية ليس لها حدود، ولكن هل سنكتمل كأجساد بشرية، أم أننا سنكتمل خارج أجسادنا ؟ نعرف جميعا رهان الفلسفة الأنوارية وكما هو عند روسو علينا أن نعول فقط على التربية { كتابه إيمل أو التربية } وعلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي { كتابه العقد الاجتماعي } غير أن هذه الرهانات اليوم قد فقدت أهميتها، وبدلها يتم التعويل على إمكانات التكنولوجيا المعاصرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©