الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

معايير البلاغة..

معايير البلاغة..
31 أغسطس 2011 21:30
القراءة بناء كما يقول (تودوروف) وأن قارئ النص هو الذي يتيح للبناء أن يتحقق وذلك باستقصاء مجموعة التقنيات اللغوية في مستويات النص الأسلوبية، وأنواع الصور وأنساق تشكيلها لتكوين منظور متماسك للنص، ويدخل مصطلح القارئ/ القراءة في حاق هذه الرؤية بتفاعل تخصصي يبلور معنى النص ودلالته على وفق معايير يقرّها المبدع بوصفها معايير إبداع مشتركة شكلت كتابة نصّه وعلى أساس أن النص أي نص يتوجه إلى القارئ/ المخاطب في سجاله الإبداعي، ويظل المبدع عند أفق الانتظار الذي تشكله استجابة القارئ بمعطيات النص ذاته ومقوماته البنائية والنص هو (مدونة حدث كلامي ذو وظائف متعددة) تتيح للقارئ (فهم كيفية أداء المعنى لوظيفته). لأن البلاغة مقوّم الأدب الفني وسمة إبداعه (والأدب مادتها تعلم صنعه وتبصر بنقده) قيل: إن فكرة وجود لغة/ نص بمعزل عن البلاغة هي مجرد وهم ويقرر هذه الرؤية حازم القرطاجني بقوله: (ومعرفة طرق التناسب في المسموعات والمفهومات لا يوصل إليها بشيء من علوم اللسان إلا بالعلم الكلي في ذلك وهو علم البلاغة). وعليه فالبلاغة هي علم النص الكلي، (لأن الشعر أجوده أبلغه) ولا محيص لأي منظر حصيف من الوعي بتنامي الفعل البلاغي والتحولات المحدثة في أنساق اللغة بوضعها وضعا مجازيا دالا إلى سياقات كلية تولد معاني الشعر وتحقق قصدية الشاعر في ضروب النسيج وأجناس التصوير في صيغ التشبيه والاستعارة والكناية والتمثيل (وكل ما كان فيه على الجملة مجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر، فما من ضرب من هذه الضروب إلا وهو إذا وقع على الصواب وعلى ما ينبغي أوجب الفضل والمزية). وهذا يعني أن قيم البلاغة في العملية الإبداعية ليست عارضة وإنما جوهرية لأنها (الإبداع ذاته) وهي خاصية أدركها النقاد في إقامة عمود الشعر وتقرير معايير الشعرية، (فالصور البيانية، وأنواع البديع ليست صيغاً تالية يؤتى بها للتزيين والتحسين، وإنما هي جوهرية في لغة الشعر لا تتحقق اللغة الشعرية إلا بها). وعليه أمكن القول: (البلاغة هي الملمح المميز للغة). الحس والعقل ذلك لأن لغة النص البلاغي تزاوج بين المقومات الحسية والعقلية لتبني تصور جديد بإقامة علاقات إسنادية تذيب شيئية الجزيئات ودلالاتها المباشرة لتحتويها كلية المدلول النصي التي تقر شرعية توليد العلاقات (بالتوهم) (والتخييل)، وهذا يعني أن الأحكام النقدية التي ارتكزت على معايير البلاغة لتقرير حدي الجودة والرداءة اكتسبت ماهية جديدة حولت ثبوت القياس إلى قياس احتمالي متغير بمتغيرات الأسلوب وتنوعه، فأسس النقد بذلك منحى جديدا يستقرئ النص بمنظور المثال البلاغي وإمكانياته البنائية على توليد أنساق جديدة للغة، على أساس أن ثبوت أحكام النقد بين حدي الجودة والرداءة يكسبها فلسفيا قوة الجوهر، في حين تبني البلاغة فلسفتها الجمالية على المفارقة بين الأنساق المولّدة، وجعل هذا التفاوت قوة لها التأثير في مفهوم القارئ بأن يجعلنا (نبني عالما متخيلاً). فالقيمة البلاغية في حكم النقد كائنة في المتغير النوعي للصورة البلاغية في (التشبيه والاستعارة والكناية) بينما ينظر القارئ إلى المتغير