الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التفكير بعيدا عن اللوحة

التفكير بعيدا عن اللوحة
31 أغسطس 2011 21:31
أقيم مؤخرا في الولايات المتحدة معرضا استعاديا للفنان الأميركي من أصل ألماني بلينكي باليرمو ضمّ أغلب أعماله التي أنجزها منذ العام 1964 حتى وفاته العام 1977. ويأخذ هذا المعرض أهميته من أن باليرمو هو واحد من ألمع الفنانين الذين أسسوا لما يُعرف بالفن المفاهيمي حيث أسس هذا الفنان لقطيعة معرفية مع بقية أشكال الفنون التشكيلية وتحديدا اللوحة المسندية، لكنها كانت قطيعة معرفية من نوع متصل وغير منبتّ عن المنجز الفني الذي بدأ به فنانون طليعيون أوروبيون منذ نهايات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين وخاصة في ألمانيا وروسيا. يضاف إلى ذلك الموت المبكر لهذا الفنان وما تركته الحرب العالمية الثانية على حياته الشخصية ما جعله أحد أيقونات الفن المفاهيمي في أوروبا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك فضلا عن بساطة الطرح وجمالياته الفنية الصادمة التي تثير الدهشة والتساؤل معا. لمناسبة هذا المعرض، كتب ناقد الفن التشكيلي في يومية “نيويورك تايمز” الرائجة روبرت سميث هذه المقالة حول المعرض وحول منجز بلينكي باليرمو والمصادر الفنية لهذا المنجز... ما يلي ترجمة لهذه المقالة: على الرغم من أن الوسائط الفنية قابلة للنفاذ، فإن اللوحة المسندية ما تزال متماسكة على نحو عنيد وطيِّعة بصورة لا نهائية على حدٍّ سواء، وربما الآن ليس أكثر بكثير. فبينما تواصل اللوحة تجديد نفسها عبر التجسيدات التقليدية التي تُرسم على السطح التصويري فإن فرعا منها، قد تأسس جيدا، يخرج على النسق، فهو يقوم بإحداث اتساعٍ في وسيطه الفني دائما، ويمتد إلى الفن التركيبي (التجهيزي) ويُسائل منزلة اللوحة بوصفها سلعةً تتطلب مهاراتٍ عاليةً بكل ما في الكلمة من معنى، وأحيانا، يستأصل التصويرَ تماما. وواحد من بين روّاد هذا الاتساع في الوسيط الفني والمساءلة هو الرسام الألماني بلينكي باليرمو الذي نشطت الاستعادة الأميركية له عبر معرض يُقام في إحدى دوائر متحف هيرش هورن وبناية حديقة النحت مبرومة الشكل. حيث تحتشد نظرة عامة بتلك الأعمال ـ لم تُعرض في أغلبها من قبل في هذه البلاد ـ التي دفعت باللوحة وحثّتها على المضي في اتجاهات معينة بينما بقيت هي تتوالد في إمكاناتها البصرية، وتحديدا حيث يكون اللونُ قَلِقا. باليرمو بإخلاصه الراسخ للتجريد على الإطلاق، جاء إلى هنا وقد سُلِّطَتْ عليه الأضواء بشكل ملحوظ، هو الذي أصبح نجما فنيا أوروبيا منذ موته المبكّر والمفاجئ العام 1977 عن ثلاثة وثلاثين عاما. رسم على سطح تصويري من الخشب أو المعدن، فصنع أحيانا أشكالا صيْغَت بلوحين مزدوجين غير متماثلين بطريقة غريبة، ونُفِّذ قطعا فنية مؤقتة بخلفية معمارية معيّنة وشكّل تجريدات ـ حداثية على نحو حادّ ـ من رِقاع من النسيج محكم اللون وغير المصنَّع يدويا من قِبَل الفنان. والخيط الممتد في كل ما صنعه باليرمو يَبدو أنه ينطوي على هذه العبارة: “إنها لوحة” بوصفها تعبيرا وسؤالا معا، وكي تتركنا فإنها تتلاعبُ بقدراتنا على الفهم وبتصوراتنا المسبقة أيضا. واللوحات النسيجية تُقرأ بوقت واحد على أنها هجاء/ سُخرية من لوحات برايس ماردن المصنوعة برفعة تهذيب من رقائق خشبية طولية اللون، كما تُقرأ بصريا على أنها فاتنة بما تملكه؛ وبالمغايرة اللونية الحاذقة؛ وبالبساطة الفيزيقية. أحيانا تكون سخرية الفنان علنية وصريحة كما في عمله “أسطوانة زرقاء وجِصّ” من العام 1968، حيث حدود النحت تتاخم حدود العنوان الميثولوجي، هو الذي يتألف من قطع فنية من