الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابتسامات ساديّة

ابتسامات ساديّة
26 أغسطس 2015 21:55
كثرت في الفترة الأخيرة برامج التسلية والمقالب الكوميدية في هدفها والتراجيدية والكارثية في مضمونها، وفي حين كانت تُبث على الشاشة في شهر رمضان من كل عام، صارت مادة يومية صالحة لكل الأوقات خارج الموسم الرمضاني، وكأنها تريد اجتياحنا بقوة أكبر من السابق، حيث جميع الأماكن والمناسبات تصلح لافتراس الضحية من المشاهير، وجعلها تعاني من موقف وهمي تصدقه هي، ويطلّ بها على شرفة الموت، لتصاب بالجنون أو بالصدمة. والمطلوب منا كمشاهدين ومتابعين أن ننقلب على ظهورنا من شدة الضحك. في مثل هذه البرامج التي ترفع راية إضحاك الجمهور عبر المقالب ثمة جرعة من الإرهاب تُقدّم للمتلقي العربي، وتجعل الخوف والخطر لديه، تصرفات ومشاعر يومية عادية. فبينما ننتظر نحن الذين نعيش أحداث القتل والرعب والألم بشكل مستمر، من ينقذنا من الهاوية وينتشلنا بعيداً عن هذا الجحيم الفظيع. تأتي برامجنا التلفزيونية وتغرقنا فيه أكثر وأكثر، لكن هذه المرة بنسخة مرضية تسبب لنا فصاماً عقلياً وشعورياً في آن واحد، فكيف للرعب أن يكون غرضه الضحك؟ وهل نضحك لأننا نشاهد من يشعر بالخوف والفزع أمامنا؟ المصيبة أن البعض قد يضحك بالفعل، ما يعني أن حتى مشاعرنا الجميلة قد تلوثت بوحل واقعنا المرير، فصرنا ساديين في ابتساماتنا، ودون أن ندري. إسفاف فكري وأخلاقي حول هذا الشأن تقول الإعلامية الإماراتية إحسان الميسري: «أنا ضد هذه البرامج بكل ما تقدّمه للمتفرج من مواقف ومشاهد تروّج للعنف كوسيلة مشروعة للتعامل بين البشر. كذلك فإن بعض اللقطات فيها إسفاف فكري وأخلاقي، لا تصلح لأن تُعرض على القنوات التلفزيونية ولا ترقى بالثقافة العامة، لذا من واجب الإعلاميين أنفسهم رفضها وعدم التعاطي معها». وتضيف: «بمقارنة بسيطة بين الأمس والراهن، من خلال برامج «الكاميرا الخفية»، عندما كانت ذات مضمون فكاهي لطيف، نكتشف حجم الكارثة الذهنية التي نحيا الآن تفاصيلها المقيتة، حيث غزا الدم والقتل عالمنا، وحوّل كثيرين منا إلى ضحايا عنيفين، لا تسرقهم البسمة الخفيفة بقدر ما تجذبهم مشاهد ساخنة يثقب الصراخ فيها آذانهم». وتتابع: «على معدِّي البرامج أن ينتبهوا إلى الأفكار التي يتناولونها، فقد تؤذي الروح الإنسانية وتمسّ أسلوب الحياة. بإمكانهم أن يعملوا على مواد كوميدية بعيدة عن ثيمة العنف والقتل والرعب. أيضاً من واجبنا عدم الانجراف بالمتابعة، ورفض أن تصير وجبة طبيعية نتذوقها دون أن نعي خطرها وسوءها». علاقة مريبة الدكتورة خولة حسن الحديد، الإعلامية والباحثة في الشؤون الاجتماعية والنفسية: «القائمون على هذه البرامج يقدّمونها من مبدأ فكاهي كوميدي، لكن حتى الكوميديا السوداء لا تفعل فعلتهم، ومن المستحيل ألا يكون التحول المفاجئ الذي طال برامج الكاميرا الخفية تحديداً في السنوات الأخيرة، له علاقة ولو خفية أو غير مدركة، بالعنف الحاصل حولنا. خاصة مع تطور الميديا ووصول الفضائيات الإخبارية إلى غرفنا، واكتساح وسائل التواصل الاجتماعي عبر الشبكة العنكبوتية لمساحاتنا الداخلية. ما جعل الخوف خبزنا اليومي الذي نستخدمه في كل تجلياتنا، فمن دون شك سيطغى العنف على نمط تفكيرنا، وسينعكس حتماً على نتاجاتنا اليومية والفنية والإبداعية». وتؤكد أنه لا بد لنا من أن نسأل: «إلى أي مدى تكون برامج الكارثة الكوميدية مضحكة؟ ما الهدف منها؟ هل يحق لهم استثمار خوف الناس لتحقيق المنفعة المادية؟ هل يعلم الضيوف من المشاهير مسبقاً بما سيحصل لهم؟ لأنه بهذا نكون أمام مصيبة تكرّس الآخر لإثارة الضحك، وكم هذه الحالة شبيهة بتلك التي نشاهد فيها فيديوهات تعذيب حقيقية بينما صرخات المعذّب تضحك معذبيه. وللأسف فإن جميع المعدّين لهذه البرامج هم أشخاص واعون ويدركون حجم الخطر الإنساني الذي يروجون له، وبطريقة ما يستطيعون جذب آلاف الناس للمشاهدة عبر شاشات التلفزيون أو حتى عبر اليويتوب، لكنها فرجة غير مقبولة ولا بأي وجه من الوجوه كونها تقوم على إهانة الغير وإخافتهم». وتلفت إلى أن «مثل هذه البرامج يبحث عن أسوأ ما يخبئه الإنسان في داخله، ويخرجه إلى العلن بمنتهى الفجاجة والحمق. مبرزاً خوفه وردة فعله غير المحسوبة واللاشعورية المصحوبة غالباً بالشتائم والبكاء وبحركات الجسد المتخبطة والعنيفة في حالة من الدفاع عن النفس، كل هذا يحدث بدافع تلطيف الأجواء والإضحاك. إذن، فلتسقط الإنسانية إذا كانت على هذه الهيئة، ولا بد لنا من الحديث عن سيكولوجيا الفرجة التي تغيّرت إلى أن وصلت بنا إلى هذه المرحلة من السقوط المدوّي وعلى جميع الأصعدة، وسط ما نعيشه من ضخ عال للصورة المستبيحة للجسد الإنساني». تعبث بإنسانيّتنا من جهته يوضح الشاعر والإعلامي نصر سامي، رئيس تحرير كتاب «الشاعر» الفصلي في تونس، وجهة نظره بالقول: «تكثر البرامج التّي تعتمد الحركة أو تحاول أن تنقل الواقع، وتسّوق لنوع من الثّقافة الوافدة التّي تتّسم بالعنف، ومن أهمّ هذه البرامج الكاميرا الخفيّة بأشكالها المتعدّدة كتلك التّي تبدو طبيعيّة كالحوادث والزلازل أو ظهور الحيوان أو انقطاعات وانزلاق المصاعد، أو التّي تعتمد سيناريوات متقنة أو غير متقنة لمحاولة صنع الضحك وجذب المشاهد نحو الفرجة، وبالعموم هذه البرامج لا تروق لي وإن حدث وتابعتها مرّات فعلى سبيل الاكتشاف ليس إلاّ، فهي لا توفّر لي أيّ متعة، ولا تضحكني، وسيناريواتها عموماً تهدف إلى العبث بما هو إنساني فينا واستدرار عطفنا أو حزننا أو خوفنا، من أجل تسويق بضاعة ستظهر خلال البرنامج أو بعده، وهي مع ذلك البؤس والعنف تفتقد إلى اللّياقة ولا تعمل على إيصال أيّ رسالة تربويّة أو قيميّة أو حضارية أو علمية والضحك إن وجد فيها ضحك غير طبيعيّ مصنوع وربّما متّفق حوله مسبّقا». العنف في حياتنا أمر واقعي، لا مهرب من التعامل معه تعاملاً واعياً، وهو حقيقة تخترق حياتنا، لكنّها عبر برامج الواقع والكاميرا الخفيّة تسطّح ذواتنا وتمعن في استغلالنا ولا تبهجنا ولا تضحكنا كذلك، ولا تعكس عوالمنا ولا تقرأ أمراضنا وتحللها بغرض التأسيس لفنّ أكثر قدرة على النّفاذ إلى حياتنا والتصاقاً بهمومنا». انحدار عام الإعلامي والكاتب محمد الحمامصي، يرى أن برامج الكاميرا الخفية تأتي في السياق العام لانحدار الحضارة العربية والإسلامية، فهي مثلها مثل المدارس النقدية الغربية من تفكيكيك وبنيوية ونقد ثقافي وغيرها، والتي نقلها النقاد العرب وفشلوا في تطبيقها على الإبداع العربي، وهو الأمر أيضاً الذي حال دون وجود مدرسة نقدية عربية لها ملامحها الخاصة والمتفردة، وكذا مثل التقاليع والموضات تنتجها بيوت الأزياء العالمية ويستوردها التجار وتعيد تصميمها وإنتاجها مصانع الملابس، وترتديها الشعوب، والنتيجة محو شخصية الزي العربي والإسلامي، وكذا أفلام الأكشن والعنف والقتل والخيانة والعري التي أدى نقلها وتقليدها إلى وقف تطور سينما عربية لها خصوصيتها، للأسف استورد الكثير من مثقفينا ونقادنا وفنانينا ومواطنينا المنتجات الغربية الأوروبية