الأسلوبي في النوع البلاغي الواحد كقوة مائزة لتفاوت الشعراء في إحكام الصنعة وقدرة التوليد؛ وهذا ما يقرره عبد القاهر في قراءته الرائدة لقول البحتري: بلونا ضرائب مـن قد نرى فما إن رأينا لفتح ضريبا هو المرء أبدت لـه الحادثا ت عزما وشيكا ورأيا صليبا تنقّل في خلقي سؤدد سماحا مرجى وبأسا مهيبا فكالسيف إن جئته صارخا وكالبحر إن جئته مستثيب فقد عمد إلى فك أسار البنى اللغوية المهيمنة على النص التي شكلت سمته البلاغية التي تجد لها (اهتزازا في نفسك) أي استجابة وفاعلية قال: (فانظر في السبب واستقص في النظر... أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها قوله: “هو المرء أبدت له الحادثات” ثم قوله: “تنقل في خلقي سؤدد” بتنكير السؤدد وإضافة الخُلقين إليه، ثم قوله: “فكالسيف” وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ لأن المعنى: فهو كالسيف ثم تكريره الكاف في قوله “وكالبحر” ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطا جوابه فيه؛ ثم أن إخرج من كل واحد من الشرطين حالا على مثال ما أخرج من الآخر، وذلك قوله “صارخا” هناك “ومستثيبا” هاهنا) ولعل من المفيد في الحال القول: إن هذه القراءة أنتجت النص أو بنته على حد تعبير “تودوروف” بوصف أنساقه كسمات لسانية مائزة شكلت استجابة القارئ/ المتلقي (وهكذا السبيل في كل حسن ومزيّة) وليس بعيدا عن قراءة عبد القاهر يقف حسين الواد في قراءته لأبيات الشاعر كعب بن سعد الغنوي: أخي ما أخي، لا فاحش عند بيته ولا ورع عند اللقاء هيوب هو العسل الماذيّ حلما ونائلا وليث إذا يلقى العدو غضوب لقد كان: أمّا حلمه فمروح علينا وأما جهله فعزيب حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت حُبي الشيب للنفس اللجوج غلوب يمهد الناقد لقراءته بقوله: (يعد الشعر في المفهوم الهيكلاني الألسني، استعمالا خاصا للكلام، الكلام في الشعر بلاغي إبلاغي... وإذا تأملنا هذه الأبيات من خلال المعارف الهيكلانية بدت لنا وحدة تعبيرية متجانسة) وهذا ما يمكنّا من إجمال قراءته وسأقف عند البيت الثاني الذي يتميز بنسق معرفي من أنساق التشبيه/ العسل الماذّي/ خاص بحلاوته ونقائه، وليث/ بشجاعته يقول حسين الواد: (إذا نحن تأملنا البيت كاملا بان لنا أنه بني على التقابل بين صدره وعجزه، ويتمثل التقابل هنا في أن الصفات التي عرّف بها الشاعر “أخاه” في صدر البيت ناقضت الصفات التي أطلقها عليه في العجز، فحلاوة العسل ولينه، تقابلها مرارة الليث وشدته والتحكم في النفس في “حلما ونائلا” يقابله الاسترسال مع قوى الغضب في “غضوب” والإطلاق التام للصفات في صدر البيت يقابله التقييد بالظرف في عجزه “إذا يلقى العدو”... وإذا خرجنا من التركيب إلى الدلالة وجدنا سلوكين فرديين؛ أحدهما داخل القبيلة يرمي إلى الحفاظ على لحمة القبيلة والآخر خارج القبيلة إزاء الأعداء يهدف إلى حماية القبيلة، وهذان السلوكان يجعلان من الذات الفردية في خدمة الذات الجماعية). وذلك أمر أوجبته المعرفة في هذه الصناعة وقوانينها البلاغية كما يقول حازم القرطاجني. المعنى المشترك فالصياغة الشعرية كينونة عامة في الشعر، والتجويد خاصية الشعراء، وحدّه: أن يريك المعنى المشترك في صورة المبتدع المخترع كقول لبيد: وجلا السيول عن