الخشب طويلة ورفيعة ومن دائرة من الخشب، وكلاهما قد غُطِّيَ تماما بشريط أزرق فعال، وهذا الميَلان تجاه الحائط يوحي بأسطورة “شييلد آند سبير”. كان العرض الأول للأعمال في متحف لوس أنجيليس للفنون الخريف الماضي، وقد جرى التنظيم من قِبَل “دْيا فاونديشن” في مدينة نيويورك ومركز الدراسات المتحفية في كلية بْراد، ولهذا الصيف تمّ توزيعه بين “ديا فاونديشن” في باكون في نيويورك ذاتها ومبنى كلية براد أيضا. بالتالي، فقد كانت نسخة متحف هيرش هورن من المعرض الفرصة الأخيرة لرؤيته كاملا، إذ من الصعب تخيُّل الأعمال تُعرض بأفضل حال مما عرضت في السماء الصافية لهذا المتحف ذي صالات العرض المقوسة بلطف. فقد كان المعرض أيضا علامة أخرى على أعمال التجديد الهادئة في المتحف التي تمّت بإشراف ريتشارد كوشاليك، مدير متحف الفن الحديث في لوس أنجيليس والذي تولى سابقا أمر المتحف في واشنطن العام 2009. ومن بين أمور أخرى، أزال السيد كوشاليك السقوف الخطأ من بعض صالات متحف هيرش هورن وكشف أكثر عن الشكل الخارجي للقِباب الخرسانية ما منح المبنى هواءً من الصرامة الصناعية للمبنى ذاته الذي قام بتصميمه غوردون بنشافت. هذا النوع من التوافق كان ليسعد بلينكي باليرمو، فالبعض من أعماله الفنية البيئية تألّفتْ من ما هو أقلّ من لوحة تُقَوْلِبُ الفراغَ أو تختصر حائطا في طَوْق رفيع من اللون. ولد بلينكي باليرمو في سشواردز في لايبزغ، ألمانيا العام 1943 ثم جرى تبنيه مع أخيه التوأم مايكل من قِبَل أخ وأخت شريكين في الرضاعة يدعيان هيستركامب اللذين غادرا إلى مدينة مانستر في ما صار يُعرف فيما بعد بألمانيا الغربية في العام 1952. نشأ باليرمو مفتونا بالثقافة الأميركية، خاصة جيل البيت (جيل المتسكعين الجوالين) وبالتعبيريين التجريديين، وفي مرحلة مبكرة من الستينيات اتخذ اسم قاطع طريق أميركي (وهو كذلك اسم لمدير شركة سوني ليتسون) الذي قال عنه الفنان بأنه يشبهه. وبحلول ذلك الوقت التحق باليرمو بأكاديمية دوسلدورف للفنون طالبا وفنانا لدى حكيم “النحت الاجتماعي” الذي قال مؤخرا بأن بلينكي باليرمو امتلك “المسامية الأعظم بكثير” من طلبته الآخرين. (لعله يقصد بذلك أن باليرمو قد امتلك تلك المخيلة التي تنفذ إليها المؤثرات أكثر من سواه من أقرانه). في متحف هيرش هورن جاءت “مسامية” كما لو أنها فَتْح ضد التاريخ وضد الاقتراح الساخر وضد التعقيد في الخبرة البصرية، وقِيْدَتْ من خلال المشهد المأزوم بشكوك مادية ومتطرفة فيما يتصلّ بالأدوات التقليدية للوحة. وقد فسّرت السيدة كوكي، مشرفة المعرض، الخصائص المميِّزة السائدة لمنجز بلينكي باليرمو في مقالتها افتتاحية بالقول: ذلك أنه كان فنانا مفاهيميا متلاعبا بالمواقع المعمارية على نحو غير شبيه سول ليوِتْ ودانييل بورين ومايكل آشير، وكذلك الأنداد المرتحلون من الرسامين الأميركيين الذين اكتفوا بالحد الأدنى من طراز إلزوورث كيلي وآغنس مارتن وروبرت ريمان ومادرين (وسلفيهما بارنت نيومان ومارك روثكو)؛ كما لم يكن جزءا من تقاليد التأمل الصوفي الأوروبي المبهم المتقدم على الوسي ماليشيف أو الإيطالي موندريانوحتى الأبكر منهما أيضا. (هذا الأخير، أي تقاليد التأمل الصوفي الأوروبي، من الممكن أن يتراءى كِسْرةً فاتنة جدا، علاوة على عمل غير معنون من قطعتين يحمل تاريخ العامين 1967 و1972 يستخلص ببراعة كاسبر ديفيد فريدريك في لوحة صليب في مشهد طبيعي. وهذا العمل عبارة عن سطح تصويري مرّت عليه الفرشاة بخفة فتركت ظلالا من البني والأسود، وقد رُكِّبَتْ على نحو مزدوج مع سطح من الخشب المرقَّق والضخم على شكل الحرف T). ومن ناحية أخرى فإن هذه المغايَرة في المواقف