الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثقافة التشدد.. والعنف السياسي

ثقافة التشدد.. والعنف السياسي
26 أغسطس 2015 21:45
ثقافة التشدد هي الحاضن الفكري الأساسي للعنف السياسي. ولعل شيوع الإرهاب اليوم في جل المجتمعات العربية يعود في جذوره الأولى إلى السريان الرهيب لثقافة التشدد والغلو في المجتمعات العربية في الماضي. كانت هذه الثقافة في نواتها الأولى في وفاق مع المجتمع العربي الإسلامي التقليدي لكنها بدأت منذ مطلع القرن الماضي تتبلور كثقافة تشدد بالتوازي مع: - الظهور التدريجي للحداثة في المجتمعات العربية ابتداء من المستحدثات التقنية إلى التحديثات التنظيمية كالديمقراطية والأحزاب، والدستور... وأخيرا لبعض النظريات العلمية والفلسفية والعلمإنسانية الحديثة. - تبلور تيارات إصلاحية دينية وسياسية ذات طابع إيديولوجي محافظ (الوهابية- الإخوانية والجماعات التكفيرية والعنفية المتولدة عنها..). - ظهور مخططات سياسية محلية ودولية لتوظيف الدين والإسلام بالضبط في الصراعات والنزاعات الدولية (حالة أفغانستان وازدهار الحركات الجهادية...). وتوظيف التيارات الإسلامية لمواجهة التنظيمات اليسارية (حالة مصر والمغرب). ثقافة التشدد هي بنية كلية وهي ثقافة طالت كل الحقول الاجتماعية بما في ذلك المجال الديني نفسه حيث ركزت لا فقط على رفض الآخر المختلف دينيا بل شملت أيضا المسلمين ذاتهم وذلك باتخاذ موقف متشدد من كل من لا يطبق بعض الفروض والشعائر لدرجة اعتباره كافرا أو خارجا عن الملة بحيث لا يجوز السكن معه ولا يغسل ولا يكفن ولا يدفن مع المسلمين. وهذه الثقافة تركز على التشدد في الشكليات والمظاهر من حيث أن لها دورا رمزيا وتمييزيا وولائيا، وعلى التشدد في الطقوس التعبدية. في المجال الاجتماعي كانت المرأة هي الضحية الأكبر للفكر المتشدد. فهي الكائن الاجتماعي الأضعف الذي تمارس عليه الكثير من التشديدات والتحريمات، الكائن الذي يمنع عليه أن يسافر وحده بدون محرم ويتعين عليها عدم ارتداء ملابس عصرية، وعدم استعمال موانع الحمل، وعدم رفع الصوت أمام الرجل أو إظهار القدم والظفر باعتبارهما عورة، وتمنع عليها قيادة السيارة، ومصافحة الرجال.. بل إن بعض المفتين ذهب إلى حد اعتبار النساء ضحايا الاغتصاب زانيات...الخ. في المجال الثقافي نجد أن التشدد يبلغ مداه في اعتبار الموسيقى والرقص والغناء مناكر لأن الغناء في نظر بعض الفقهاء هو قرين اللواط والزنا، بل انه هو صوت الشيطان في نظر آخرين، وهو «ميكروب تسلط على المسلمين فنخر قواهم وأتلف عزيمتهم وأفسد نساءهم وفتن بناتهم وضيع أولادهم». من مظاهر التشدد في المجال الثقافي تحريم مشاهدة التلفزيون لأنه «يوجه نحو الفساد والإباحية ويشجع على الشعور والاختلاط». وكذا تحريم التماثيل وتحطيمها والنهي عن تصوير ما فيه روح «سواء كان مطبوعا أو مرسوما أو محفورا أو منقوشا» بغض النظر عما إذا كان أثرا فنيا تاريخيا أو مجرد عمل فني جمالي وليس نصبا للعبادة. من المظاهر البارزة للتشدد الثقافي اعتبار التجديدات الفكرية بدعا، وتكفير المفكرين والأدباء، وإنكار بعض حقائق العلم والتقنية (مثل إنكار دوران الأرض حول الشمس وإنكار نزول الإنسان على سطح القمر...). وفي مجال العلوم الإنسانية إنكار بعض هذه العلوم واتهامها بالعدمية أو الصهيونية أو الماسونية أو استهداف الإسلام. في