الطلول كأنها زبر تجد متونهـا أقلامه فأدى إليك المعنى الذي تداولته الشعراء، ومنه قول امرئ القيس: لمن الطلل أبصرته فشجاني كخط زبور في عسيب يماني وقول حاتم: أتعرف أطلالا ونؤيا مهدمـا كخطك في رق كتابا منمنما وقول الهذلي: عرفت الديار كرسم الكتـــا ب يزبره الكاتب الحميري قال القاضي الجرجاني: (وبين بيت لبيد وبينهما ما تراه من الفضل، وله عليها ما تشاهد من الزيادة والشف). فالتشبيه الذي أصله (الدلالة على مشاركة أمر لآخر في المعنى) محكوم بمنطق التناظر في الصفات بين المشبه والمشبه به، وأحسن التشبيه كما يقول قدامة: (ما أوقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها) ولكنه وبحكم مغايرة النصوص لمنطق القاعدة يستدرك فيقول: (وقد يقع في التشبيه تصرف إلى وجوه تستحسن... ومن أبواب التصرف في التشبيه أن يكون الشعراء قد لزموا طريقة واحدة من تشبيه شيء بشيء فيأتي الشاعر من تشبيهه بغير الطريق التي أخذ فيها عامة الشعراء... وربما كان الشعراء يأخذون في تشبيه شيء بشيء والشبه بين هذين الشيئين من جهة ما، فيأتي شاعر آخر في تشبيهه من جهة أخرى فيكون ذلك تصرفا أيضا) وهذا يعني أيضاً أن المنظور البلاغي في النقد يوسع من دلالة القاعدة البلاغية ليحتوي المعاني المتداولة بين طرفي التشبيه في النص الشعري، وأخذ القاضي الجرجاني بهذا الاتجاه الأدبي في محاجة من يتوهم أن المعنى بظاهر النص الشعري، لأنه يرى: (أن التشبيه والتمثيل قد يقع تارة بالصورة والصفة، وأخرى بالحال والطريقة) وهي رؤية توسع القاعدة البلاغية بتعدد الطرق التي تصوّر المعنى. فإذا قال المتنبي: بَليت بلى الأطلال إن لم أقف بهــا وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه قالوا: أراد التناهي في إطالة الوقوف فبالغ في تقصيره، لأن الوقوف اقترن بالشح، فأولوه بالقصر على الظاهر. ولكن القاضي الجرجاني يرى أن المتنبي: (لم يرد التسوية بين الوقوفين في القدر والزمان والصورة وإنما يريد وقوفا زائدا على القدر المعتاد خارجا عن حد الاعتدال، كما أن وقوف الشحيح يزيد على ما يعرف في أمثاله، وعلى ما جرت به العادة في إضرابه وقال: فهذا وجه لا أرى به بأسا في تصحيح المعنى). وعليه فأغراض الشعراء في تشبيه الحالات وتمثيلها أغراض خاصة تستمد أوجه الشبه من ملحظ عميق يتعدى ظاهر الأشياء إلى أمر يقع في التصور والتخييل ويتحصل (بضرب من التأول) كقول المتنبي: يفضح الشمس كلما زرت الشمـ س بشمس منيرة سوداء قالوا: الشمس لا تكون سوداء، والإنارة تضاد السواد، فقد تصرف ـ الشاعر ـ في المناقضة كيف شاء. وقد أجاب القاضي الجرجاني متناولا وجه الشبه: بأنه لم يكن غرض الشاعر أن يجعل المشبه شمسا في لونه فيستحيل عليه السواد، وإنما أراد المشابهة في العلو والنباهة والاشتهاء قال: (وللشعراء في التشبيه أغراض، فإذا شبهوا بالشمس في موضع الوصف بالحسن أرادوا به البهاء والرونق والضياء، ونصوع اللون والتمام، وإذا ذكروه في الوصف بالنباهة والشهرة أرادوا به عموما مطلعها وانتشار شعاعها... وإذا قرنوه بالجلال والرفعة أرادوا به أنوارها وارتفاع محلها... ولكل واحد من هذه الوجوه باب مفرد، وطريق متميز، فقد يكون المشبه بالشمس في العلو، والنباهة، والنفع والجلالة أسود). وهو تأويل قوّم به بناء