الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أملٌ يفضي إلى الموت

أملٌ يفضي إلى الموت
26 أغسطس 2015 21:50
حملها والداها مع أخويها هرباً من الموت، إلى أمل بأرض تزهر فيها طفولتهم بسلام، ودنيا تزهر فيها أحلامهم المحتضرة من جديد. وكانت رحلة لا يمكن أن تكفيها كلمة مريرة، حاول والداها تحلية المرار بالمتع الصغيرة علها تمر بأقل درجة من المعاناة، فسمحوا لها بلعبهم الإلكترونية بدون قيد، كما كان النظام في البيت في يوم من الأيام. حملهم والداها وكأنهم نسمة الفرح الأسمى له وغاية الوجود ومنتهاه. لكن الموت يلعب دائماً لعبة التخفي! طفلتي توسدي ذراعي، أغنيتي ستلمس جبينك وتهمس في أذنك، سأحيطك بسياج قلبي وسط هذا الزحام الخانق. أغنيتي ستكون أجنحة لأحلامك تبرد الحمى التي ينتفض منها جسدك. لا تخافي اصمدي يا صغيرتي سيأتي الخلاص ها هو نجم في السماء ينظر إلينا ثبتي نظرك عليه إنه قلب خير نابض سيهدينا عندما يكون الليل حالكاً في طريقنا....ضوء النجم سيحمل إحساسك إلى جوهر الأشياء... لا تخافي حين يسكن صوتي فصدى أغنيتي سيتحدث إلى قلبك ويحييه. «نسم علينا الهوى من مفرق الوادي يا هوى دخل الهوى خدني على بلادي» دمدموا معاً بصوت هامس. صعد والدها إلى ظهر المركب، قال لهم: لا تخافوا سنصمد في هذا الطقس العاتي بستر النجاة التي نرتديها وهاتف الثريا... سأتصل وسيأتون لنجدتنا. لكنها لمحت عدم يقينه وخوفه يحبسهما في حلقه. من قعر المركب كانت تراه بقلب غائم مثقل بالحمى، وأمها تحضنهم ثلاثتهم إلى صدرها وتشدهم بقوة، وهو يحاول طلب النجدة ويرسم ابتسامة لم تستطع إخفاء اضطرابه. لا أيها البحر الصاخب لن تنزع مني كبدي. فتحت عيناها لترى والدها ينظر إليها. التقت نظراتهما فابتسم لها مشجعاً. حاولت أن تسمع ما يقول لكن الصراخ والعويل والأصوات تعلو بتلاوات القرآن من كل صوب، والبحر يهدر ويزبد لم تتمكن من سماعه لكنه قرأت شفتاه: لا تخافي (أبوكي) هنا... ابتسمت له ابتسامة واهية انتزعتها من قلب الخوف والتشويش والحمى... أمسكت يداها بطرف ثوب أمها وأغمضت عيناها، وعندما فتحتهما بفعل هزة عنيفة سببتها موجة عاتية نظرت إلى حيث وقف والدها فلم تجده... حاولت التحرك لتقف لكن أمها شدتها وهي تبكي الآن، فلت عقال الخوف واليأس. ثم لم تدرك ما حدث، وجدت نفسها في مياه البحر، ولم تكن أمها تضمها بذراعيها، ولم تعد أنفاس الصغيرين تدغدغان رقبتها. وجدت نفسها وراء البقايا المحتضرة للشمس وهي تنطفئ كمحرقة مأتمية. أغمضت عيناها، حاولت تحريك أطرافها ثم ما لبثت أن استسلمت للموج الصاخب وحدهما كانتا عينا أبيها مثل هدب غيمة عند مغيب الشمس، وعطره الذي ينعش قلبها كأنها يسكن رئتاها. تعلقت أنظارها بالنجمة البعيدة وتألقت ابتسامته وسط السماء، وساد صمت مهيب ثم انفتح في أنغام أغنية أمها تنساب إلى روحها في ضباب الموت. إلى المجهول هل هو وقت الرحيل؟ - لا بد من المحاولة، قال أبوها الطبيب المعروف المحبوب في حمص كادت مدخراته تنضب في بيروت. تراه يخاطب والدتها وفي يده حفنة من الدولارات، - لن نصمد هنا أكثر، وطاقة الكراهية تلاحقنا، لا مستقبل لأولادنا إن لم نتحرك - ولكنها مخاطرة. - علينا المحاولة، وعدوني خيراً وأصحابي وصلوا هناك، ووجدوا الأمل وفرصة لمستقبل الأولاد. تناهى إلى ذهن الصغيرة هذه اللحظة أنها كانت رحلة بالبحر، فلماذا قطعوا الصحراء إلى ما لانهاية؟ رحلوا في الظلمة الشاحبة من ذالك الفجر الموحش وعبروا غبش الرمال اللامتناهي. وقراصنة الغاب أسوأ من نخاسي عبيد القرون الغابرة. تمد يدها تتحسس الماء. ومن حولها صمت الموت وحطام المركب الذي حمل أجساداً فاقت قدرته على الاحتمال. ماذا ستفعل، ستتحول إلى تيار هواء رقيق وترحل؟ ولكن سكاكين البرد تمزق جسدها. حاولت أن تلون بالماء ظل الكلام، وترفع صمتها على غيمة وتتحد بالضباب، وترسم وجه أهلها وابتسامتهم كنجمة ليل مازال يرتب أحلامه. و ترتب بين أصابعها الوقت، بين اخضرار الثواني، واصفرار الرمال، وزرقة العتم الداكنة . ارهقها الانتظار الواجف على ساحل الخوف. انتظرت طويلا وها آخر الليل يسقط آخر نجمة على صمت قوافل الراحلين، ويرخي للحزن ستاراً. ظلت تحفر بأصابعها لتشق أنفاق الأنفاس عله يتسلل شعاع يضيء رغم الذي يفت عظامها. برفقة قنديل خيالها، بارتعاشة ضوئه الشحيح. لكن الموت يمر من هنا كالممحاة يأخذ معه البشر من حولها ويغطى بملاءته وجه القمر الذي استدار إلى غبش وصمت موحش . تعبت، تعبت ولم ينبجس طائر البوح ولم ينهدْ الماء عن اليابسة. هرب الفزع كمن ذهلت عن رؤاها، دعت في سرها أن يخرج أهلها من الماء، أو أن يأتوا لأخذها معهم. طال انتظارها وقلبها بدأ ينحل مع المطر وكأنه صنع من غضار. خاف والداها أن تبكي حجارة الدار المهدومة عليهم، أو أن تقنصهم رصاصة ظلم، أو أن يكبروا وفي أيديهم رمانة موت لا يعرفوا من وضعها في أيديهم فيرمونها ذات غسق بلون الدم. خافا أن تهرم الزهرة وتموت دون أن تتفتح فقد تعب الوقت من الموت، وتعب الموت من محو الناس، محو الدور، محو الشوارع، وزرع الحقد وقطف الشر. لم يتسن لها أن تسأله: «إلى أين تمضي» فقد كان الوقت يمر بحالة غريبة من التسارع. كسرت عزف عينيها حين تخيلت أنه يقول لها: «وداعاً». وقالت: «وداعاً» بنصف ابتسامه. حاولت رفع يديها لتقول: يا الله لكنها قالتها في سرها: يا الله يا الله.. وأغمضت واستسلمت للتيار. فتحت عيناها لتجد نفسها على كتف أحدهم، بعد الفزع الذي فت عظمها والمرارة البربرية التي مست تفاصيلها الناعمة، رغم كل ما أصابها تنطق بحروفها الغضة: أمي، أبي، عبد الرحمن، عمر. فجأة تحول البحر بلون الدم المسكوب، وطارت الغربان لا تعرف من أين أتت. الشاهدة الوحيدة على رحلة الموت هذه، يقبلون ويسألونها ولا تفهم سوى أن تكرر: أبي سالم طبيب، وأمي رنا معلمة وأخواي عبد الرحمن وعمر صغيران جداً.. وأنا شام.... نحن سوريون وسنكون شهوداً على عار العالم ونفاقه. رعب كسر حاجز الفزع فتخطته لا إلى السكينة بل إلى التشتت في بحر متلاطم الأمواج هديره يصم آذانها. كانت قصيةً عن إدراكها. كيف لها أن تعرف أن الموت فتح ذراعيه لاستقبال القرابين على شواطئ المجهول! كانت في موطنها وكانت الأزهار تتفتح عاماً بعد عام، والعطر يقوى عاماً بعد عام، والطفولة تزدهر فيها ويكبر الحلم. من أعتم السماء الزرقاء وملأها ناراً ودخاناً، من فجر سفينة السلام التي كانت تبحر فيها وأسرتها في رحلة الحياة. أي مجرم أحال عالمها إلى خراب وضياع وفزع. بشر لا كالبشر، قسوة وقهر، غابة كثرت فيها وحوش ضارية تقتل الإنسانية لمجرد القتل، جشع نبت على يد الشيطان وازدهر حتى صارت قهقهته تملأ الأرض مجلجلة سامة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©