المجال السياسي يبلغ التشدد الثقافي مداه في إنكار الأنظمة السياسية الحديثة (الجمهورية- البرلمان- الديمقراطية مثال ذلك إدانة الديمقراطية باعتبارها كفرا، لأنها تقوم على أن السيادة للشعب وهو ما يتعارض مع مبدأ الحاكمية الإلهية لأن الله «لا يشرك في حكمه أحدا». بل يذهب البعض إلى حد اعتبار الدستور والديمقراطية والأحزاب والقومية والمجالس النيابية والأمم المتحدة... كلها طواغيت (كتاب الطاغوت لصاحبه مصطفى حليمة (أبوبصير). وقد ذهب بعض المتطرفين الإسلاميين إلى اعتبار الأحزاب السياسية العلمانية والاشتراكية زندقة والبرامج السياسية للأحزاب مجرد أكاذيب ومزايدات، وأن الضرائب هي أكل أموال الناس بالباطل. وقد كفرت بعض الجماعات التكفيرية في مصر الحكام وذوي المناصب العليا والقضاة لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله ويكفرون الشرطة والجيش لأنهم في نظرهم أعوان الطاغوت ويكفرون أعضاء البرلمان لأنهم يشرعون الأحكام الوضعية ويمتد تكفيرهم ليشمل المجتمع كله على أنه «مجتمع جاهلي» (سيد قطب). هذه الصورة النموذجية القصوى لاتجاهات متطرفة ذات مواقف حدية تبرز أن الفكر المتشدد ليس بناء معزولا، بل انه ينبث على أرضية ثقافية محددة ذات بنية أهم سماتها إضفاء طابع مثالي على الذات والتمجيد الكلي للماضي، ورفض الآخر وفكر الآخر وشيطنته، ورفض استعمال النقد العقلي تجاه الذات والتراث، والمماهاة بين الدين والثقافة، والنظرة المقلوبة للتاريخ إلى غير ذلك من السمات التي يجرؤ اليوم العديد من الباحثين على إبرازها لا في اتجاه تحطيم الذات، بل في اتجاه إكسابها مناعة حضارية أكبر. وبما أن الثقافة هي المنظور أو المنظار أو النظارة التي نرى من خلالها العصر فإن أولويات التصالح مع العصر تتطلب: أولا: إعادة النظر في الموقف من العصر والحد من العداء للعصر عبر الحكم عليه أنه عصر مادية وإلحاد وعدمية وتوجه مستقبلي نحو المجهول. ثانيا: الحد من غلواء النرجسية الثقافية القائمة على التمجيد (التعويضي) المبالغ فيه للذات تعويضا لها عن خسائرها وتخلفاتها العلمية والتقنية والتنظيمية والثقافية. ثالثا: الانفتاح على إبداعات العصر وعلى الآخر وعلى كل التجديدات والإبداعات لا فقط في مجال التقنيات، بل أيضا وأساسا في مجال الفتوحات الفكرية والعقلية التي قدمتها الفلسفات الحديثة والعلوم الإنسانية في إعادة النظر جذريا في مفهوم الإنسان وعلاقته بالمقدس، ومعنى التاريخ والمجتمع والزمن. ففتوحات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة تسير في خط مواز مع التجديدات في مجال العلوم والتقنيات بحيث ترتكز إحداها على الأخرى. فمن الباطل الأخذ بالتقنيات واستبعاد الإنسانيات التي تحملها ثقافة الحداثة في الفلسفة والعلوم الإنسانية، والتي تشكل البنية التحتية الرافدة والمغذية للعلوم والتقنيات والموازية، بل العاكسة لنظرتها للعالم. رابعا: إن شرط التكيف مع العصر واستيعاب بنيته وتمثل قيمه وثقافته هو الذي يمكن أن يليّن البنية الثقافية أو القوقعة الدغمائية التي نسجن أنفسنا فيها، وذلك لنمكّن ثقافتنا من الانتقال من خطاب التعسير والتهويل وتضخيم المحرمات والضواغط وفقه العذاب والدم إلى ثقافة التيسير والتوفيق والإقبال على الحياة وعلى متعها ومواجهة تحدياتها المختلفة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©