العلاقة بين طرفي التشبيه فأصاب الغرض. مقاصد البلاغة ولابد من الإشارة هنا إلى أن القاضي الجرجاني قد أدار مصطلح النظم في نقده الشعر بوصفه (معيارا من معاييره البلاغية). وقيد مفهوم المصطلح في التطبيق بأن أجرى التراكيب البلاغية مجرى قواعد النحو ومعانيه، وهو حد المفهوم الذي قرره عبد القاهر الجرجاني بقوله: اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه “علم النحو” وتعمل على قوانينه وأصوله.. فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا، وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه، إلا وأنت ترى مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله). وبهذا جعل عبد القاهر من النظم مقصدا بلاغيا تتفاعل فيه مقاصد النحو ومجاريه، وتشكل هذه المقاصد في التراكيب اللغوية كينونة مؤتلفة في وضعها الدلالي الذي (يقتضيه العقل) وإن النص الشعري في منظوره النقدي تحكمه الصورة النظمية التي تشكل في سياقاتها التعبيرية تشكلا تكامليا كأضلاع المثلث، تأتلف في تكوينها للصورة وتختلف في قياسها، لذلك عمد في تحليله إلى عزل المكونات التركيبية ودلالاتها لتخصيص قيم النص البلاغية بخاصية النظم وإسناد الكلم بعضها إلى بعض بطريق الاختيار المخصوص، وإن أزيلت هذه الخاصية بتغيير مواضع الألفاظ يفقد النظم خاصيته البلاغية، ومثّل لذلك بقول أبي تمام: لعابُ الأفاعي القاتلات لعابه وأريُ الجنى اشتارته أيد عواسل قال: إن الغرض أن يشبه مداد قلمه بلعاب الأفاعي، على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات أتلف به النفوس، وكذلك الغرض أن يشبه مداده بأري الجنى على معنى أنه إذا كتب في العطايا و الصلات أوصل به إلى النفوس ما تحلو مذاقته عندها وأدخل السرور واللّذة عليها، وهذا المعنى إنما يكون إذا كان (لعابه) مبتدأ “ولعاب الأفاعي” خبرا، فأما تقديرك أن يكون “لعاب الأفاعي” مبتدأ و”لعابه” خبرا فيبطل ذلك ويمنع منه البتة، ويخرج بالكلام إلى ما لا يجوز أن يكون مرادا في مثل غرض أبي تمام وهو أن يكون أراد أن يشبه “لعاب الأفاعي” بالمداد ويشبه كذلك “الأري” به... فإن قدرت أن “لعاب الأفاعي” مبتدأ و”لعابه” خبرا، كما يوهمه الظاهر أفسدت عليه كلامه وأبطلت الصورة التي أرادها فيه. لذلك وقف عبد القاهر الجرجاني طويلا عند التشبيه والتمثيل وكأنه بذلك يؤسس منطلقاته النقدية بنسق المنطلقات البيانية التي تعد التشبيه أصلا في الاستعارة، وهو معيار عام في البلاغة والتشبيه كالأصل في الاستعارة وهي شبيهة بالفرع له أو صورة مقتضبة من صورهِ: (وتجد التشبيهات على الجملة غير معجبة ما لم تكنها). وقد يدفع هذا الرأي بمقولة: إن مبنى الاستعارة على هذه الصيغة يضعف صيرورتها اللغوية ويعلق إبداعها على هاجس التأويل بطرفي التشبيه الذي يعرض لمحلل النص الشعري ودارسه. وهذا صحيح في عملية النقل المجازي العامي كقولك: رأيت أسدا وأنت تعني رجلا شجاعا “وعنت لنا ظبية” وأنت تعني امرأة و”ابديت نورا” وأنت تعني هدى وبيانا وحجة وما شاكل ذلك، ولأن النص ينتج قيمه ومعاييره البلاغية باختلاف قرائن إسناده، فقد وجد ابن الأثير أن بعض النصوص تحتمل أن تجريها مجرى الاستعارة أو التشبيه المضمر الأداة، واعلم أنه قد ورد من الكلام ما يجوز حمله على