دون سؤال ما إذا كانت تتوافق مع الحضارة العربية والإسلامية أو لا تتوافق، ومن ثم أساؤوا لثقافتنا وفنونا وإبداعاتنا، والنتائج كما نرى الآن ليس لأي من ملامح هويتنا شيء يذكر فيما نقدمه من أعمال. ويحدّد قائلاً: «الأسوأ أننا نشوه ما نقوم بنقله أو تقليده أو سرقته من منتجات غربية أوروبية أو أمريكية، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً في كل المجالات وفي مختلف المستويات، لكن هذا التشويه يتجلى واضحاً في برامج الكاميرا الخفية التي من المفترض أن تقوم على خفة الظل والطرافة وإدخال البسمة على كل من المشارك والمشاهد، لكننا نفاجأ بها صادمة مروعة تحمل جلافة وخشونة وعنفاً تحاول أن تنتزع البسمة انتزاعاً، فالقائمون عليها أولاً لا يملكون فكراً ولا موهبة والأمر كله افتعال فج وقبيح، وهذا ما جعلها تفشل وتتراجع». ويلمح إلى أن «مردود مثل هذه البرامج سلبي ثقافياً ونفسياً؛ ثقافياً كونها لا تملك فكرة وإنما تفتعلها، ونفسياً كونها تهزأ بالمشاهد وتدفعه للتوتر والانفعال وتدعوه لسلوكيات وتصرفات تسيء له وللمجتمع المحيط به، والتأثر يكون أعظم إذا كان جمهورها من الأطفال والمراهقين الذين هم في طور التكوين، حيث يندفعون إلى «الهزار» أو تنفيذ «مقالب» مع الآخرين بالوسائل الفجة لممثلي هذه البرامج مما يعرضهم والآخرين للخطر». الفنان الإماراتي الدكتور حبيب غلوم العطار، يضيء فكرة بغاية الأهمية، يجدر بنا الانتباه إليها عند خوضنا في الحديث عن برامج العنف الكوميدي، موضحاً أنه لا يمكن تصوير أي حلقة دون موافقة الفنان الضيف الذي يستطيع أن يؤدي دوره حتى النهاية لإقناع المتفرج أن ما يشاهده يحدث دون علمه، وإلا فقد يدخل القائمون على البرناج في دوامة المساءلة القانونية، خاصة إن كان ضيفهم متقدماً بالسن ومن المحتمل حدوث نوبة قلبية له، أو أي أزمة صحية من أي نوع آخر.. فتّش عن الربح كذلك يلقي غلوم اللوم على المتفرج العربي الذي «لا يمتلك أية منهجية للفرجة، وتراه يبحث عبر الشاشة عما يتابعه دون قراءة أو تقييم منطقي وثقافي، وكثيراً ما نكتشف أن الذين ينتقدون هم أكثر المتابعين بدافع الفضول أو بغيره، الأمر الذي يخلق إشكالية كبيرة في الوسط الفني، تؤثر على نوعية الأعمال الدرامية والبرامجية». أما الإشكالية الأكبر فيحيلها إلى «دور معظم الفضائيات التلفزيونية التي أصبحت تبثّ برامجها متحولة إلى شركات ربحية لا تعي مهمتها الثقافية والاجتماعية، ما جعل الطابع المادي والتجاري يغلبان على بقية الأهداف، وبالتالي نحن بحاجة إلى وصاية حقيقية تؤدي مهمتها في السيطرة على برامج هذه القنوات الخالية من المسؤولية تجاه الإعلام أولاً وتجاه المجتمع ثانياً». أخيراً.. ربما لا يجدر بنا جلد أنفسنا ومحاكمتها لأننا اقترفنا «إثم» المشاهدة والمتابعة، فجميعنا ضحية لهدف ربحي ودعائي تسعى من خلاله قنوات البث إلى الكسب الكبير، وغير المشروع ولا بأي وجه من الوجوه. وقد تغدو الحلول المواجهة ضعيفة مقارنة مع الضخّ التلفزيوني الهائل الذي يطال كل بلد وكل حارة وكل بيت وكل إنسان. إن لم توجد وسيلة توقف برامج «إرهاب الضحك»، فسنصل إلى مرحلة يُقتل فيها الضيف على الهواء مباشرة، ويغادر الحياة أمامنا دون رجعة، بينما يوجد من يضحك ويصفّق ويغمى عليه مبتسماً متماهياً مع هذه الحالة البليدة المجردة من الإنسانية، والتي لا علاقة لها بالكوميديا لا من قريب ولا من بعيد. فمن ينقذ ضحكتنا من قذارة الواقع؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©