الفنية تبدو في بعض الأحيان وقد اشتمل عليها فنّ بلينكي باليرمو بصورة عفوية حقّا. الكثير من الأعمال المبكرة في المعرض ملتوية عناصرها بعضها على البعض الآخر ومؤلفة من طبقات هي عبارة عن تقدمات مرفوعة على سبيل الإجلال إلى الماضي اللامع للحداثة. عمله “تأليف بثمانية مستطيلات حمراء” من العام 1964 هي نوع من البعثرة لمستطيلات حمراء مشرقة يكرّم فيها الحداثي الروسي ماليفيتش باستخدامه عنوانا مماثلا تقريبا لعنوان لوحته: “ما ورائيةٌ بثمانية مستطيلات حمراء” تعود للعام 1915. لكنّ مرجعيات الإرث الماليفيتشي تتواصل: مستطيلات الفنان الروسي هي بصفة رئيسية متطاولة، بينما تميل مستطيلات بلينكي باليرمو إلى أن تكون دائرية، الأمر الذي يعني استحضار اللوحات التجريدية الرائدة لماليفتش من دوائر منفردة سوداء وحمراء وبيضاء اللون، بينما ترتيبها في المعرض يستحضر الأعمال الفوتوغرافية المعروفة جيدا لماليفتش؛ تلك التي تصوّر الأعمال التجريدية الهندسية صغيرة الحجم لمالفيتش التي كانت أشبه بنقاط في زاوية المعرض الأخير للمسقبلية الروسية في سان بطرسبورغ في العام 1915. في “جسر أزرق” من العامين 1964 و1965، جسر مخطّط بأزرق ـ أسود يمتد من الحافة إلى الحافة عبر حقل من الأحمر اللامع؛ يقوّضُ عنوانُها أسماءَ مثل “الراكب الأحمر، و”الجسر” اللذين هما اسمين لمجموعتين من الفنانين استُهِلَّتْ بهما التعبيرية الألمانية، وبالتالي لوحة الحداثة الألمانية. في منتصف الستينات، عندما ابتعد بلينكي باليرمو عن السطوح التصويرية المستطيلة المألوفة، أخذ الشعر الإدراكي الحسي بالتكاثر في عمله الفني. لوحة “طوطم بلا عنوان” هي ببساطة شريط عمودي من الخشب، حجمها يبلغ الأقدام السبعة طولا بإنشين عرضا، رُسم عليها البرتقالي منقّطا، مثل سُلّم بدائي، بخمس قِطَع قصيرة وأفقية على سطح تصويري من الخشب المُلْتفّ رُسِمَ كلُّه بالأبيض مع جزء من مثلث أزرق. حيث حركة السير المقترحة تجريديا تجعل من الخط المركزي للطريق السريع ينقلب إلى حائط في مشهد طبيعي. “حلم يوم 1”، اللوحة مزدوجة اللوحين ذات الطابع الغرائبي، تتأمل حياةَ أشكالِ التجريد ـ وأيضا على نحو هيِّن، تلك الأشكال المستقرة على السطح التصويري أو المتحررة منه ـ بمثلث أخضرَ مسودٍّ مرسوم بالأساس على سطح تصويري صغير الحجم وضارب إلى الحمرة ويتوسَّدُ قطعتين مشدودتيْن، بتماثلٍ، بواسطة مثلث أخضر مسودٍّ ذي حجم معيَّن صُنِع من خشب مطليّ. عند نهاية العقد الستيني استلهم الفنان “إفعلها بنفسك” من مجموعة الرسوم المثقوبة (Stencil Kit) التي بوسع الناس شراءها والقيام بصناعة ما امتلكه بلينكي باليرمو من مثلثات بالأزرق؛ كانت في متحف هيرش هورن عند المدخل إلى المعرض. عاش بلينكي باليرمو وعمل في مدينة نيويورك، أولا، في منتصف السبعينيات، وبعد عودته من ألمانيا العام 1976 بدأ نوعا جديد من العمل الفني: بيئي وعلاوة على ذلك هي قطعة متعددة الأجزاء القابلة للنقل حمل العنوان: “إلى أهل مدينة نيويورك” المملوكة لديا آرت فاونديشن وفي كثير من الأحيان تُعرض في ديا بيكون في نيويورك، وتتألف من أربعين لوحة صغيرة بعض الشيء من الرقائق الخشبية بتوافقات من الأحمر، والأسود، والذهبي ـ ألوان علم ألمانيا الغربية (والآن هي ألوان علم ألمانيا الموَّحدة) ـ وقد تمّ ترتيبها في مجموعات مختلفة. لقد خلق الفنان توازنا بين ألمانيا وأميركا، إنه عمل فني غامض وفضلا عن إشاراته الضوئية الطباقية المتألقة يتركك مندهشا مما سوف يتبع هذه الدهشة، فلقد منحه بلينكي باليرمو أكثر من اثنتي عشرة سنة مكتملة من سنوات النضج.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©