الاستعارة، وعلى التشبيه المضمر الأداة معا، باختلاف القرينة، وذاك أن يرد الكلام محمولا على ضمير من تقدم ذكره، فينتقل عن ذلك إلى غيره، ومن ذلك قول البحتري: إذا سفرت أضاءت شمسَ دجن ومالت في التعطف غصنَ بان فلما قال “أضاءت شمسَ دجن” بنصب الشمس، كان ذلك محمولا على الضمير في قوله “أضاءت” كأنه قال أضاءت هي، وهذا تشبيه، لأن المشبه مذكور وهو الضمير في “أضاءت” الذي نابت عنه التاء، ويجوز حمله على الاستعارة بان يقال “أضاءت شمسُ دجن” برفع الشمس، ولا يعود الضمير حينئذ إلى من تقدم ذكره، وإنما يكون الكلام مرتجلا ويكون البيت: إذا سفرت أضاءت شمسُ دجن ومال من التعطف غصنُ بان وهذا الموضع فيه دقة وغموض، وحرف التشبيه يحسن في الأول دون الثاني. وفي هذا وجه ابن الأثير تحقق الاستعارة أو التشبيه اعتمادا على عود لازم القرينة وحكم إسناده في نظم الكلام، فالتفت إلى طبيعة تركيب السياق الشعري في إجراء الصورة البلاغية مجرى الأصل والفرع قال: (إذا حققنا النظر في الاستعارة والتشبيه وجدناهما أمراً قياسياً في حمل فرع على أصل لمناسبة بينهما، وإن كانا يفترقان بحدهما وحقيقتهما). فالتقى بذلك مع عبد القاهر الذي كان يرى (إن هذه المعاني التي هي الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدهما من مقتضيات النظم وعنه يحدث وبه يكون). تفاعل تحريضي إن هذا التواشج الاصطلاحي في الأنساق البلاغية يشكل اتجاها متميزاً في دراسة الشعر ويبحث في كينونة المفردات اللغوية دالاً مشحونا بالمعاني المجازية وقادرا على خلق تفاعل تحريضي يصل إلى حد الفعل ورد الفعل في تأويل النص وتوزيع مدلولاته. وهذا يقتضي وعيا معرفيا في (المعجم اللغوي) وتوجيه مستويات التراكيب الدلالية نحو مدلولاتها لتحديد أبعاد الصورة البلاغية التي تعززها القرائن ولوازم الحال. في تحليل أبنية الشعر وتوصيف مكوناته البلاغية، وبذلك يكون القارئ قد تجاوز جدلية الجودة والرداءة التي شغلت النقاد, وبلغ مداه في احتواء فنية النص، وتوجيه أبنية الشعر توجيها بلاغيا، كما في قول أبي تمام: فسقاه مسك الطل كافور الندى وانحل فيه خيط كل سماء قال الصولي: يقول طيب الصبا يجمع الغيم ويجلب الطل. فاستعار المسك والكافور لطيبهما واختلافهما في شدة الحرارة والبرودة، ولا أعرف في وصف كثرة المطر أحسن من قوله، وتشبيهه المطر بخيوط متصلة من السماء إلى الأرض وهو قوله: “وانحل فيه خيط كل سماء” قالوا: لا معنى لقول الصولي: “وتشبيهه المطر بخيوط متصلة من السماء إلى الأرض” وإنما أراد أبو تمام حسن الاستعارة، فجعل لكل مطر خيطا معقودا، ثم جعله منحلا فيه، يعني سقاه كل مطر، كما يقال: حل السماء عزاليه، والعزلاء فم المزادة السفلى، وإنما تكون مشدودة بخيط،..يقول: جاءتنا السماء بمطر كأفواه القرب والعزالي، وقالوا المسك أسود، ويسمى الماء “الأسود”.. كنى بالمسك عن الماء، لأن الماء عند العرب أسود، و”كافور الصبا” سحابة بيضاء ينشئها الصبا، والسماء المطر الوسمي. قال أبو العلاء: في هذا البيت ثلاث استعارات: المسك، والكافور والخيط، والطل أضعف المطر، وإنما خصه بالمسك لأن المطر الضعيف إذا أصاب التراب فاحت له رائحة طيبة، فكيف إذا أصاب الروض؟ وجعل الكافور مستعارا للصبا لأنه أراد بردها، وجعلها سببا لمجيء الطل، فجمع بين شيئين متضادين من الطيب، وهما الكافور والمسك، لأن أحدهما بارد والآخر حار. وقيل أراد بهما سحابة بيضاء كالكافور. فالصورة البلاغية في هذا كينونة سياقية وليست جزئية محدودة بطرفي التشبيه أو الاستعارة، وعلى هذا حسن توجيه أبنية الأنساق البلاغية في بيت أبي تمام لأنه مهد لها بمشهد كلي للمطر يحتمل تأويل تلك الأنساق، لتضافر عناصر المحاكاة الطبيعية والتخييل في تصويره، حيث قال: ومعرّس للغيث تخفق بينه رايات كلّ دجنّة وطفاء ومعرس الغيث: المكان الذي يمطر به: وتخفق رايات: هذا مثل، أراد به كثرة المطر بهذا الموضع..وشبه البرق بالرايات لأنه يخفق خفقانها ويضطرب اضطرابها عند هبوب الريح. وجعل للغيث معرسا، وهو نزول آخر الليل على الاستعارة، قال أبو العلاء: والوطفاء: من صفة الغمامة، يراد بها المتدلية الهيدب، أخذت من الجفن الأوطف، وهو الكثير الشعر الطويل الهدب، ويقال: سحابة وطفاء: “أراد أن لهذه السحابة من دنوها كالأهداب إلى الأرض” وقال: ولا يمتنع أن توصف الليلة بهذه الصفة إذا كانت فيها سحابة ذات وطف، ويكون هذا مثل قولهم: نام الليل، وإنما ينام فيه) وهذا ما يسميه عبد القاهر (بالمجاز الحكمي) قال: وهذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المغلق، والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان، والاتساع في طرق البيان، وإن يجيء بالكلام مطبوعا مصنوعا وإن يضعه بعيد المرام قريبا من الإفهام. ولأن الليلة موصولة المطر صح وصفها بالوطفاء بحكم السياق، ودلل على هذا التواصل بقوله: نشرت حدائقه فصرن مآلفا لطرائف الأنواء والأنداء قال الصولي: “يعني الحدائق مآلف هذه الأمطار من كثرة ترددها عليه”. يقال: نشرت الأرض نشورا: إذا أصابها مطر الربيع فأنبتت، وقوله: فصرن مآلفا: أي مآلف لمعان تثيره فيها). وقال الآمدي: أراد أن هذه الحدائق حييت بالغيث الذي ذكره. وقال أبو العلاء: المعروف في الحدائق أن تستعمل في النخل والكرم، واستعار هذا اللفظ لما ينبته السحاب، ولا يمتنع أن يعني بالحدائق التي هي معروفة عند العامة، ثم أضافها إلى الغيث لأنه أمطرها وأرواها، ويروى “نُشرت حدائقه” على أنه فعل لما لم يُسم فاعله. حتى إذا تحددت أبعاد مشهد المطر: سحب ثقال مطبقة بأهدابها على الأرض وبرق يخفق خفق الرايات المضطربة في مهب الريح، عزز المشهد بعناصر صورية مولدة ومنتزعة من واقع الحال فقال: فسقاه مسك الطل كافور الندى... (البيت) “فجعل نسيم الصَبا كافورا، ورائحة الأنواء مسكا”. وبهذا يلتقي قرّاء الشعر وشراحه قديماً وحديثاً على توسل الدلالة في مجريات التراكيب، فعمدوا إلى النص في دراستهم التحليلية لا إلى القاعدة، لذلك تداخلت أنساق التشبيه والاستعارة والكناية حسب صحة التأويل ومقتضيات السياق الدلالية، أي أنهم جعلوا نظم الكلام وقواعد إسناده تبني علاقات المجاز، (بين النصّ ومعناه من جهة، والحقيقة الواقعة خارج النصّ من جهة أخرى) بدلالة القرائن واللوازم على المعنى المقصود، وعلى أساس أن الاتصال الأدبي كما يقول (إيزر): هو (نشاط مشترك بين القارئ والنصّ) وعليه فإن فاعلية العمل الأدبي المستمرة تكمن في إدراك (القارئ) العالم الذي يحيل إليه النصّ. dr-maherm@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©